مقطع من رواية “ذلك الغريب”

مريم هرموش | مصر

(.. في زمن مضى.. ثـمة مساحة من الوقت امسكتها الذاكرة…!)

لوحة غير مكتملة لحضور مشوه؛ أجساد بلا رؤوس، تسبح في فضاء غائم ومشتعل بدرجات الأحمر، يلعب الفراغ دورًا في تشكيل المشهد الذي يُميزه المزج بين الدرجات الأحادية والرمادية والألوان الصارخة.
“قبلكَ كنت أخاف من رأسي وأرسم النساء أجسادًا تختبئ خلف أقنعة، لكنك علمتني أن رأس المرأة ليس عورة، فاستعدتُ رأسي وعرفتُ الطريق إلى لوحتي الضائعة، ثم خنتني بالرحيل، فتبخر كل شيء نحو سماوات الفقد..”
شعرت برغبة في استنشاق نسمات الهواء النقيّ، وضعت الفرشاة من يدي واتجهت نحو النافذة، وقفت خلفها أنظر إلى الشوارع الصامتة الممتدة أمامي، والسكون الذي يُخيم على كل شيء من حولي؛ الظلام يلف الكون بوشاح أسود، يتلألأ بريقه في الأفق في سحر غامض، يُخفي خلفه أسرارًا كان شاهدًا عليها ذات يوم، تحولت إلى هيكل من الذكريات الهزيلة.
سَرت قشعريرة في جسدي مع تسرب تيار هواء بارد إلى المكان، أغلقتُ النافذة، ونظرت إلى “دولشي” المستلقي باطمئنان، يفترش بجسده الأرض، يريح رأسه على يديه الممدودة أمامه بينما يلاحقني بعينيه، ابتسمت له وشعرت بامتنان لما يضفيه وجوده على قلبي من بهجة.
وقفت وسط المرسم أتأمل هدوء المكان من حولي، ساقتني خطواتي إلى تلك اللوحة، أخذت أتأمل تفاصيلها؛ امرأة تضيء حولها هالة ذهبية، تضفي عليها جمالًا وإشراقًا مبهجًا، شعرها الطويل الأسود، ينسدل على كتفيها العاريين بنعومة وانسياب، يبرز لون بشرتها البيضاء الصافية، تعتلي قمة صخرة عالية، يلف جسدها الممشوق وشاح أبيض حريري طويل كأنه غيمة شاردة من زمن آخر، تتأمل عيناها الزمردتان -في خشوع- التقاء زرقة السماء بزرقة الماء، في مشهد يحوي الكون في طياته..
تردَّد صدى كلماته في أذني كالهمس:
“إن المرأة التي تمنحها السماء جمال النفس مشفوعًا بجمال الجسد، هي حقيقة ظاهرة غامضة، نفهمها بالمحبة ونلمسها بالطهر، وعندما نحاول وصفها بالكلام تختفي عن بصائرنا وراء ضباب الحيرة والالتباس”.
” الأجنحة المتكسرة”

كان لكلماته أثر السحر على نفسي… وكأنها قطرات ماء عذب، غيثٌ يروي ظمأ صحراء قلبي القاحلة، فتنبت فيها زهور المحبة والحياة.
التقينا أول مرة في أحد المعارض، التي تصادف مشاركته فيها، كنت أتأمل بإعجاب ظاهر، تفاصيل لوحة لم أكن أعرف أنه صاحبها؛ شعرتُ كأنها أنسجة حية تتقمص روحًا لتتحرر من سكونها، صاغها بطريقة خيالية إبداعية فريدة، أخبرني لاحقًا أنها مستلهمة من “الكوميديا الإلهية” لدانتي.
جسدت اللوحة منفى الروح، واجتيازها رحلة طويلة من المعاناة وجحيم الأعراف عبر برزخ هو المُطهِّر إلى حيث تؤوب في ملاذ الفردوس؛ كي تخلد إلى سلام تُظلله نعمة الأمل في الغفران في مزيج متناغم يجمع بين وادي الظلمات، الذي يقبع في باطن الأرض والسماء البعيدة، حيث تسقط الأرواح كالأوراق الجافة التي فارقت غصونها. يتمثل المُطهِّر في جبل يقابل منطقة الجحيم، له قمة بارزة، يتجلى بها المذنبون يُكفِّرون عن ذنوبهم بالتضرع والخشوع، وعلى قمة الجبل تقف امرأة لها أجنحة ملائكية، تعلوها السماوات ذات الكواكب المتحركة، وجوقات الملائكة المضيئة تطوف في دوائر وكأنها تُمجِّد الإله.
حين اقترب مني وأخبرني أنه صاحب اللوحة، سألته كتلميذ مأخوذ بروعة ما يشاهده، كيف استطاع أن يدمج تلك المشاهد المختلفة بهذه السلاسة، وأن يبرز العمق الذي يكمن خلفها بهذا الإبداع!!؟ ابتسم لي بتواضع لا يتقن فنه سوى واثق بنفسه وقدراته، وأجابني:
إن السعادة تكمن في متعة الإنجاز ونشوة المجهود المبدع.

