ثلاثون عاما من العلاقات الروسية الإسرائيلية
د. جمال زحالقة | فلسطين
احتفلت إسرائيل، وإلى حد ما روسيا أيضا، بمرور 30 عاما على تجديد العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بعد أن جرى قطعها في أعقاب عدوان حزيران/يونيو 1967. وفي هذا السياق عقدت عدة مؤتمرات سياسية بحثية، وكتبت مقالات كثيرة لشخصيات روسية وإسرائيلية من بينهم، سفراء سابقون وقيادات سياسية، برز بينها مقال وزير الخارجية الروسي في صحيفة «يديعوت أحرونوت». وطغت على المداولات والخطب والمقالات أجواء من الرضى والارتياح لمسار تطوّر العلاقات خلال العقود الثلاثة الماضية، والتقييم الإيجابي لحالتها الراهنة، من حيث الأهميّة ومن حيث قوّة الارتباط وعمق التفاهمات.
تواصل هذا الاحتفاء بازدهار العلاقة بين روسيا وإسرائيل، مدة ثلاثة أشهر، وافتتحه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بمقال خاص في «يديعوت أحرونوت» أكثر الصحف الإسرائيلية انتشارا، طرح فيه الأبعاد العلنية للموقف الروسي، وفي مركزها الالتزام بأمن إسرائيل حيث جاء في مقاله: «نحن معنيّون في مواصلة التشاور مع شركائنا الإسرائيليين في قضايا الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط. نحن نعطي انتباها خاصا إلى أن الحلول الشاملة لمشاكل الشرق الأوسط يجب لزاما أن تأخذ بالحسبان المصالح الأمنية الإسرائيلية. هذه مسألة مبدأي».
وواصل معظم المسؤولين والمحللين الروس الذين شاركوا في الندوات والأيام الدراسية، التي أقيمت في الجامعات والمؤسسات البحثية الإسرائيلية، وعلى سبيل المثال في الندوة الخاصة بالعلاقات الروسية الإسرائيلية، التي عقدت مؤخّرا في جامعة بئر السبع، عاد سفير روسيا في إسرائيل وأكد التزام بلاده بأمن إسرائيل.
لم يأت هذا الالتزام غير المشروط بصيانة مبدأ «أمن إسرائيل ومصالحها الأمنية» من فراغ، بل هو تتويج لمسار استمر ثلاثة عقود منذ عودة العلاقات بين البلدين في أواخر عام 1991، عشية تفكيك الاتحاد السوفييتي والإعلان عن الفيدرالية الروسية. صحيح أن كل المسؤولين الروس، وفي كل المناسبات، يؤكّدون على موقف روسيا التاريخي في الشأن الفلسطيني، المستند إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة في حدود 1967، وإلى الشرعية الدولية عموما، إلّا أن روسيا ليست مستعدّة للضغط على إسرائيل أو على غيرها بهذا الشأن، وإذ تحاول القيادة الفلسطينية إقناع روسيا بإعادة إحياء «الرباعية» وروسيا تقتنع بسهولة، لكنّها بدورها ليست قادرة على إقناع إسرائيل والولايات المتحدة. وحين طرح الروس القضية الفلسطينية أمام بنيامين نتنياهو أجابهم بحزم: «هذا موضوع يخص الأمريكيين وحدهم. لن نقبل تدخّل طرف آخر به». تمضي روسيا في تطوير علاقاتها مع إسرائيل أكثر فأكثر، في ظل تهميش القضية الفلسطينية دوليا وعربيا أيضا، فهي ببساطة لا ترى أنّها ستكسب في علاقاتها العربية، إن هي زادت في دعمها للشعب الفلسطيني. أكثر من ذلك هناك خيبة أمل كبيرة في روسيا من فشل مسعاها للوساطة بين فتح وحماس والجهاد الإسلامي، وهي أيضا محبطة من إخفاقها في تحقيق المصالحة «الصغيرة» مع محمد دحلان، وإعادته إلى حركة فتح. وفي ظل اليأس من الحالة الفلسطينية، يصبح إقناع روسيا بعدم جدوى النبش فيها تحصيل حاصل، لكن مهما كانت الدوافع والمسببات والأهداف، فإن روسيا في السطر الأخير تدفع الضريبة الكلامية لفلسطين، وتبني التعاون الفعلي مع إسرائيل، وبالتالي تساعدها بشكل مباشر وغير مباشر في مواصلة الاحتلال، وفي استمرار التنكر لحقوق الشعب الفلسطيني.
في السطر الأخير، لا يؤثّر الاختلافَ في الموقف من الاحتلال والدولة الفلسطينية خلافٌ يذكر بين إسرائيل وروسيا، وهو وإن كان لا يؤثّر في العلاقات بين البلدين. لكن كيف تستطيع روسيا المحافظة على علاقات متميّزة مع إسرائيل من جهة، ومع أعدائها مثل إيران وسوريا وقوى أخرى في المنطقة؟ كيف تستطيع روسيا فعل ذلك وعلاقاتها مع إيران وسوريا هي من الوزن الثقيل والثقيل جدّا؟ يكمن الجواب في السياسة الروسية البراغماتية في بناء علاقات مع جميع الدول، بغضّ النظر عن نظامها وحتى عن سياساتها، وذلك في إطار المصالح والمحافظة على الأمن القومي. ويكمن أيضا في مسعى توسيع دور روسيا كدولة عظمى، لها مكانتها وتأثيرها وحتى سطوتها في السياسة الدولية. ومن هذا المنطلق ترى روسيا في علاقاتها بإسرائيل نقطة قوّة، وليس نقطة ضعف، في تعاملها مع الأطراف الأخرى في المنطقة. أمّا إسرائيل فهي تسعى للتفاهم مع روسيا في الشأن الإيراني والشأن السوري، بما يتماشى وسياساتها وممارساتها في الأرض والجو والبحر.
مقارنة مع عام 2020، تضاعف في السنة الماضية عدد المواقع، التي قصفتها إسرائيل في سوريا، ووصلت إلى 57 موقعا (إيران 48، سوريا 8، حزب الله 1) ولم يؤثّر ذلك بتاتا في العلاقات مع روسيا، التي تواصل تطورها حجما ونوعا. وتقوم إسرائيل بغاراتها وفق التفاهم القائم مع روسيا، بإبلاغ مسبق حول كل غارة، حتى لا تمس مواطنين أو عسكرا من الروس. وقد أشار أكثر من مسؤول وباحث إسرائيلي في الأسابيع الأخيرة إلى أن روسيا راضية عن هذه الغارات، ومعنية بها للحدّ من توسّع الوجود الإيراني في سوريا. إن المعنى الحقيقي والعيني والمباشر للالتزام الروسي بحفظ المصالح الأمنية الإسرائيلية في أي حل شامل، هو تعهّد بإخراج إيران من سوريا في إطار إعادة بناء النظام والدولة السورية، الذي تسعى إليه روسيا. وفي الأسبوع الماضي، صرّح الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي مئير بن شاباط، بأنّه وفي لقاء مستشاري الأمن القومي في إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة، الذي جرى عام 2019، تم التفاهم على الأسس المبدئية للحل في سوريا، وأوّلها، حسب قوله، إن الحل ينطلق من اتفاق روسي أمريكي، وثانيا إلى انسحاب جميع القوّات الأجنبية، التي دخلت سوريا بعد 2011 (وحين سئل عن الجولان، أجاب بأن الموضوع لم يطرح بالمرّة). ودعا بن شاباط إلى عقد مثل هذا اللقاء مجدّدا، ويبدو أن روسيا معنية به، كما رشح خلال لقاء وزير الخارجية الإسرائيلي يئير لبيد، بنظيره الروسي سيرجي لافروف. ويبدو أيضا أن الإدارة الأمريكية ليست معنية حاليا بمثل هذا اللقاء وتفضّل مسارات أخرى.
أمّا في الملف الإيراني فإن روسيا أقرب إلى الموقف الأوروبي، وتريد العودة إلى الاتفاق النووي السابق بلا تغييرات، خشية أن تؤدّي محاولات التعديل إلى انهيار بنية الاتفاق. هذا من الناحية الرسمية، إمّا عمليا فإن روسيا ترى في إيران قوّة مهمّة في مقاومة النفوذ الأمريكي، ومركّبا مركزيا في معسكر الدول المناهضة للهيمنة الأمريكية. وتعتبرها أيضا شريكا اقتصاديا وعسكريا وازنا، لا تستطيع ولا تريد روسيا التخلي عنه.