وصفة إبداعية للشفاء من داء الحزبية
توفيق أبو شومر | فلسطين
في بداية ستينيات القرن الماضي، كنت في الصف الثالث الإعدادي، كان معلمونا يَجدُّون في ترقية عقولنا وتثقيفنا، لا بالحشو والمحفوظات كما يحدث في مدارسنا اليوم، بل بالفهم والتوعية، وهذا هو جوهر التعليم الحقيقي، وغاية النظام التعليمي والتربوي.
كانوا يُحببوننا في المنهاج، وبخاصة في اللغة الإنجليزية، فقد كانوا يهتمون بتدريسنا اللغة الإنجليزية، بواسطة الروايات الممتعة، مثل الرواية العالمية الرائعة، (الأرض الطيبة) لبيرل بك، وكانت الروايات العالمية ضمن مقرراتنا في المرحلة الإعدادية، مثل، أجزاء من رواية (ثلاثة رجال في قارب) للروائي، جيروم سيغال جيروم، ورواية (رحلات جليفر) لجونثان سويفت، وهو الكاتب الإيرلندي الرائع المولود 1667 والمتوفى 1745 والتي ما تزال بعضُ قصصها الخيالية عالقة في ذهني حتى اليوم.
قررتُ أن أقوم بمغامرة، وأنا على أبواب السبعين من عمري، وذلك بأن أُعيد قراءتها من جديد.
كنتُ أعلم أن كاتبها، جونثان سويفت، المولود في دبلن بإيرلندا، كان مريضا، مصابا بالتهاب الأذن والعين، حتى أن عينه تكوَّرت، وخرجت من محجرها كبيضة، وكان هو على مشارف الجنون، وكانت أسرته تراقبه باستمرار حتى لا يؤذي نفسه، فيقوم بقلع العين بإصبعيه!
جونثان سويفت، المبدع المجنون، كتب (رحلات جليفر).
جليفر، بطل الرواية، طبيبٌ، عاش حياتين متناقضتين، فقد ألقته الأمواج بعد أن تحطمت سفينته، مرة في بلاد الأقزام، حيث متوسط طول الفرد خمسة عشر سنتمترا، ومرة أخرى ألقته الأمواج في بلاد العمالقة، فجرب أن يكون عملاقا، وقزما في وقتٍ واحد!
عثرتُ في الرواية بعد قراءتها الجديدة على نصٍ ساخرٍ رائع، لم أكن قد أوليته أهميةً في مرحلة دراستي الأولى، ولم يُشر إليه مدرسونا، لأننا لم نكن وقتها نعاني من (مرض الأحزاب)!!
والنص وصفة طبية ساخرة، لإشفاء رجال الأحزاب السياسيين من (داء الحزبية) أو مرض التحزُّب!
فهو يقول: (لإشفاء رجال الأحزاب من مرض الحزبية، علينا جمعَ مائةٍ من كل حزب، ويُصفُون في أزواج متقابلين، وتُقاس رؤوسهم، ثم يُوضعُ المتشابهون في حجم الرؤوس ، كلُّ زوجٍ على حدة.
يُستعان بجراح ماهر، يقوم بشق رأس كل زوج من الحزبين المتناقضين، بنشر الجمجمة، ثم يجري تبادل أنصاف أقسام المخ بين الأحزاب، فيوضع نصفُ كلِّ مخٍ على رأس المنافس الحزبي، وهذا يتطلب دقة فائقة من الجرَّاح، غير أن الشفاءَ مضمونٌ من داء الحزبية، والنتيجة، قاسم مشترك من التفاهم المعقول بين الطرفين!
ويضيف في قولٍ ساخرٍ آخر:
إن رجال الأحزاب يعتقدون بأنهم أُرسلوا إلى البشرية لمراقبة العالم، والتحكم فيه!!
ويقترح جونثان سويفت، في مناسبة أخرى، لكشف المتآمرين، وذلك بتحليل برازهم، لأن الناس لا يكونون مفكرين وجادين، إلا حين يتبرزون!!)
انتهى الاقتباس
بعد مرور أربعة قرون على رواية الكاتب، فإن جملته التي لم تُثر اهتمامي في الصِّغر، تلخص معظم أفكار الأحزاب في عالم اليوم:
” فرجال الأحزاب يظنون، أنهم أرسلوا للبشرية هداة مبشرين، لذا فإنهم يتصرفون وكأنهم مالكو زمام الكون”
فهل كان جونثان سويفت مصيبا في تشخيص مرض الحزبية؟