كان معنيًّا في أعماله بالبحث عن رؤًى فلسفية ووجودية، وكان يؤمن بأن؛
“المأساة تكمن في العقول النائمة، فالمدانون في الجحيم هم أولئك الذين فقدوا القدرة على التفكير والإدراك والفهم”..
عدتُ من شرودي إلى اللوحة في المرسم، في كل مرة أنظر فيها إلى عيني تلك المرأة التي تبدو كغابة خضراء شاسعة، أشعر أنها تريد أن تبوح لي بأسرار، تشاركها معها حين رسمتها ريشته، كأنها تتأمل التقاء الوجود بالعدم: “ما الحياة إلا استراحة بسيطة بين عدمين”، تلك كانت كلماته… انتابتني قشعريرة، وانتفض جسدي لخاطر عابر؛ تُرى ما الذي أراد أن يخبرني به حين رسمني في ذلك المشهد المهيب؟؟ هل كان يحاول أن يُجسِّد لي الصراع الذي يدور بداخله وهو يواجه موته المحتوم وجهًا لوجه؟ أم كانت تلك لحظة خضوع واستسلام للرحيل!!! كان دائمًا يقول لي بشجاعة لا تعرف الخوف:
– أريد أن أسبق الموت قبل أن يسبقني!!
وكنت أجيبه وقد انقبض قلبي من كلماته:
لماذا يشغلك الموت بهذا الشكل؟!
ابتسم لي حينها بطمأنينة، وقال:
يا حبيبتي، نحن في مواجهة مع الموت الذي يحدق بنا في كل لحظة؛ فلماذا نخاف أن تطالنا يده!! إن مواجهة حقيقة فنائنا ضرورة لأنها تُزيل عنا غبار السطحية والهشاشة..
ضمني بشدة إلى صدره وراح يهمس لي:
كم أتمنى أن أخفيك بين ضلوعي كيلا يصيبك أذى ما حييت..
لم يكن يخفى عليه العداء الذي كنت أحمله بداخلي للموت، كان يهدهد تلك العداوة قائلًا: “إن السبيل الوحيد للشعور بالراحة تجاه الموت هو أن تفهمي نفسك جيدًا وأن تري كما لو أنك شيء أكبر من ذاتك”..
كنت أشعر أننا لا نملك أي فكرة عما نفعله في هذه الحياة، وألا سبيل لبلوغ السعادة، لكنه كان يملك دائمًا الإجابة عن كل شيء:
– السعادة تأتي من الاهتمام بشيء خارج حدود ذاتك، فالشعور الزائد بالاستحقاق مُغرٍ إلى حد بعيد ولكنه يُسمِّم الروح…
كان كزائر يتعجل الرحيل، هلّ فجرًا على أعتاب روحي وما إن أشرقت حتى غاب..
كل شيء حولي يحمل بعضًا من أثره؛ تلك الجدران التي تحتضن خلفها صدى ضحكاتنا وهمساتنا، وبقايا أحلامنا… لوحاته التي تحاكي الجمال وتحمل بصمة من روحه، الصور التي التقطتها عدسته، تحمل كل واحدة منها قصصًا لأماكن وأشخاص في كل زاوية من العالم؛ وجوه بسيطة الملامح، لكنها عميقة، تفوح بالحكايات والأسرار، في لقتات عفوية صادقة، حتى منحوتاته التي تتجلى فيها الأمومة والدفء؛ تخترقني فتزكِّي حضوره الدائم داخلي رغم الرحيل.
كيف تسربت السنين من بين أيدينا؟؟!! كيف أسدل الأمس ستاره علينا قبل أن تُكتب النهاية…!!؟
وحدها ريشة الأيام تُشكِّلنا كيفما شاءت، تنقش في أرواحنا ظلالًا من الألم؛ تبوح به ملامحنا المنهكة، تحوّل صدى ضحكاتنا الذي كان يهز القلب، ويُسيل الدمع من فرط غبطتنا، إلى بسمة رصينة متكلفة ترسمها الشفاه مرغمة..
جلستُ في سكون خلف المكتب، مررت بأصابعي على الرواية التي أمامي قبل أن أحتضنها بين يدي برفق وأقرِّبها من شفتي، لأطبع عليها قبلة بمذاق الحنين.. سكنني الحزن وأبحر بي إلى شواطئ بعيدة من ذكريات ماضية…
تأملت غلاف الرواية، وردَّدت اسمها بهمس موجع:
” ذلك الغريب”.
قلبتُ الصفحة بأصابع مرتعشة، وكأنها المرة الأولى التي أقرأ فيها كلماته، شعرت كمن يوشك أن ينفذ من باب سحري إلى عالم موازٍ، ليبتلعه بداخله ويعزله عن الحاضر، قرأت بعيني المُلبَّدة بالدمع كلماته:
” إهداء”
“إلى من أضاءت روحي بحبها وكانت عصيةً على النسيان”…
“أهديتِني حبًّا، أضاء ظلمة الذاكرة، فأبصرتُ ماضينا البعيد، حين طافت أرواحنا معًا قبل بدء الوجود.
وأهديتك بالرغم مني؛ ألمًا، ورحيلًا، ووجعًا، لا يغفره سوى الحب…”.


أفلتت مني آهة دوَّى صداها في أعماق قلبي المتصدع بالحنين؛
“كيف لك أيها القلب أن تُحْيي مشاعر أماتتك ألف مرة قبل أن يموت بداخلك الشعور بالألم”…!!
كأن الزمان يدور حول نفسه ونحن ندور حول ظلنا في دوائر مفرغة، نتهجى خوفنا المتدثِّر بالصمت، عابرون نمر فوق جسر الحياة كأننا جثث تتنفس حتى يحين الموت الأخير…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى