الشهرة…

محمود مخلوف | مصر

وتبقى الشهرة سِجْفًا سميكًا مُسْدَلًا على العقول يَحْجُبُها عن التدبر فيما يَصْدُرُ من صاحبها، فيتحول إثر ذلك إلى شخص غير قابل للنزاع أو المجاذبة، ويزيد من استفحال ذلك فِئتُه المحيطةُ به المتعصبةُ له، فتُغلِّفُه بطَبَقة كَلْسيةٍ صُلبة تمنع من نقضِه أو هدم سَقَطِه، فلا تأخذ فيه مَعاوِلُ الحقِّ والفكر الصائب.
والشهرةُ بحقٍّ أداةُ إعاقةٍ في إدراك كُنه الأشياء بالنظر المجرد عن الأهواء، ما يجعل الانعتاق من فلك التبعية أمرًا شبه مستحيل، فلكل مشهورٍ كعبة، ولكل كعبة طائفون، غير أن لبيتِ اللهِ طَوَافًا مَعْلومًا وقدرًا معلومًا، وطواف هؤلاء لأولئك دائمٌ لا ينقطع، بذِكْرِهم يُدَنْدِنونَ، ومن التَّعَصُّب لهم لا يَفْتُرونَ.

ظلت هذه المشكلة مؤرقةً لشيخنا شاكر عطَّر الله ثراه، حتى أصبحت تتراءى له في كل حادثة شبيهة بحادثته مع شيخه وأستاذه طه حسين التي لَفَحَه حَرُّها وعانى في حياتِه أُوارها، فقد كان الشيخُ ملءَ السمع والبصر، ذائعَ الصِّيت، مَسْموع الكلمة، وشاكرٌ ذلك التلميذ المغمور، والناس ـ كما هو مُشاهَد ـ معيارهم في التحاكُم ذُيوعُ الصيت وعُلو الذِّكْر، لا الحق فيدورون معه حيث دار بغض النظر عمن يصدر.

ما دفعني لهذه التَّقْدِمة ما قرأتُه في مقدمة «دلائل الإعجاز» لشيخنا شاكر نقلًا عن شيخ البلاغيين عبد القاهر وهو قولُه: «واعلَم أن القولَ الفاسدَ والرأيَ المَدْخولَ، إذا كان صَدَرُه عن قومٍ لهم نَباهة وصِيت وعلوُّ منزلةٍ في نوعٍ من أنواع العُلوم غيرِ العلم الذي قالوا ذلك القولَ فيه، ثم وقَعَ في الألسن فتداولته ونَشَرته، وفشا وظَهَر، وكثر الناقلون له والمشيدون بذكره= صار ترك النظر فيه سُنة، والتقليد دِينًا … إلى إن قال: ولولا سلطانُ الذي وصفتُ على الناس، وأن له أُخْذَة تمنع القلوب عن التدبر لما كان لهذا الذي ذهب إليه القومُ في أمر اللفظ هذا التمكن وهذه القوة … إلخ كلامه».

وهذا ما جَعَل الشيخَ يقف على هذه العبارة متسائلا: مَن يكون هؤلاء القوم الذين لهم نَباهة وصيت وعلو منزلة في نوع من أنواع العلوم غير علم الفصاحة الذي قالوا ذلك القول فيه وتداولته الألسن ونشرته حتى فشا وظهر وتمكنت أقوالهم المدخولة هذا التمكن ورسخت في النفوس هذا الرسوخ … مع ما فيها من التهافت والسقوط وفحش الغلط؟

لقد نكأ ما قاله الجرجاني جُروحَه القديمة فاستدعى في ذاكرته ما كان منه مع شيخه وعدم إنصات الجميع له في نقض قضية انتحال الشعر التي نقلها طه حسين عن مرجليوث ناسبًا إياها لنفسه مع بيان فسادها وجلاء بطلانها، فأخذه الشغف متسائلا: مَن هذا يا عبدَ القاهر الذي اعترضتَ على فسادِ قولِه ولم يلتفت إلى رأيك فيه أحد؟!! فإني عانيتُ ما عانيتَ وتألمتُ به كما تألمتَ؟!
لقد ظل هذا الأمر عالقًا ببال شيخنا شاكر مدة قاربت الثلاثين عاما، يريد فيها معرفة مَن هذا الذي يُعرِّض به عبد القاهر في كلامه دون إفصاح، وفي ذلك يقول شاكر: وفَتَّشْتُ ونَقَّبْتُ، فلم أظفر بجوابٍ أطمئن إليه، وتناسيتُ الأمر كله إلا قليلًا نحوًا من ثلاثين سَنةً.

وكانت إجابة سؤاله بعدما طبع الجزء السادس عشر من كتاب المغني للقاضي عبد الجبار إمام أهل الاعتزال في زمانه، المتضمن فصولا في إعجاز القرآن وسائر المعجزات الظاهرة لنبينا محمد عليه السلام، وبقراءته له تبين أن الشخص الذي عَرَّض به عبد القاهر إنما هو القاضي عبد الجبار، وفي ذلك يقول شاكر: «فلما قرأته ارتفع الشك وسقط النقاب عن كل مستتر».

وزاد من يقيني إلى ما ذهبت إليه من أن حادثة شاكر مع طه لم تفارق باله يوما ما، ما انضم إلى ما ذكرنا مما ذكره الطناحي في مقالاته عن شيخه شاكر في تحقيقه لتفسير الطبري وذلك عندما وازن شاكر بين شرحين لأبي جعفر الطبري والجاحظ لبيت من شعر الكُمَيْت، ولم يرض تفسير الجاحظ له، وقدَّم تفسير الطبري عليه ونقد الجاحظ نقدًا مُرًّا، وقال:

«من شاء أن يعرف فضل ما بين عقلين من عقول أهل الذكاء والفطنة، فلينظر إلى ما بين قول أبي جعفر في حسن تأتيه، وبين قول الجاحظ في استطالته بذكائه … إلى أن قال: ومع ذلك فإن النُّقاد يتبعون الجاحظ، ثقةً بفضله وعقله، فربما هجروا من القول ما هو أولى، فتنةً بما يقول».

فانظر إلى محاربته تلك الفكرة فكرة الاتكال على الشهرة في كل ما يعرض له من حدث فيقف لها بالمرصاد محطما إياها بالنظر المجرد بعيدا عن هيمنة الصيت وعلو الذكر..!!

ثم إنه ازداد يقيني أكثر فأكثر بما قرأته على صفحة شيخنا العلامة سعد مصلوح نقلًا عن الشيخ شاكر رضي الله عنه في مقالة له في تاريخ النحو نُشِرت في مقدمة «شرح الأشموني» يقول رحمه الله فيها: «اعلم أنَّ النابغة يملكُ قوَّة مُدبِّرة مُصرِّفة لا يُقاومها شيءٌ، تغلب الناسَ من أهل عصره أو بعد عَصرِه، على هواهم، وتجري بهم من مَذاهب المعاني والألفاظ والأساليب والعلوم بتصريفٍ عجيب وتدبيرٍ غريب، حتى تصلَ بهم إلى غايةٍ منصوبة، ولا يملك أحدٌ عن ذلك معدلًا ولا محيصًا، فكان عقلُ النابغة من هؤلاء بمنزلة المُوحَى إليهم يُلهِمهم بما يُسِّرَ؛ فلا يجدون بُدًّا من التصرُّف معه إلى غايةٍ لم يكونوا انتهَضُوا لها ولا أرادوها، وتلك هي العلَّة في أنَّ الناس يعتنون برجلٍ منهم كبير العقل صافي النَّفس قوي الأثر؛ حتى يُصبح خطؤه الكبير فوق صَواب الناس، فيَأخُذون به مُسَلَّمًا، ثم إذا عُوتِبوا فيه أخَذوا يُولِّدون له كلَّ علَّةٍ من كلِّ شيء، ولا يَرَون في كلِّ علةٍ إلا صوابًا فوق الصواب، وحقًّا يعلو على كلِّ حقٍّ: حتى يأتي العصر الذي يشرق فيه عقلٌ آخَر يزيفُ ما صحَّحوا؛ فيصرفهم عمَّا كانوا فيه من عماية وضَلالٍ، وهذا مرض قديم في العقل الإنساني، لم يبرأ منه مرَّة واحدة على مَدارج التاريخ كلها».

والناظر بعين المتأمل سيجد علائق وثيقة بين النقول الثلاثة التي ربطت بينها وقيلت في مواطن متفرقة وأزمنة متباعدة، لكن كلها تصب في رُجحان كِفَّة ما ذهبتُ إليه واشتممته في تأريق ذلك شيخنا في كل حادثة تطابق حادثته حتى أصبح التصدي لها هِجِّيراه في كل محفل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى