إلغاء المسافات والانتصار لألم الإنسان في رواية ” حطب سراييفو ” لـ”سعيد خطيبي”

فيروز بشير شريف | الجزائر

موضوع الرّواية

عرفت الجزائر في  التّسعينيات حربا أهليّة متوحّشة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، سنوات دم وخراب وخوف ذقناها صغارا و كبارا..هؤلاء و أولئك اختلفوا فكان على الشّعب الجزائري برمّته دفع الثّمن غاليا.حتّى وإن لم يكن لديك أيّ علاقة بالسّياسة،وتفضّل أن تعيش بعيدا عنها،ولا تتابع عنتيريّات من يمارسونها، ولا تؤمن بها. فذلك لن يشفع لك، لأنّ جزائريّتك خلال تلك العشرية السّوداء المفرطة في بشاعتها هي تهمتك الكبرى. كنت حينها أدرس في الابتدائي، طفلة صغيرة لا تعرف الكثير عن حب الوطن، وما معنى الحرب.. لكن بمجرّد ما أسمع أغنية “افرحي يا جزاير محال يكون عليك العار..احنا ولادك ديما أحرار و السّلام لنا شعار.” أجد نفسي واقفة أمام المرآة أبكي بفرح كبير، وأقسم بأنّ كل شيء سيمر، وسيفرح هذا الوطن الجريح بعد كل ما رآه.

 

ما علاقة ما ذكرته بموضوع الرّواية؟

رواية “حطب سراييفو” للكاتب الجزائري “سعيد خطيبي” تشبه إلى حدّ ما  تلك الأغنية الّتي كنت أبكي بفرح كبير كلّما سمعتها حين كنت طفلة.وعلى الرّغم من أنّي شخصيّا أنفر من الأعمال الأدبيّة الّتي تتّخذ من مأساتنا نحن الجزائريين بالذّات في تلك الفترة،أو من مأساة أيّ شعب مادّة لها،إلّا أنّ الأمر اختلف مع هذه الرّواية.منذ الصّفحات الأولى فيها،يشعر القارئ بأنّ كاتبها يريد أن يواجهه بحقيقة مفادها ما يلي”لا تكذب على نفسك و تدّعي بأنّك تجاوزت الأمر،وبأنّك هنا و الآن..كل ما آلمك ما يزال يقتات من احتواء قلبك وذاكرتك له،ولولا ذلك لما استطعنا نحن البشر أن نكون إخوة.عليك أن تتذكر ما آلمك أحيانا حتّى تستطيع أن تتقبّلني باختلافي عنك،وأستطيع بدوري فعل ذلك.فوحده الألم يجمعنا،ولذلك كلّما ظننت بأنّ ما يفرّقنا أكبر ممّا يوحّدنا،اقرأ هذه  الرّواية،ستكتشف بأنّك بحاجة لعدم نسيان ما آلمك لتستطيع أن ترى الآخر المختلف عنك، كما يجب لا كما تريد.”

في رواية “حطب سراييفو” يصوّر لنا “سعيد خطيبي” بأسلوبه المتفرّد حقبة مظلمة من تاريخ الجزائر،وكذلك من تاريخ البوسنة .البوسنة الّتي عرفت هي الأخرى خلال سنوات ما عرفت من الدّمار و الخراب و التّصفية المستمرة لأهلها.

في الجزائر شاب جزائريّ وبالضّبط من مدينة بوسعادة اسمه سليم،يشتغل في ميدان الصّحافة كصحافي مكلّف بالتّحقيقات الميدانيّة في جريدة حكوميّة،في فترة الحرب الأهليّة في التّسعينيّات،يقيم في العاصمة بحكم عمله فيها،تربطه علاقة بآنسة اسمها “مليكة” تكبره بخمس سنوات، تعمل في ميدان التّعليم.

“عشت كما يعيش أيّ نكرة،أنام وأعمل، آكل وأشرب، وأختلي بين الفينة والأخرى بمليكة.”ص9 “بما أنّ الموت قدرنا قررت أن أتناساه.لكن حياتي المتأزّمة لا تدفعني للأمام بقدر ما تذكّرني في الموت.”ص13 “شعرت بدمي يغلي و احتجت أن أتّصل بمليكة،أن أسمع صوتها الرّخيم الّذي يشبه صوت يافعة في الخامسة عشرة أو السّادسة عشرة.كلماتها تخرج ما بين شفتيها كلحن عذب،ولا يخيّل لسامعه أنّ خلف ذلك الصّوت امرأة في عقدها الثّالث.وأخبرها عن المهمّة الّتي كلفت بها،وعن نيّتي في السّفر.”ص13

يقرّر بعد جميع المحاولات بالبقاء،الهجرة إلى سلوفيينا،حيث يتواجد عمه المدعو “سي أحمد” الّذي سيتّضح فيما بعد بأنّه والده الحقيقي.وفعلا يهاجر بعدها،لكن من غير الكشف عن  الطّريقة الّتي حدث  ذلك بها. حيث يفهم القارئ بعدها  بأنّ الكاتب اعتمد على تقنية الحذف لتسريع سير الأحداث،و دفعها إلى الأمام، مسقطا بذلك بعض التّفاصيل على أهمّيتها بطريقة جميلة جدّا،ستجعل متلقّي النّص لوهلة يشعر بأنّ الكاتب أمامه،وقد تغاضى عن ذكر بعض الأمور لحاجة في نفسه قرّر بأن يقضيها. باختصارابتعد “سعيد خطيبي” عن المألوف والمتوقّع الّذي يحصر بعضهم أنفسهم فيه.و القارئ النّموذجي مستحيل أن لا ينتبه إلى ذلك،ومستحيل أيضا أن يتذمّر منه.لماذا يا ترى؟لأنّه قارئ فاعل،يعتبر نفسه  شريكا في العمل الإبداعي و ليس مجرّد متلقي سلبيّ للنّص.وعليه ففي المقام الّذي يعتمد فيه الكاتب على  تقنيّة الحذف لتسريع الأحداث، يمكن للقارئ تبنّي نظريّة “ثنائي القارئ و النّص” الّتي دعت إليها “نظرية التلقّي” ،ليجنّب نفسه الحكم السّطحي و المتسرّع  والسّاذج على ما يقرأ،ويلعب دوره كقارئ فاعل وشريك في العمل الإبداعي الّذي بين يديه.

في الضّفة الأخرى شابة بوسنيّة من أصل كرواتي اسمها “إيفانا يوليتش”.فتاة موهوبة  طموحة،تنفتح على أحلامها بشكل دائم، وذلك بعدم تخلّيها عنها على الرّغم ضيق الأمكنة و الأزمنة و ظلمتها،وعبثيّة الحياة الّتي كانت تعيشها،أو بمعنى أصح وجدت نفسها تمارس طقوسها دون رغبة منها.

“إيفانا يوليتش” تفكّر جدّيا في تعويض ما فاتها،وتقرّر بعد تفكير و تخطيط التطهّر من كل بؤس وشقاء سبق وأن ذاقته في حياتها،إضافة إلى أهوال  الحرب الاستئصالية الّتي عرفتها بلادها والّتي تسبّبت في وفاة والدها.تتوجّه “إيفانا” إلى سلوفينييا، تاركة خلفها بلدها البوسنة، ومدينتها سراييفو، وعائلتها وذكرياتها مع حبيبها “غوران”،آملة في أن تجد هناك ما تبحث عنه،وترى مواهبها النّور بعدما قبرت طويلا.

“سليم” و إيفانا” على الرّغم من بشاعة ما عاشاه ،هما على موعد مع الحب،على موعد من  التجردّ من منطق الرّبح و الخسارة، والانصياع لسلطان القلب،والاستسلام لطراوة اللّقاء و التّعارف،وتبادل النّظرات،على موعد مع مواجهة ألامهما ونزيف الذّاكرة لكسر قيودهما، والتّواشج مع ضعفهما والانتصار معا لقوة المحبّة، على حساب محبّة القوّة.

اللّقاء يكون في مقهى “سي أحمد” الأب الفعلي لسليم، حيث تعمل “إيفانا” نادلة هناك،لتتصاعد الأحداث بعدها ويفترق الحبيبان، ويحمل كل منهما حبه للآخر في قلبه ويمضي متوجّعا ومحافظا على صمته، ووجهة كل منهما بعد كل ما حدث وطنهما الأم. المكان الّذي مضغ أمانيهما في وقت من الأوقات،لكن على الرّغم من ذلك يبقى أرحم بهما من الغربة الّتي تشعر المغترب باستمرار بأنّه متّهم ومراقب،وعليه أن يثبت براءته للجميع ، ويحرص على أن يكون كما ينبغي لأجل الأغيار وليس لأجله.

 “لاشيء أحزن عليه أكثر من حزني على سليم.لم أكن مهتمة به في البداية،لم يثرني ولم يغريني،لكن شعرت بالتّدريج بقرب منه.تمنيت لو أنّه فهم نظراتي إليه،وبادر بالإمساك بيدي،وقرّبني منه.لقد ضيّع عنّي وعن نفسه أن نقيم حلما يجمعنا.”ص240

“عشت أشبه بلقيطة أجرّ أخطاء الآخرين معي.صورتك ستبقى محفورة في مخيّلتي.كانت أيّاما قصيرة لكنّني تعلّمت منها الكثير.هذه المدينة الّتي جمعتنا صدفة، لم ترأف بي،وسأكرّر المحاولة مع سراييفو، فلربّما تشفق علي،بعدما عاقبتني وكادت تسحقني وتتخلّص منّي.”ص240

“خفضت صوت الرّاديو وأغمضت عينيّ، من التّعب و المشي الماراثوني،وأنا أستعيد صورة إيفانا وهي تقف في مقهى تريغلاو،تبتسم لي.”ص314

“عاد طيف إيفانا ليدقّ رأسي، ولا يتركني أدخل حياتي الجديدة في أمان.”ص319

صدق الكاتب في تصوير مشاعر “سليم” بطل رواية حطب سراييفو:

طبعا لن أذكر كل ما جاء من أحداث في الرّواية حتّى أترك لمن لم يطّلع بعد على ما جاء فيها ما يستحق أن يكتشفه،لكن هناك أمر أرى بأنّه يستحق أن أشير إليه، ويتمثّل في صدق الكاتب في تصوير مشاعر البطل المتضاربة، فسليم وعلى الرّغم من حبّه لإيفانا إلّا أنّه بعد عودته إلى الجزائر، تذكر مليكة وكلّ ما جمعه بها، و رغب مجدّدا بأن تكون معه و إلى جانبه، إلّا أنّه صدم بخبر ارتباطها وسفرها إلى فرنسا،الأمر الّذي يجعل القارئة تطرح السّؤال الآتي دون القارئ الّذي شهد شاهد من أهله عليه: “هل يستطيع الرّجل أن يحب أكثر من امرأة؟ ولماذا لا يحدث ذلك مع النّساء؟ و الحالات الشّاذة فيما يخصّ النّساء لا يمكن أن نقيس عليها طبعا.

السّؤال تمّت مشاركته في مواقع التّواصل الاجتماعي بهدف بث الرّوح فيما نقرأ،وكان فيه تفاعل مع الموضوع وكان فيه إجابات و آراء مختلفة،أذكر منها بعض المشاركات:

 الأخ منير من اليمن رأى بأنّه ليس شرطا أن يكون جميع الرّجال بنفس عقلية سليم، ورأى

بأنّ البطل سليم، لم يحب إيفانا بقدر محبّته لمليكة،وعلّل ذلك بأنّ بعض الرّجال عندما يفارقون المحبوبة يحاولون الفرار من فكرة فقدها فيكذبون كذبة إن صحّ التّعبير و يصدّقونها،وذلك في رأيه ما حدث مع سليم في رواية حطب سراييفو.

أمّا الأخ عروة من سوريا رأى بأنّ سليم بطل الرّواية وغيره كثيرون، يتعلّقون بالمرأة بسبب احتياجهم لها وليس محبّتها، ويرتبطون بها لأجل ما تمنحه لهم لا العكس، لذلك أغلبهم تتفجّر المحبّة في قلوبهم تجاه المحبوبة كلّما كانت أقرب، وحزنهم لا يكون على فراق المحبوبة بقدر ما يكون على أنفسهم، حيث لا يمكن لهم مجدّدا بأن يستفيدوا من حضورها، ولو تعلّق الأمر بالمحبّة فقط، لكان الأمر أهون.. ذلك أنّ فعل المحبّة يكتفي بأن يكون المحبوب في حال جيّدة،ولو فرّقت بيننا و بينه المسافات، والظّروف.

الأستاذ محمّد من الجزائر،استدلّ بمسألة التعدّد،وبالتّالي ما عرفه سليم من تضارب لمشاعره أمر طبيعيّ جدّا،بشرط أن يكون ما في قلبه مشاعر صادقة،وليس مجرّد رغبات غير واعية و مكبوتة.

 

جماليّة المكان في رواية حطب سراييفو

ننتقل الآن جماليّة المكان في الرّواية، وأنت تقرأ رواية حطب سراييفو، ستشعر حتما بأنّك تتنقّل مع شخوصها من بلد إلى آخر، ومن مكان إلى آخر،وي كأنّ الكاتب قد  منح لتلك الأمكنة الّتي ذكرها في روايته أشكالا ذهنيّة قابلة لأن تتصورها أمامك بحروفه،وتشعر بالانتماء إليها أيضا.العاصمة الجزائريّة، مدينة بوسعادة، سلوفيينا وبالضّبط عاصمتها ليوبليانا، وسراييفو. أماكن تماهت مع شخوص الرّواية، وتداخلت مع بعضها مختزلة المسافات، مانحة للقارئ أبعادا تأويليّة متعدّدة الدّلالات.

 

رمزيّة العنوان في رواية حطب سراييفو

ليست “سراييفو” مجرّد إطار لبعض أحداث الرّواية،بقدر ما هي رمز وظّفه الكاتب و ضمّنه تجلّيات تاريخيّة معيّنة.سراييفو الّتي تمّ فيها اغتيال ولي عهد النّمسا “فرانس فرديناند”، وزوجته “صوفي” عند زيارتهما لعاصمة البوسنة “سراييفو” عام 1914.لتكون تلك الحادثة بمثابة الشّرارة الّتي أشعلت فتيل حرب عالميّة أتت على الأخضر واليابس، وتسبّبت في خسائر بشريّة واقتصاديّة جسيمة.وراح ضحيّتها الملايين من المقاتلين من جنسيّات مختلفة، أشركتهم القوى العظمى المتصارعة في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل،وجعلتهم يدفعون الثّمن غاليا جرّاء جريمة الاغتيال تلك والّتي أقدم على القيام بها شاب مسلّح  من البوسنة يدعى “غافريلو برينسيب”، الّذي حكم عليه هو الآخر بعشرين سنة سجن  مع حرمانه يوما كل شهر من الطّعام كحدّ أقصى للعقوبة على شخص بسنّه في ذلك الوقت، ذلك أنّه لم يبلغ حينها السّن القانوني على حسب ما ينصّ عليه القانون النّمساوي- المجري والّذي يمكنهم من الحكم عليه بالإعدام.الشّاب توفي في مستشفى السّجن متأثّرا بمرض السّل قبل انتهاء الحرب الّتي كان هو سببا مباشرا في إضرام نيرانها بأشهر.وعليه فإنّ  سعيد خطيبي حين اختار لروايته هذا العنوان إنّما كان يرمي برأيي إلى لفت انتباه القارئ  إلى ما فوق القول وما فوق المعنى وما فوق النّص أيضا.”حطب سراييفو”عنوان يرصد تجارب إنسانيّة بدلالات تاريخيّة مبطّنة و خادمة لأنطولوجيّة النّص و محتواه،بمواربة ذكيّة تقول كل شيء لبعضهم،وقد لا تقول شيئا لآخرين.

سعيد خطيبي روائي وإعلامي جزائري يقيم في سلوفينيا، من مواليد 1984 في مدينة بوسعادة، درس في الجزائر و فرنسا، حصل على ليسانس في الأدب الفرنسي من الجامعة الجزائريّة، ثمّ ماجستير في الدّراسات الثّقافيّة من جامعة السوربون. يشتغل في ميدان الصّحافة منذ عام 2006م.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية حطب سراييفو تحدث عن مأساة انسانية في حكايتين تقاربتا في الزمان وباعدت بينهما الجغرافيا لكن خيط الحرير الذي حيكت به يحدث عن ثيمة حرب قذرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى