الكتابة

د. خضر محجز | فلسطين
ـ1ـ

قلب يمتلئ حياة ويزدحم بالتعب الجميل.

قلب يفرك عينيه، ويحتسي فنجان قهوته، هازئاً من نصائح الطبيب، ثم يكتب مع كل دقة من دقاته.
تتسارع الدقات فيرتفع صراخ الكلمات..

يسمع الدقات مَلَكٌ طيبٌ يمر من تحت النافذة، فيقول في نفسه: ربما كان هذا القلب متعباً، لكنني أعرف أنه قلب يستحق المزيد من الجمال..

يهدهد الملك عيني القلب ويمنحهما هنيهة نوم هادئة.

بعد هنيهة أخرى يصحو القلب وقد ازداد بهاءً:

شكراً أيها المَلَك الجميل، لكن الوطن ينتظر.

ينظر إلى الأوراق فيراها تبتسم.

يخرج إلى الحمام ليرش وجهه بقليل من الماء، ثم يعاود الانكباب.

يطلع الصباح، فتقول له الشمس: شكراً أيها القلب المتعب.

أيتها السيدة، ليس لدى القلب متسع من الوقت ليرد التحية، فالوطن في الانتظار.

ـ2ـ

إذا لم تملك القدرة على الانفعال بأي من كل هذا القبح أو الكآبة، فلا تكتب.

إذا لم تتوثب روحك، فترغمك على أن تقاتل، حتى قطرة الدم الأخيرة، كل هذا الجشع والقسوة، فلا تكتب.

إذا لم ينتفض جسدك شهوة للمرأة، واكتفيت بالبصبصة من ثقب مفتاح الباب؛ فلا تكتب.

إذا لم تلهبك بسياطها أنّاتُ المعذَّبين من حولك، من الذين لا يستطيعون الكلام، فيبتلعون حقدهم أملحَ من طعم الدم في الأفواه، فلا تكتب.

إذا كنت تخشى فقدان احتمال أن يرضى عنك كلبٌ، قد تحتاجه يوماً، فلا تكتب.

إذا كنت لا تستطيع الموت ألماً، أو حزناً، أو حباً، أو حقداً، فلا تكتب.

إذا كنت لا تؤلم اعداءك، ولا تغيظ حسادك، ولا تسر أحبابك، ولا تغار من نظرات المنافسين لصدر حبيبتك، فلا تكتب.

إذا كانت حبيبتك عمشاء، أو ضامرة الصدر، أو جاحظة العينين، ثم طلبت منك أن تتغزل فيها، فلا تكتب.

إذا عشقت امرأة جميلة كصفحة السماء، ثم وصفتها بكلمات كمزابل البلدية ــ عند سوق اليرموك ــ فأثابتك بأن أطعمتك خراءً طازجاً، وسألتك عن طعمه، فلا تكتب.

إذا أردت اتباع الوصايا، وحرصت على شمشمة أعطاف الذين لا يحبون شيئاً كالنساء، ثم ينكرون ذلك مثل كلاب مفقوءة الأعين، فلا تكتب.

وأخيراً، إذا لم يكن لديك حب ينهش قلبك بصمت ــ على طول العمر ــ ثم لا تتمنى البرء منه، فلا تكتب.

إذا لم يكن لديك شيء من كل ما سبق، فاذهب لتهز ذيلك للملك، وإياك أن تفكر في أن تخطب إليه ابنته.

لكنني أعرف في غزة كثيراً من أمثالك.

ـ3ـ

البعض يحاول أن يكتب رواية لا تغضب أحداً، ولا تنتهك قارّاً، ولا تتعرض لمحاسن المرأة، ولا تتناول الجنس أو العشق، ولا تنتقد واقعاً، ولا تسخر من أحد، ولا تنحاز لأحد، ولا تعادي أحداً، ولا ترفع أحداً فوق، ولا تخفض أحداً تحت…

لهؤلاء أقول: لن تنجح.. لن تنجح مطلقاً، لأنك لم تُخلق مبدعاً، لقد خُلقت باحثاً عن لقب تقتنصه، يموت بموتك، أو حتى قبل ذلك بكثير.

الكتابة وهجٌ.. نارٌ.. لظىً.. تحدٍ للجمع.. لكمةٌ في فكّ كل من لا يعجبك وجهه.. بصقةٌ في وجوهٍ صفيقةٍ كثيرةٍ شائهة وقوية.. غضبٌ يدور مدمدماً في الكون.. زوابعُ تقتلع كل قبيح.. نشوةٌ مكبوتةٌ تنفجر.. شهوةٌ تترقب الوقت المناسب..

الكتابة امرأةٌ تلتفت فتلتفت معها الأزاهير.. تخلع ثيابها، فيقف الكون على رؤوس أصابعه، وتنظر إليك خلال ذلك لتزيد من جنونك.. تبتسم فتتذكر ثدي أمك، فتوشك على البكاء.

الكتابة لا تترك لك صديقاً، وتخيف منك الكثيرين، وتجعلهم يخفون عيوبهم عن عينيك، فيما أنت تغوص فيما وراء أقنعتهم، لتهتك زيفهم المستور..

إذا لم تكن قادراً على كتابةٍ تقارب هذا، فلا تكتب يا صديقي، خسارة على الوقت والورق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى