قراءة في كتاب (الخطاب الشعري على فيس بوك) للزراعي

أ.د. عبد الرحمن بن حسن المحسن | السعودية 

حين طلب إلي الصديق عبدالعزيز الزراعي كتابة رؤيتي عن كتابه المهم (الخطاب الشعري على فيس بوك) لم أجبه عن طلبه حتى قرأت الكتاب، فوجدته إضافة مهمة للرقمية الأدبية. وقد وجدتها فرصة سانحة أن اطلعت على تجارب شعرية لشاعرات وشعراء من شباب اليمن تستحق تحاربهم الرقمية المقاربة والاهتمام.


نحن نعيش في عمق ما سماه جيريمي ريفكين (الثورة الصناعية الثالثة)، وما تمخض عنها من ثورة رقمية، بدأت مبكراً مع ظهور أجهزة الحواسيب وتطورت بتقنيات الإنترنت والتكنلوجيا الرقمية، وهي رقمية تطورت مع مطلع هذا القرن وتوثقت صلتها بالأدب المكتوب منذ ظهور تقنية sms على يد نيل بابورث. ورغم التطور الرقمي وتأثيره على النص لم يسطع النقد-من أسف-التفاعل واستيعاب سرعة التحول إلا القليل من دراسات وجهود تسعى إلى مقاربة هذه التحولات، ومنها هذا الكتاب الذي أسعدني مؤلفه بقراءته وتقديم الرؤية حوله. ومن الطبعي أنْ لن تكون هذه المقدمة علمية صرفة، بل تجمع العاطفية معها، ولن تكون ناقداً لكتاب ارتضيت تقديمه، فهو منك في منزلة الرضا والقبول ابتداء.

عبد العزيز الزراعي

كنت قد دعيت إلى المؤتمر العام التاسع ومهرجان الأدب اليمني الرابع عام ٢٠٠٥، وكنت أقرأ نصوصاً شعرية من جهازي الجوال، ولقد كانت قراءتي لنصوصي الشعرية من الجوال وقتها لافتة للنقد، وأذكر أن الدكتور حاتم الصكر كان حاضراً وعلق على ذلك الاستشراف، ودارت الحوارات حول حضور النص على وسائل التقنية في وقت لم تكن تتجاوز تفاعليتها حضور النص على خطاب sms الذي كنت كتبت عنه مقالاً نشر في صحيفة الوطن، ثم أصدرت من بعد كتابي (خطاب sms الإبداعي دراسة في تشكلات البنية) عام 2008م. وحينما طلب إليّ الباحث النجيب عبدالعزيز الزراعي أن أكتب رؤيتي حول كتابه عادت بي الذاكرة إلى تلك الرحلة وما حوت من لقاءات ثقافية وشعرية، وما تبعها من رحلات وعلائق ثقافية مع مثقفي اليمن وأكاديمييه، وهو يمنٌ سيبقى سعيدًا بوعي شبابه ومثقفيه وقدرتهم الدائبة والدائمة على التجاوز باتجاه النور.
حاولت في هذه القراءة أن أحيّد انتمائي إلى حقل الرقمية الأدبية ودراساتها التي عشت معها وانقطعت إليها أكثر من عقد ونصف، لأنصت إلى باحث جاد يخوض غمار موضوع صعب المراس بمنهج واثق واع، وهو يحاول أن يفتح آفاقاً بحثية ويجدف في مناطق نقدية ذات مزالق، ويقف مع شاعرات وشعراء شباب تفاعلوا مع تلك التقنيات وكونوا أنفسهم بعيداً عن انتظار جواز النقد، وهم يكتبون نصوصهم على تقنية فيس بوك التي نضجت تجربتهم في ظلالها.
تكمن صعوبة تلك المشاريع العلمية حول الأدب الرقمي في التأسيس، وفي التوثيق، وفي المقاربة النقدية، وفي المنهج، وكل واحدة منها تستدعي جهداً كبيراً ومواجهة شجاعة. ولعلي هنا أوجز الإشارة إلى مداخل من المهم التنبه إلى جدليتها، ومنها:

١- يصر الباحث في أكثر من مقام على جنوسية اللغة، وعلى الفصل في اللغة بين تعبير الأنثى والذكر، وهي وإن كانت فرضية قائمة لها ما يعضدها من الحشد النقدي، ولكن يمكن التلطف في النظر إلى القضية من أبعاد عدة، وبمسافات متباينة، وحينها قد تظهر اللغة بريئة تماماً من ذلك الفصل الجندري من حيث هي أداة للاتصال بين البشر كلهم دون تمييز. ومثله تطرف الفكرة التي تربط الرقمية أو التقنية أو فيس بوك بالمرأة عند بعض النقاد، في حين أنها مداخل إنسانية عامة لا تفرق في تأثيرها بين جنس وآخر، وقبلها نجد ناقداً في إطار فكرة الجنوسية يرى في بعض الاتجاهات مثل قصيدة التفعيلة أنثوية وهي التي كتب عليها الشعر العربي بدون حدود. وتلك الجنوسية إشكالية، وإن تمسك بها بعض النقاد وأشار الباحث إليهم، لكني لا أرى وجاهتها بالمطلق؛ فالفن والعلم في نظري لا جنس له، والمرأة تمارس أدوارها الثقافية بالتوازي مع الرجل، ويحسن بنا ألا نقدمها فوق ما تستحق، وألا نسلب منها بالمقابل حقاً.

٢-في إطار القضايا التأسيسية للبحث العلمي في الأدب الرقمي يخضع التوثيق للنصوص إلى عدة اتجاهات واجتهادات، وقد حاول الباحث أن يوثق النصوص هنا بطريقتين: تصوير النص، أو كتابته، وأرى أولهما أوثق وأشد التصاقاً بالأدب الرقمي ومفهومه وبنصوص كتبت على منصة قد تقرأ بعد سنين، وتمثل وثيقة تاريخية، وحفظُها بالتصوير يفتح أفقاً لتحليل النص ووسائطه، على أن تكون هذه الصورة مصورة باحترافية عالية وفيها دقة ووضوح، مع ضرورة وأهمية وجود الرابط الإلكتروني وتاريخ الدخول عليه مرفقاً مع النص إما في المتن تحت الصورة أو في الحاشية. ومع ملاحظة مهمة، وهي أن هذا النص/النموذج الذي أورده الباحث يعد مستوى من مستويات الأدب الرقمي، وقد ذكر الباحث نفسه أن نماذجه تقع في إطار الرقمية العامة ولا تصل إلى التفاعلية الكاملة، إذ إن تعالق النص مع الوسيط يذهب إلى أبعد من ذلك حسب تطور التقنية وقدرة العمل على صناعة الوسيط المناسب والتفاعل معه.

٣- لا ينبغي للشاعر، في نظري، أن يكون في شعره مناضلاً سياسياً مهما كانت توجهاته، وإذا ارتضى شاعر لشعره أن يكون قيد توجه سياسي يناضل عنه ويصدر فقد أوثق شعره بقيد يثقل نصه وقلّما ينجو من تبعاته الفنية وربما سقطاته التاريخية؛ فالشعر ليس خطاباً تجييشياً قدر ما هو رؤية أرى فيها ما أريد فأسمو به إلى أفق فني أعلى من التجريد، وأصدف بسمو عن كل ما لا يراد. ورغم أن الباحث والشاعر في هذا الكتاب يعيشان أزمة تصدعات المواقف، إلا أن مما يحسب للباحث أنه قد توقّى ونماذجه، في العموم، مزالق يصعب النجاة منها، وأحسبه قد أصاب؛ فالحدث يفنى والنص يبقى.

٤- يلفت هذا الكتاب إلى متغير جذري يقدم قيمة مضافة للأدب الرقمي أورده الباحث على مستوى الأدائية اللغوية في تقاطعاتها مع الرقمية، ومنها قضايا مثل: (المركب الرقمي) وقضايا الخطاب الجديد، والاستعارة الرقمية، والمستوى الرقمي للخطاب الشعري الفيسبوكي، وهي مناطق القيمة في دراسات الرقمية الأدبية، ويمكن تثوير هذه المداخل لتشكل انطلاقات بحثية جديدة، هي روح العمل الرقمي ونتيجته المنتظرة.

٥- تقع نظرية الأدب الرقمي في أتون مستقبليات تفكيك دريدا وتلقي آيزر وياوس ونتائجها، والشاعر على فيس بوك يكتب والقارئ الضمني، مثلاً، حاضر معه، وجاءت الرقمية من بعد لتجعل للمتلقي مطلق الرأي الذي لا يفصله عن النص إلا نشره ليقول رأيه ويقدم نقده، وهذا جزء مهم من خصائص فيس بوك والرقمية لامسه الباحث وأشار إلى بعض مداخله وقدم نماذج على تداخلات بين الشاعر والناقد، ومثل هذا التلقي يمثل رمزية على أفق تفاعلي يمكن أن يتوسع فيه الباحث، باعتباره ركيزة أساسية للرقمية التي يتغيّاها.

وبعد: فإننا في هذا الكتاب أمام باحث جاد كسبته الرقمية الأدبية. ونستطيع بمثل هذه الجهود الشجاعة، المؤسسية منها والفردية، أن نتماهى مع عصرنا وأن نحلل متغيراته الأدبية والنصية ونقرأ خطابه من الداخل وأبعاد تأثيره على المجتمع، ونسهم بالتالي في مقاربة هذه التحولات، وحفظ ما يُستطاع من نصوص شعرية، وإبراز الظواهر الفنية والتفاعلية بين النص والوسيط التقني، وتلك جهود ستبقى علامة خالدة على عصرها وتحولاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى