من مذكرات الملك فاروق.. الإبحار إلى نابولي (6)

تنشرها: فريدة شعراوي | باحثة في التاريخ والمصريات

يكتب الملك فاروق: أبحر جدي الخديو إسماعيل إلى نابولي عام 1879 منفياً أيضاً ومنحته الحكومة الإيطالية قصراً وبعض المخصصات الملكية. وعندما قدم فيكتور عمانويل ملك إيطاليا إلى مصر منفيا ، وضعت تحت تصرفه قصر انطونيادس.

فنابولى هى مدينة الملوك المخلوعين، إضافة إلى إننى قررت السفر بالمحروسة، وهى نفس السفينة التى أقلت جدى، وهكذا استبعدت فكرة السفر بالطائرة، فمن السهل إسقاطها أو تفجيرها، ويقينى أن فكرة سفرنا أحياء لن تتوافق مع الآراء المتطرفة، وكنت أعلم أنهم سيلومون نجيب بشدة لضعفة وتخاذله، ولن يمضى وقت طويل وسيعيدون كل حساباتهم بشأننا، وصدق حدسى.

في الليلة الأولى راودتني فكرة إظلام المحروسة تماماً، ولكنني أدركت أنني أخدع نفسي وأثير القلق والخوف بلا داع، فأي رادار يمكنه التقاطنا من أبعد المسافات فاستبعدت هواجسي، فإذا كانوا ينوون بالفعل مهاجمة المحروسة بالطائرات فلماذا انتظروا عتمة الليل. إضافة إلى أن اصطياد السفن ومهاجمتها بالطوربيد هي الطريقة المألوفة لتدمير السفن.

وفي النهاية قررت التشاور مع قائد السفينة وقررنا تغيير خط السير المعتاد إلى نابولي ويا لها من ليلة موحشة، والغريب وكما يحدث دائما فقد نمت جيدا فى تلك الليلة، لكن أعود فأذكر شيئا هاما، فقبل صعودنا إلى السفينة بخمس ساعات تسللت سفينة مدفعية رمادية لديها تعليمات محددة بنسف المحروسة والادعاء بأننى أصبت بالجنون، فقمت بتفجير المحروسة، حتى فى لحظة اغتيالى سأكون الملام أيضا.

وفيما بعد علمت أن الكثيرين تساءلوا باندهاش لِمَا استغرقت المحروسة ثلاثة أيام فى عرض البحر لكى تقطع المسافة القصيرة بين الإسكندرية ونابولى خاصة أنها سفينة سريعة، ولعلهم يحظون الآن بالإجابة الشافية فنحن لم نضيع وقتنا فى اللهو أو مداعبة حوريات البحر، ولكننا قضينا الشطر الأكبر من الليلة الأولى فى الإبحار بأقصى سرعة فى اتجاه خاطىء.

 وقد علمت أن أحد أفراد الطاقم قد عبث بالرادار متعمدا حفاظا على حياتنا، ولكننى لا أملك يقينا يؤكد صحة هذه الرواية وإن كنت أعلم جيدا مدى ولاء البحرية وإخلاصها لى، لذا فأنا أقول إن رحمة الله الواسعة بالأطفال الصغار هى التى انقذتنا جميعا.

تولى ” علوبة بك ” قيادة المحروسة بعد أن أمره نجيب بمرافقتي إلى أول ميناء إيطالي والعودة مرة أخرى بالمحروسة التي لم تكن ملكي في يوم من الأيام، فقد تم بناؤها في عهد جدي إسماعيل، وتملكها الحكومة المصرية وصدرت الأوامر المشددة لعلوبة بأن زوجته وعائلته بأكملها سيتم احتجازهم كرهائن في وضع غير مريح لحين عودته!.

والتزم جميع العاملين بالمحروسة بالتعليمات السالفة التي تحتم عودتهم، وفي عرض البحر اكتشفت وجود كمية كبيرة من صناديق الخمور، فاستفسرت عن سبب وجودها وعلمت أن أحمد علي وهو رجل تخطى السبعين كان مسؤولاً عن الخمور منذ عهد والدي قام بتفريغ مخزن الخمور في قصر الإسكندرية تماماً ووضعها على ظهر السفينة.

 وقال إنه يفضل أن يموت ولا يلمس أحد شيئاً من هذه الصناديق فكانت هذه الواقعة تحديداً هي البؤرة التي تشعبت منها أسطورة الصناديق الكثيرة المملوءة بسبائك الذهب التي سافرت بها على متن المحروسة.

 هنا أريد توضيح شيء مهم للقارئ الأوروبي فطبقاً لقواعد البروتوكول فنحن نقدم الخمور لضيوفنا في مآدبنا الرسمية وحفلات الاستقبال التي ندعو فيها الدبلوماسيين الأجانب، ولكن المصريين بصفة عامة لا يشربون الخمور لأسباب دينية، ولكن ذلك لا يعني تقصيرنا في واجبات الضيافة، ففي كل الصور الفوتوغرافية الخاصة بالمآدب الرسمية تظهر كؤوس الخمر في أماكن ضيوفنا الأجانب وفي أماكننا نحرص على وضع كأسين إحداهما للماء والأخرى لعصير الفاكهة.

 وفيما بعد ترامت أطراف قصة هذه الخمور حتى قيل إن الأوامر صدرت بإنزالها، والحقيقة أننا لم نُنزل أي شيء وعندما وصلنا إلى إيطاليا بعت الخمور كلها لأنها كانت ملكاً لنا.. أما المفاجأة الكبرى فهي اكتشافنا عدم وجود الطعام الكافي باستثناء الخبز والجبن وكان يكفي وجبة واحدة لكل منا في اليوم فسألت بناتي متى يمكننا تناول هذه الوجبة؟ واتفقن على تناولها في العشاء لكي نظل نتطلع إليها طوال اليوم، وعلقت ناريمان قائلة: ربما كان ذلك أفضل لنا وعزاؤنا أن الصحف لن تتحدث مثلاً عن حفلات السكر التي أقمناها وآثار علب الكافيار والشامبانيا التي تركناها فرددت: لا يزال أمامك الكثير لتتعلميه، فهم سيقولون ذلك بدون شك بطريقة أو بأخرى، وهو ما حدث بالفعل؛ بل إن البعض أضاف إننا قمنا بتجويع طاقم البحارة البؤساء بينما أتخمنا أنفسنا، فمن تطارده الصحافة لا يكسب أبدا، فإذا لعب الكوتشينة فهو مقامر وإذا ربح فهو غشاش وإذا خسر فهو أحمق وإذا رفض اللعب فهو كئيب عابس، ولم يكن أمامنا بديل للخروج من هذه الأزمة إلا الضحك فكنا نضحك على كل شيء في هذه الرحلة فشر البليّة ما يضحك.

 كما إن الجو كان رائعا وصافيا فلا توجد رائحة طهو، فليس لدينا شىء نطهوه، وفى اليوم التالى وقفت منتعشا على سطح السفينة وتحدثت مع كبير المهندسين وهو رجل أيرلندى فقلت له: إنه يوم جميل حقا ياهوران، فرد بحماسة وصدق: نعم ياسيدى إنه جو ملكى فليباركه الله!!

 ولاتزال هذه العبارة عالقة بذاكرتى التى انطبعت فيها أيضا صورة أحد أفراد الحراسة وهو يلاعب ابنتى الصغيرة فادية ويمازحها لإدخال السرور إلى قلبها الصغير، إنهم نوع غريب من البشر يتصفون بصفات تفوق أي أوسمة أو مديح ، خاصة إننى أصبحت لا أملك ممن أرى شيئا ولا أملك حيالهم إلا العرفان والتقدير والامتنان. انتهى كلام الملك فاروق.

بعد العودة من تلك الرحلة بفتره وجيزة تلقى الاميرالاى جلال علوبة أمرا ينص على قيامه بإجازة إجبارية ، وبعدها بثلاثة شهور صدرت النشرة العسكرية التى أحيل فيها إلى التقاعد. وقد توفى الاميرالاى جلال علوبة فى 18 مايو سنة 1999 بالإسكندرية، ودفن بمدافن الأسرة بالقاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى