التجريب بين الهندسة النصية وجغرافية العرض الدرامي عند حسن المراني
د. بو علي الغزيوي | المغرب
نعني بالتجريب الدرامي هنا، هو ما يخلخل الخطاب المسرحي المنتسب الى عالم المعرفة من جهة، وما يعطي هذه القدرة كخصوصية تتنوع وتختلف بها عن أنواع أخرى من المعارف. وهذا يعني أنه لكي يفكر في الموضوع، عليه أن يقوم بإنتاج معرفة في الوقت نفسه، وأن يكون لهذا الفعل مظهرا يميز بين أشكال المعرفة والملاءمة لطبيعة الموضع المعالج. وعندما يتعلق الأمر بالمسرح الذي يمارس على الركح فان المرجعية تصبح مركبة، أولا كمرجعية عامة يمكن نحتها بالمعرفة النقدية التي يتولد عنها فعل نقد النقد، وهي ثانيا مرجعية خاصة تعود الى المناهج والى العلوم الإنسانية والمنطق، لأن التعامل مع المرجعية يستوجب إذا بالضرورة استحضار المعرفة بالنقد وموضوعه، وكذا المفاهيم الموظفة في هذا الشأن. وبدون هذا الاستحضار القبلي، يعتذر القيام بالقراءة عن المسرح ثقافيا، مادامت الثقافة حسب حسن العلوي المراني هي حصيلة من الأفكار والمواقف والتداخل بين العلوم، لأن البحث عن المرجعية التي يستند اليها النقد الدرمي، تصبح علة على الصعيد الاجرائي المدخل الذي سيسمح لنا تناول طبيعة المعرفة التي تستغل في النقد، مادامت الأنساق هي التي تحدد طبيعة المناهج وتفصل بين الممارسات النقدية وتعين الحدود التي تقوم داخل المعرفة الدرامية.
إن هذه الاستراتيجية التي ذكرنا عملت على تفكيك المفاهيم وتمييز المصطلحات، داعية الى استخدامات إيحائية معبرة عن عدم ملاءمة الاصطلاحات السياسية التي تخنق إبداع مسرحي وتسييج كل المعاني والدلالات الجمالية بخيط إيديولوجي مهيمن، لأن الفكر لا يمكنه أن يوجد من دون تفكيك وتأويل، وبموجب هذه الأدوات المقارباتية المماثلة “للفظ المرجعية” فإن المبادئ القرائية تضع المجتمع في قالب تاريخي ذي أبعاد جمالية ودرامية وتراثية، حيث يؤكد “حسن العلوي” على التساوي بين دراسة النص الفعلي والأفعال المتضمنة في الاستجابة للنص، فلا بد من الرابط المحكم في كل عمل بكل بساطة من خلال الإنتاج الفعلي للقراءة وكذا من عملية الانسجام بين الذات القارئة والموضوع المعالج”[1].
لذا يجد المخرج الدرامي أمام الناقد فرصة العثور على ما يملأ به فراغات النموذج النصي ، وذلك من أجل إبراز ملكة الابداع عند القارئ، بهذا يمكن أن ينخرط في عملية إبداع النص الموازي وليس مجرد نقله من النص الى المتلقي، وإنما تفسير لما هو معطى وثابت خارج النص .ويحاول حسن العلوي أن يتحدث عن عملية القراءة، مميزا بين مرحلتين التي تنتجان الدلالة والفرجة، فالدلالة تمثل الاستيعاب للمعنى من خلال البناء الأولي، أما الفرجة تعني التأثير والتمسرح من خلال فعل العرض. باعتباره عمدة يشكل نقطة وصل بين الوعي النصي والوعي الواقعي، وعي يتجاوز انغلاق النص، معلنا موت المؤلف ومنتجا لا مستهلكا، فلم يعد ثمة معنى واحد ووحيد، ومعنى مقدس بل هناك معان غير متماهية. ويقول “جاك دريدا”: “إن النص نوع من التجاوز أو الاجتياح، أطاح بكل هذه الحدود والتقسيمات، وأجبرنا على أن نوسع المفهوم السائد والفكرة المسيطرة حول مفهوم النص المسرح، إذا لم يعد النص المضاعف جسدا من الكتابة وشيئا من المضمون محشورا في كتاب أو في حدود، بل نسيجا يعود بشكل لا متناهي أكثر من رجوعها الى نفسها الى أثار مرجئة أخرى”.[2]
وعلى هذا النحو فإن النص الدرامي يجتاح كل المتاريس لكي يتمظهر في شكل إيقاع غير متجانس، مؤسس على توترات وتناقضات داخلية يقرأ من خلالها نفسه ويفكك نفسه، فهذا لا يعني أنه يسلم نفسه لنا بسهولة، بل يدعونا الى الانخراط فيه وفي غيره بواسطة قراءة نقدية، يقول “جاك دريدا”: “فإن يحمل اسم النقد الأدبي… أعتقد دون أية نية في التلاعب بالكلمات، أن الناقد كما يشير اليه اسمه يحتاج الى كلمة الحكم والتقويم والقرار، حين يجد نفسه أمام بعض البنيات غير القابلة للتحديد، التي أثارت اهتمامي باستمرار، أعتقد أنه يحتاج الى ضمانة فيما يتعلق بجوهر الثقافة الأدبية، إن الناقد يجيبك ببساطة أنه لا يتمتع بهذه الضمانة”.[3]
يعتقد حسن العلوي في هذه المنظومة أن هناك فرقا بين داخل النص المسرحي وخارجه، وعبرهما يتوزع المجال الى ما هو مادي وجمالي وتاريخي وإنساني، جاعلا من كل هذا أن الكتابة الإخراجية هي تدوين الجديد دون أن تصبح وهما أو يوتوبيا. فنحن هنا ندرك أن حسن العلوي لا يقف عند عتبة النص، بل يتجاوز كل الأنماط القديمة التي صاغها الذوق العربي القديم، جاعلا من هذا التخطي أرضية متعددة القراءات تشع بحرية لا متناهية وتهدم كل العلاقات الثابتة التي يكون فيها اللفظ الدرامي والمعجمي والبلاغي هو المهيمن. إنها إشارة تجريبية تقترح علينا ردود الفعل وتحدثنا عن الانفجار المعرفي من خلال رمزية إبداعية مكثفة، تقربنا من المسرحية كقراءة نقدية التي تحرس على التناوبات غير المتوقعة واللامتناهية، وتظل هنا القراءة توحي بالتعدد وتنطوي على التنوع، لتحول الأثر الى نصوص مفتوحة تتكلم لغة رمزية خلال أزمنة متعددة.
فالنقد الدرامي حسب “رولان بارت” يواجه موضوعا ليس هو الأثر الأدبي، وإنما قوله الخاص”[4]. وهو بلا شك يتحدث عن هذا العشق الذي يقيم علاقة ترابط بين القراءة والنقد، علاقة تغير أفق المتلقي لتعيد الأثر الى فرجة ذات لغة شهوانية. وحسن العلوي بدوره نص على القراءة باعتبارها لذة مستحيلة القبض، تجعلنا نذرك دواتنا من خلال المجال المعالج. ولا يعود من ثمة شيء ثابت، إذ أن النقد المضاعف يفكك الصامت ليزرع الحركة وليوزع الفرجة في شكل تعليق وتفسير وتأويل، وليؤسس شعرية جمالية تمتزج بالرؤية وبالرغبة في رؤية الاشكال الفرجوية الجديدة. فحسن العلوي في اختياراته الدرامية ينظر بشكل عميق الى عملية القراءة والمراجعة النقدية التي تتحاشى الالتصاق بالنص الذي يحدد التحليل، لأنه يحس دائما أن هناك تعددا في التأويل وإسهاما في إغناء كل النصوص الدرامية، ويقول “ترنس هوكس”: “إن القارئ لن يبحث عن المعاني الخفية ولن يعطيها الأفضلية كما هو الحال في عملية التفسير، وإنما سيهتم بالعلاقة بين المستويات المختلفة للمعنى، مع ما في النص بوصفه نظاما من توزيع”[5].
فالقراءة عند حسن العلوي لا يحكمها اختزال ولا نهاية مرجعية، بل تصبح جوهر الممارسة النقدية المتعددة، وتكشف لنا عن لحظة التوهج والاستيعاب الكلي للأفكار والتصورات الممارسة، وتلمح بعدم وجود صلة بين مختلف التيارات الفكرية العربية والغربية التي تطرح مجموعة من التساؤلات حول المسرح العربي والانسان والهوية والتاريخ والثقافة السياسية لتجعل من كل هذه المفاهيم التركيبية الجدلية تلغي ما هو ثابت لتبدع ما هو متغير ولتنوع الأسئلة حول الوضعية الراهنة. لأن الانفتاح هو إحساس بالوجود والهروب من الانتشال والفوضى والرتابة والتقرب الى المنسي والهامش والى كل الاستعارات والرموز. فالمسرح عند حسن العلوي إبداع المفاهيم، يخلخل كل المواصفات، ويقلب العالم المتخيل من الطابع الطوباوي الى عالم البحث والتنقيب من أجل معرفة سطوحه ومناطقه، والنبش في الكليات وفي النهايات التي تحتاج دوما لتغدو مفسرة ومحللة، لأن مهمة المخرج هي إعادة تأويل العالم قصد تغيير أسراره لكي يقدم نفسه كمفهوم جديد، كاشفا عن كيفية انخراطه في التمسرحية في هذه الإشكالية ومترصدا مصير السؤال العربي باعتباره الجوهر المبني على تخوم المعرفة. وهكذا عمل المخرج حسن العلوي بكسر سؤال المسرح باختراق كل عازل، وموزعا حلبة الابداع الإنساني العربي لاكتشاف ما هيته الجديدة ، لأن انتشار أفكار فلسفية قد أثرت فيه وفي المناخ الفكري الذي يعيش فيه، وطارحا قضايا تستدعي الحوار بين أصحاب الرؤية الفلسفية والنقدية والاجتماعية المختلفة، أبرزها قضية التراث والخصوصية والذات والوعي والديمقراطية والاصطلاح الاجتماعي والقيم والمعرفة… باعتبارها سمات لا توجد منعزلة عن الفاعل، بل تقدم لنا تحليلا رائعا للبناء البلاغي والدرامي والموضوعاتي لهذه المسرحيات وتضع الأساس كتنظير أكثر دقة كلما استحضرنا المسرحيات كالبلوكاج/ والليام وليام/ والكود/ ولعبة الحرية، وهي والقيد، وتمارين في التسامح وخيطانو وبغداديات، وأساطير معاصرة.
فاذا كان كل فكر وليد واقعه ومساهم في تأطيره، فإلى أي حد استطاع حسن العلوي أن يتعامل مع المرجعية الدرامية بكل ما تحمله من مفاهيم؟ وكيف وظف هذه المرجعية وهذه المصطلحات كبعد تجريبي تنقلنا الى العرض الدرامي؟
إن القراءة التي يريدها المخرج هي اتخاذ فكرة التأكيد على كون الحوار النقدي يتجاوز الذات ولا ينتسب اليها، لكونه يتبنى التعدد الثقافي والاجتماعي والتاريخي والمنهجي. وبناء على هذا، فانه حاول تقويض المفاهيم والعناصر المكونة لجسم المنهج وكيانه المادي، لكي تتخذ مفاهيم الأثر والمؤلف وأنواع التشكيلات والموضوعات الأدبية والاختيارات النظرية المبثوثة في النصوص والمفاهيم السائدة على أنها مكونات للتشكيلية الخطابية التمسرحية، وركائز حقيقية يمكن الانطلاق منها باعتبارها بناءا قاعديا للخطاب العلاماتي والنقدي. ويقول “ابن زيدان” إن “الابداع والهوية جعله لا يهتم بالخواطر والأفكار والموضوعات السهلة، بل يبحث في جوهر الأسئلة من حيث الممارسة التي تحكمها والقواعد التي تقعدها”[6]. ويسعى المخرج حسن لأن تكون دراسته نفسية واجتماعية ودرامية،، وإن أبدى مسألة نشأة المعارف والمفاهيم، في أساسه لا يهدف إطلاقا الى بناء نظرية في النقد، بل همه إضفاء الطابع الفني على جميع المقولات والمفاهيم والمنظومات النقدية.[7] فهذه الرؤية الاخراجية لن تتأتى له إلا في مجال تاريخ المسرح، يكون اهتمامه هو الانكاب على قراءة النص لرصد الانقطاعات وراء الاتصالات لقطع الطريق أمام التراكم اللامحدود للمعارف الذوقية وفصلها عن مصدرها الاختباري، وبالتالي رفض تقصي الوقائع والبدايات لأن تاريخ المفهوم الدولي الدرامي هو تاريخ مختلف حقول تكوينه وتاريخ لمختلف قواعد استخداماته المتتالية والميدانية النظرية التي يواصل فيها بناءه. فالمهمة التمسرحية الجوهرية للقراءة عنده هي تحديد مفاهيم تفكر في الاتصال والانفصال، كالعتبة والتحويل والاستهلاك والاستلاب…والانعكاس والتبعية لذا كان وراء استحضار الاخراج هو هذا التغير والتبدل في تاريخ المجتمع والمفاهيم واحداث هزة وتصدع في السلسلة التي رسمها الوعي ونمائية العقل المتسلسل بشكل عام. لان التمسرح الدرامي هو التحول أيضا والتشكيك في إمكان قيام مجتمع في غياب البحث في فكرتي التلاقي والاكتمال بين المعارف والمناهج، مما يؤدى الى تفرد سلاسل متنوعة تتجاور وتتعاقب وتتداخل دون ردها الى مسار خطي بسيط[8]. ونتيجة لهذا التحول حسب حسن العلوي، أصبحنا نرى أن المسرحي يرفض التفكير في الانفصال، فيعتقد أنه يبرز وظائف درامية “كمبادرات فردية”. فلا يتم الإحاطة به من أجل إقصائه كي يظهر اتصال الأحداث، لأن الانفصال كان علامة للتشتت النصي، كما في مسرحية لعبة الحرية التي أصبح عنصرا أساسيا في التحليل، والكشف عن رمزياتها وحدود حركة تطور المجتمع وانعكاس حركة الفكر، فالانفصال هو أداة البحث وموضوعه، تجاوز حدود النص المكتوب والمقروء، لأن المفهوم الإجرائي هو أداة طيعة داخل خطاب المسرح ينطلق منه حسن لإيجاد النقط الفارغة والتي تكون علامة على وجود انفصال وحدوث انقطاع في مسار المجال المعرفي الذي يكون قيد البحث. ويرى حسن العلوي أن السمات المميزة للمجتمعات العربية في ثوبها الجديد هي التحول الذي أصاب مفهوم الانفصال، أي انتقاله من مكونه عائقا ليصبح ممارسة وسؤال حول هذا الخطاب الممسرح، حيث لم يعد الممثل يلعب داخل البعد الدرامي دور لأن الشي المخيف الذي ينبغي إلغاؤه ومحوه من حلبة التغير والتاريخ، لذا عمل حسن العلوي بتوظيف المفاهيم الموظفة لديه إذ يفرض علينا الإشارة الى مجموعة من الشروط المؤسسة لهذه القراءة، الموجودة في مسرحية العودة للواقع، فهي عبارة عن سيرورتها المميزة كنقد مضاعف للواقع والمعرفة الإنسانية، ” حيث يمتلك حسن العلوي إحساسا خاصا ومعرفة تجريبية النابعة من القراءة أثناء تجريب مناهج العلوم الإنسانية التي أراد بها هذا الخروج بالقراءة النقدية، من مستواها الانطباعي والتأثري والدخول بها الى زمن الوعي” لأن التجريب يستحضر الأساطير كما في أساطير معاصرة، وكذا البغداديات والتمارين وفي التسامح” فهذه المسرحيات هي التي من خلالها يستشف أن هذا التمسرح هو تفكيك وتحول أيقوني.
واستراتيجية معرفية، حيث خولت له الإحاطة المسرح العربي وبالتجريب والتنظير في الابداع والابداع بالتنظير. “وبالتنوع الذي حدد خارطة القراءة النقدية في المسرح العربي الا الوجه الأخر لتجريب المناهج في القراءة، سواء أكانت منهجا واقعيا، أم تاريخ أو اجتماعيا، أو تبنت السيميولوجيا والبنيوية والأنتروبولوجية…”[9]. بهذا فالممارسة الدرامية لهذا المخرج، لا يمكن أن تتم إلا من داخله المسرح، ولا تكون هذه القراءة إلا مساهمة فعالة في الممارسة المسرحية، ممارسة تؤسس فرجتها ونقدها المتجدد، لأن الاشتغال بالممارسة النقدية عنده، هو الاشتغال بالتيمات التي تسيج الذات المبدعة وتجعلنا نعرف من نحن إزاء الأخر؟ وكيف نعيش في غياب الثقافة المسرحية، يقول “عبد الكريم برشيد”: “لم يكن النقد المسرحي في تجاربه الرائدة وصفا للمعرفة وللمعلوم، ولكنه كان تأسيسا حقيقيا لهذا المسرح، وبهذا يصبح البحث عن المصادر والمراجع عمل من أجل إيجادها أولا وهكذا ما يمكن أن تستشعره في تجربة عبد الرحمن بن زيدان”[10]. من هنا يقوم حسن العلوي بإعادة النظر في الخطاب المسرحي القائم وتفكيك المفاهيم المتعارضة والمتقابلة للكشف عن ما بينهما من علاقات وتبادلات، ويجعل فعل النقدي حقلا للبحث عن الحقائق التي تفرض نفسها علينا كخطاب[11]. فهذه الخاصية التي يتميز بها المسرح التجريبي هي عباره عن ثورة على كل الانماط التعبيرية التي لم تعد قادرة على مسالة الواقع العربي، ولا على فهم تناقضات العالم، ولم يعد في مقدونيا ان ننتقد كل الرموز والاشكال الدرامية التي تشغل الوعي الواقعي قصد كتابة جديدة، وكل ما يقدم الحقيقة الإنسانية في صورة وجودية لا تحجبها التمزقات ولا الشعارات المزيفة، الشيء الذي جعلتنا ندرك ان المسرح عنده يخضع للتطورات وللحساسيات في كل اشكالها المرتبطة بنقد للواقع، والإنسان وللوجود وللمعرفة، فأصبح المسرح عنده قدرة كبيرة ورؤية حيوية متنوعة ومختلفة بكنهها في إدراك الذات التي تتسرب الى العالم لتكون عتبة لكل التأويلات التي تشكل وجودها في ممارساتها.
من هذه الزاوية تولدت عنده حركة الأسئلة في الممارسة الثقافية والدرامية والفكرية والاجتماعية، وداخل ورشات نقدية، لذا يقول الناقد العراقي “حسين الأنصاري”: “لا تقتصر جهود الناقد والكتاب على حركة المسرح المغربي فحسب، بل تبدو بصماته واضحة في حركة الابداع عموما، فهو أحد رجال الحركة الثقافية والفنية في المغرب، وله حضور متواصل في أغلب التجمعات والمهرجانات المسرحية العربية والدولية”[12]. فحسن العلوي في تمسرحاته الدرامية هو مظهر من مظاهر التواصل الثقافي والمعرفي، وإن كان الاعتراف ممكنا بواسطة طرائق متعددة، لأن دينامية المسرح تعد قراءة من بين القراءات التي تتكشف بالنقد وبالرؤية الثقافية، وتعمق الصورة لتحيي زمن التأسيس، ولتبحث عن حالتي الاختلاف والائتلاف، لذا يتميز فعل المغايرة بأسئلته وبنظرته الحقيقية للذات والعالم و يقول “ابن زيدان” في هذا الصدد: “يمكن للناقد المسرحي العربي، ويعرف أشكال وجوده ويعرف الكيفية التي يفكر بها المجتمع والمؤسسات والأفراد مسرحيا وكيف تنضبط العلقات داخل هذا المجتمع وما هو هامش حرية التعبير وحرية التفكير والاختلاف واللقاء والتجمع والفرح…”[13].
إن هذه العملية الاخراجية تمثل بداية الوعي، باعتباره فهما وادراكا للمنسي والمضمر، وما يمكن ان يتضمنه من تفسير او تاويل. والفهم المباشر للواقع الذي ليس بحاجه الى تفسير وتأويل، لأنه اذا استعصى الفهم البديهي المباشر، نشأت الحاجة الى التفسير اي فهمه من الدرجة الثانية اعتمادا على منطق اللغة او توجه النص وسياقه، فاذا اخذنا البغداديات وموز وتفاح والكود واليام اليام، هي خطابات مفتوحة على الواقع، قابلة ان تستوعب الانسان والوجود الممكن، والعد الزمكاني الأمثل، والسؤال الأفضل لكي لا يصطدم التفسير بمنطق اللغة وبالواقع[14]، لهذا فرضت ضرورة التجريب نفسها وعمت روح العصر وظهرت الحاجات الى التاويل باعتباره اخراجا للفظ من معناه الحقيقي الى معنى مجازي يقول “بول ريكور” pul Ricoeur, “إن عمل الفكر الذي يحاول الكشف عن المعنى الخفي، هو ابراز مستويات الدلاله الحاضرة ضمن دلالة اخرى حرفية”[15]. وعلى هذا الاساس ان المسرح في بعده الاجتماعي يمثل نماذج لمواقف نظرية، وكذا تفصيلا للفكر او تبسيط للمفاهيم وتكملة ضرورية للتوسيع في مجال التفكير في النصوص الممسرحة الدرامية المختارة التي تحمل مضامين معرفية محددة، غير ان هذه المضامين لن تسمح لنا بفهم الواقع العربي بكل ما يحمله من تناقضات، وما يحكمه من ايديولوجيات وعقليات واخلاقيات. الا باستثماره بشكل منهجين وبنقد متماسك يحفز المخرج والمتفرج على الانتباه والمشاركة في بناء النص، بوصفه لحظة تطبيقية يتم فيها الوقوف على مواقف فلسفية معينة أو أفكار ومفاهيم وطرق للمعالجة والتحليل.
كل هذه الوقائع والمفاهيم التجريبية تمثل موقعا هاما في إدراكه أولا وكموضوع خارجي محسوس كموضوع للإدراك البصري، ثانيا إدراكه كأبعاد واقعية وكخطوة تمهيدية قصد التعامل معه في لغته المسرحية وأسلوبها المعتمد في الكتابة، ولتبدأ معها بعد ذلك عملية الإدراك الحقيقي لفهم معانيها ومضامينها المحورية منها والفرعية، بدءا من إشكالية وأطروحات الموجودة في المسرحيات لأن هذه التقاطعات في البغداديات والبلوكاج، تقدم عمق الواقع وعمق الرؤية التي تبصم سيرورة هذه العناصر لتجعلها ناطقة بدلالتها العميقة في تجلياتها وفي تمسرحها، سواء تعلق الأمر بتجليات هذه التقاطعات في العلاقات المناصية وما تنتجه من تأويلات وإيديولوجيات، أو تعلق الأمر بالانزياحات التي تحققها الإبداعات المسرحية، كاستجابة . بعيدة عن التطابق والتماثل.
إن قراءة المسرح عند المخرج حسن، يعطينا مدلوله الذي هو موضوع التأويل والاختلاف، ويحدد لنا الدوال والمفاهيم التي تتحدد إشكالية المسرحي في تضاعيفه، ويتولد فيها الأبعاد التمسرحية في عمقها وعمق تراثها وثقافتها، لينتقل بها إلى ما هو أعقد وأكمل. لان الممارسة الدرامية هي ثقافة وليست طقوسا معيارية، لأن القراءة التمسرحية لديه هي قراءة مضاعفة متعددة التساؤلات والتأويلات، تؤطر المرحلة النقدية في شكل وعي تجريبي جدلي، يتجاوز أعماق الكتابة لإنتاج أنوية تمثيلية وأبعاد جمالية جديدة، على اعتبار أن هذا التمسرح هو في صميمه انتماء للثقافي، ينفي براءة الخطاب المألوف ليورط المتلقي في الفعل الإبداعي والنقدي. هذه القراءة المتعددة حسب المخرج حسن العلوي هي فعل وصيرورة لا تنتهي، وليست اختزالا للأخر الذي لا يحتويه، ولا تفسيرا للعالم الذي يتبوأ مكانة بما هو شمولي. إذ لا ينبغي أن تكون هذه المقاربة التمسرحية التجريبية مقارنة تنبني على الاختلاف وحده بل “يتحول كل فعل درامي الى اختزال جديد”[16].
فحسن العلوي إذن يتناول المفاهيم كممارسة تجريبية تقترن بنظرة واقعية تستبعد كل المقولات التي لا ترتبط بالوضع من أجل بناء التاريخي الجديد ولكي تساهم إسهاما كبيرا في إرساء أسس النقد وحركته الداخلية. لهذا يحضر المسرح بما هو جزء لا يتجاوز من واقع المجتمع والفرد، ليعطي لهذا الواقع عنوانه الحضاري ومزاجه النفسي والفكري. لأن طرح مسألة الحق في الاختلاف كبند جوهري ملازم ، أدى بحسن العلوي إلى التأكيد على ممارسة الاختلاف والمغايرة، بوصفه بندا أساسيا يخضع النص والعرض للتجريب، حيث منح لهذا البعد الدرامي الممسرح بعدا جماليا وأخلاقيا وسياسيا، لا ينبغي محوه ولا إقصاؤه، من هنا جاء التأسيس والتجاوز كاستراتيجية توجد في هذا الامتلاء، وتعمل على تدمير اللغة والكلام، لكي يصبح نقد الممسرح متعددا دون الانحياز الى المطابقة والتماثل، وهذا ما سنراه من خلال المفاهيم الموجودة في المسرحيات التي ذكرتها: كالصراع – المقاومة – التبعية – الانحياز – الاستشهاد – السياسة – الموقف – الغضب – الوثائق – الكذب – الخير – النفاق – الحركة – الوعي – الرفض – التعاون – الانفصال – الانتهازية – القوى – المحافظة – العروبة – الجدل – العقلانية – الإقليمية – الممارسة – الشخصية – الالتزام – العائق – الهوية – العنف – الامتداد – الافاق – الثواب – الاقتباس – المصادرة – النهضة – السؤال – المثقفة – الحركة – السكون – النفاذ – الرهان – السلطة – الازمة – الوطن – المعاناة.
ان هذه المفاهيم التجريبية هي أنوية معرفية وتاريخية وسياسية ونفسية، معتقة بما جعلها عبارة عن نصوص للمتعة البصرية، نصوصا تكتب بالرموز و بتاريخ الزمن العربي والمغربي الجريح، وهي بدورها تكتبه، لا لكي توثقه وانما لتملا فراغاته الممكنة، ولتضع فيه من كيميائها السحري إنسان الرؤى والمواقف التي تنتقضه، فهذه المفاهيم الذاتية المبدعة والناقدة تمد الرمزي والتجريبي بواسطة لغة ماكرة تقول الاشياء والاشياء، حيث تكشف المعاني والدلالات برؤية تركيبية لا متناهية، لأن النصوص الممسرحة تتكون من مجموعة من البيانات الاساسية المضطلعة بوظيفتها الدلالية وفي تلاحم الحدث، وهي بيانات ترتبط بحركية النصوص التجريبية، وتركيبات درامية تتصارع فيه المصالح والانتماءات الطبقية، لان هذه الرؤى تتزاحم في نسيج الواقع الممكن لتخلق عوالم محتملة، والتي تمتزج فيها النواهي بالأوامر، والسكون بالحركة، والسعادة بالعنف، كأن الذات لا تكتب، بل هي التي تتحول الى عتبة عليا مفتوحة بدون هوية ولا تأليف ولا اسم، تستطيع ان تبدع لتتجاوز مناطق الجمال وتاريخ الكينونة المسرحية كسؤال النقد في كليته لا كسؤال ابداع الخاص في تجلياته الحية، وبالتالي فهو انتقال واضح من التحليل التاريخي[17] للمسرح الى الامكانيات الوجودية والتنظيرية[18]، فهي التي تتجلى من خلال العلاقة الاخلاقية والمعرفية التي تربط الانسان بالأخر، ولعل هذه الامكانيات الإبستيمية المتحدث عنها هنا، غير منفصلة عن وجودية المسرح العربي، لان الزمان الذي يسجينا والمكان الذي يبدد افقنا لا يمكن ان نستوعب منعرجاته دون استحضار الاخر[19]، سواء البعيد او القريب منه، وهذا الاخر نلمسه من خلال الحوار المسرحي كخلاصة مكشوفة ودالة حول المسارات المختلفة التي اثرت من قريب او من بعيد على المسار الفكري لدى ” حسن العلوي”، مع ابراز حدود تأثير والتأثرو المساهمة التي قدمها الدرس البيداغوجي المسرحي بما هو منهجي الذي يسمح لنا بإبراز الدلالة داخل تجربته المعرفية، والانفتاح على علاقة المسرح بالواقع الممسرح ، وما هو مشترك بين المناهج ومجال العلوم الانسانية، وحدود الاتصال والانفصال، ككيفية التمييز بين المسرح والادب، المسرح والسياسة[20]، فتمثيل هذه الحوارية المتحدث عنها دفعتنا إلى تحويل السؤال من سؤال الوجود المسرحي الى سؤال الانسان، معتمدان في ذلك على تنوع القراءات، كفلسفة اولى التي تحول الواقع العربي الى ما هو محسوس و ملموس، انها مدخل الى كل انواع التفاعلات الايجابية المتجسدة في التفسير والتأويل، وتفكيك كل رؤية تتنافى مع الشروط المعرفية الموضوعية، بما هي ميل الى حفظ الفكر التجريبي حسب “حسن العلوي” من هنا تأتي مشروعية تأسيس المسرح التي تراهن على المشروع التنظيري في عمق هويته ومسؤوليته و التي يتجاوز الفضاء، للحديث عن التجريب الممسرح على الركح. لذا ينطلق حسن العلوي من مبدا اساسي وهو أن الانتقال الى العرض المسرحي رهين بالاعتراف بالمسرح والمسرحي، وهو اعتراف قوامه المسؤولية الممارسة الفعلية للمسرح من طرف صاحب القراءة الذي هو المخرج حيث تظل دوما متوترة، وهذا لا يعفينا من تجمل مسؤولية الاعتراف ومسؤولية الكتابة والابداع التجريبي.
وهنا يطرح السؤال: هل يتعلق الامر بنمط من انماط المعرفة التجريبية الظاهراتية عنده؟[21] ان ما يميز قراءة حسن العلوي هو تحرره من العوارض الكلاسيكية وادراكه للأحداث والمواقع في سياق الفهم والقصد الدالي، فلم يعد رهين سلطة المؤلف المخرج، بل اصبح رهينه الانفتاح القصدي والشعور الذاتي والسلوك في امتداداته الاجتماعية والاخلاقية والنفسية، وبتحقيق الوجود القصدي لهذه الدلالة لتكون تخريجاته قد اكتسبت معنى عميقا بفضل ما سيقدمه من نقلة نوعية في بحث اسئلة مغلقة ومتوترة حول الراهن، إنها اسئلة تتجه نحو الواقع والانسان باعتبارها اختزالا للتمثلات والمقولات التي ليست في تحققها بنفسها، وليست نهاية بل هي تتجه نحو الاتي المستخرج من النصوص كأبعاد تمسرحية لان حسن العلوي تعامل مع العديد من الكتاب كعبد الكريم برشيد وحميد الطالبي ومحمود الكغاط ومحمد مسكين وغيرهم من المبدعين، لذا يبقى سؤال المسرح مفتوحا عنده وغير مختوم باجابات وردود محتملة، حيث لم تتبلور النهاية بشكل مباشر، لان التعامل مع التوارث المسرحي هو تعامل يقربنا من الخصوصية والجغرافية ومن كل التراكمات التي ولدت في زمن المسرح، لذا يبقى مفتوحا على كل تأويلات و يدفعنا نحو “مغادرة الماضي الى المستقبل لتخرج مما هو خاص وماضي، الى ما هو عام ومستقبل ومطلق”[22].
وانطلاقا من هذه المنظومة الفكرية والدرامية، فان هاجسه هو البحث عن التأصيل المسرحي قصد بناء صيغة مسرحية لها التعدد التاريخي والديني والاجتماعي والرمز ي، وهي ايضا عبارة عن ذاكرة متنوعة تأخذ صورا واشكالا عديدة”[23] لذا سعى حسن العلوي الى البحث في مجال التنظير والتجريب، لضبط مكونات المسرح واستيعاب خصوصياته المعقلنة ومقوماته الجمالية التي ارتبطت منذ زمن بالعرض المسرحي العربي، غير ان الذي حصل ان المسرح العربي واجه اسئلة كبرى منها:
– ما علاقته بالواقع العربي المهترئ؟
– وعلاقه بالايديولوجيا المهيمنة؟
– وعلاقة السياسة بالمسرح التجريبي؟
– وما علاقة المسرح بالمؤسسات الرسمية؟
– كيف نقرأ الانا والاخر من خلال النصوص المسرحية الممسرحة؟
إن هذه الاسئلة الجوهرية شكلت تحديا للمؤسساتي وللمسرح الميلود رامي الرخيص، حيث شكلت ارضية فريدة في الثقافة العربية والمسرحية، كما انها امست ظاهرة غير متناهية وحقلا تاريخيا ومشروعا للثقافة المسرحية بكل شروطها الجمالية والتعبيرية، لان الاقرار بعملية التأصيل والتحديث تبدو أولا في الشكل الدرامي مع تقنيات مسرحية تجريبية نحو” توظيف المسرح داخل المسرح على شكل ما يدعو له بير اندللو ميديا المرتجلة”2[24] فهذه العودة للتراث الدرامي البرشيدي لم يكن الا استجابة لرغبة تأسيس مسرح مغربي وعربي بعيدا عن المسرح الاوروبي، حيث نما الوعي واتخذ سؤال الهوية حقيقة فعلية، ويقول “عز الدين المدني” أيضا في حين ان الشرق القديم قد عرف حق المعرفة بتقنيات واشكال اخرى لا تماثل تقنيات المسرح العربي المعاصر”[25]، فهذه الدعوة كما يرى حسن العلوي هي دعوة الى العودة الى محمد الكغاط وبرشيد والطالبي واللعبي باعتبارها استراتيجية، وضرورة تاريخية تقربنا الى الحكواتي والاحتفالي والمقلداتي والاسطوري والحلقي، لبناء اشكال فرجوية جديدة مع الاعتماد على الوجدان العربي، ويقول،” علي الراعي”: “ان العناصر البشرية المستمدة من التراث، لم تكن تستعمل كل هذه الاشياء”[26]. لقد وعى المسرحي حسن العلوي بأهمية تأسيس وتأصيل وتحديث وتنظير، كاتجاهات واشكال طيعة تحرص على ابراز متطلبات الجماهير، ويقول ” الطيب لعلج”: ” استوحيت التراث المغربي والقصص المغربية والخرافات، التي كانت استظهر منها والكثير حولتها الى مسرحيات فتوخيت من صياغتها البساطة، واستعملت الحلقة المغربية والراوي وكل انواع المسرح المغربي الفطري، واتصلت بالناس من خلال تجارب المسرحية، رقبت ردود الفعل عندهم وحاولت ان اجعل المسرح بالنسبة لهم ضرورة”[27]. فاستحضار المخرج لمحمد الكغاط ومحمد مسكين وبرشيد وونوس، هو من اجل تقديم قراءة تمسرحية تجربة نقدية تنضاف الى القراءات المتنوعة المغلق بالاعتماد على توظيف تقنيات جديدة[28]، لتصبح ركحا فرجويا وتأويلات عمودية وافقية، فمع هذه الاشكال المناصية، قد عمل حسن العلوي على بناء رؤية جديدة وذات خصوصية متنوعة، رؤية ابداعية تهدف الى عقد قران رمزي مع الجمهور بكل انواعه، كما مهد الطريق امام الاجيال القادمة للاستمرار في البحث والتنقيب في طرح الاسئلة والاجوبة المقصية والراغبة ” وذلك لتحقيق الهوية والعودة الى الماضي لإعادة إنتاجه مسرحيا والاستفادة منه” .[29]
فهذا التحول كما ذكرنا في مجال التراث، يطرح أكثر من اسئلة فيما يتعلق بالخلفية التراثية المحركة للمفهوم الابداعي لدى حسن العلوي، لأنها الخلفية التي تبدو مفتوحة على كل النماذج الانسانية والاسطورية، كونها ظهرت في فترة حاسمة. من تاريخ العرب الذي اتسم بالتشظي وما ترتب عنه من التحولات الجذرية من اهمها المواجهة مع الكيان الصهيوني، والاستقلال الاقتصادي والثقافي، وبمعنى اخر، أن البعد الايديولوجي للمسرح عنده له حضور قوي ومؤثر، حيث تتجلى معالمه في الدعوة الى اعادة النظر في الواقع وفي الانسان وفي الفكر والثقافة والهوية[30]،1 لهذا وعى حسن العلوي بشكل كبير دور توظيف التراث في المسرحي، مع استدعاء احداث تاريخية وشخصيات كما هي مرسومة في الذاكرة العربية، وفي نفس العربي، بوصفه رمزا للقوة والتحرر ومحاربة الاضطهاد والاستغلال[31]، فتوظيفه لكل التجارب المسرحية المعاصرة التي اعتمدها في عروضه وتجريبه وفي وقوفه على بعض الاتجاهات المسرحية، جعلته يربط الممارسة المسرحية بالمجال الثقافي المغربي والعربي، وليعيد الاعتبار للمنسي عن طريق الالتفات الى الانسان العربي والى واقعه فذلك من خلال الاشكال الفرجوية والتمسرحية التي تعمل على تفجير المكبوت لأن ” مركزية القرار الثقافي الذي كان من نتائجها تثبيت مواضيع محدده للتداول الثقافي واقصاء مواضيع اخرى لها ارتباط كبير بوجدان الشعب وبذاكرته”3[32]. فالتراث الممسرح إذن يمثل عتبة مشتركة بين كل الاشكال المسرحية مهما تنوعت مشاربها وخصوصياتها، غير ان هذه العودة لا تكفي لبناء مسرح طليعي متقدم، بل تتحطم معه مركزيات النص ليكتشف ذاته عنصرا متناهيا في شبكة الثقافات المنتشرة في العالم، ويصطدم بالتالي بمحدودية تأثيره ليتوقف على ان ينصب ذاته على انه المشروع الوحيد والأوحد، وبهذا تراجعت بالتالي كل محاولات لكتابة تاريخ المسرح العربي الى حدود القرن التاسع عشر، بعد هذا اصبح من الصعب الحديث عن مسرح بنفس المعنى الذي كان يحمله منذ “محمد القري” و “المهدي المنيعي” الى “الصديقي”.لأن بتطوير رؤيته ، و الذوبان في تيار أو تجربة معينة، جعلتة يقارب بين العلوم الإنسانية والمسرح، من أجل تحديد الواقعة الدرامية كما هي متعارف عليها في المسارح العالمية، وإظهار اللغة الدرامية كنسق تتحدد وحداتها من خلال تقابلها وتعارضها فيما بينها. ومن خلال هذه المعطيات فإن استراتيجية حسن العلوي مع العلوم الإنسانية ستكون مختلفة عما كان عليه الأمر من قبل، حيث عمل على خلخلة البناء المعرفي الذي تابعته الكتابات المارونية (مارون النقاش) والصنوعية (يعقوب صنوع) والشوقية (أحمد شوقي) والتوفيقية (توفيق الحكيم)، باعتبارها وسيلة تستعمل التراث وذلك لتجعل منه نقطة الانطلاق، فتمنح لنصوصها صفة الحضور الوطني داخل التراث وذلك من خلال مفاهيم (الأنا-الماهية-الذات-الوعي)[33] .لكن حسن العلوي المراني أقر بأن التراث المسرحي يجد أصوله في كتابات برشيد، والكغاط ومحمد المسكيني واللعبي مادام أن غاية المسرحي واحدة وهي تطابق بين العرض والنص، والروح والواقع، فلا معنى للشذوذ عنده، بل لا وجود للتقليد وإن وجد، فهو نتيجة قراءة خاطئة تستوجب منه أن يدمجها في الكل، فلكل شيء مكانه في التاريخ، ولذلك فما التاريخ والطبيعة والفكر إلا تعبيرات مختلفة تنزاح عن طابعها السلبي، لتأخذ البعد التاريخي التجريبي ولتبحث عن التعاقبات الخطية، لأن المسألة أمست تتعلق بخلخلة مفاهيم “الاتصال والصيرورة والغائية والشمولية” ورفض كل كلام عن البنيات الساكنة. وهذا ما جعل حسن العلوي يقر بالبحث عن سمة تجريبية التي تجعل الواقع غاية الإنسانية، وتربط تاريخ الإنسان العربي بواقعهه والحفاظ ايضا التراث المسرحي من أجل إقرار تلك الأصالة، وهذا بالضبط ما أكده في مراجعة الدرامية لكل التعابير التي استعملت كمسلمات في الصراع و البحث في هذه الكتابات عن موقعها في تاريخ المعرفة الدرامية، وعن الصلة الموجودة أو المفقودة أو العديمة في عملية الكتابة، متسائلا عن دورها الحقيقي وعن اندماجها في مجموع “الحياة وفي مجموع من السلوك، وفضلا عن ذلك كثيرا ما يحدث أن يكون السلوك الذي يسمح بفهم الأثر، ليس هو بسلوك المؤلف، بل سلوك جماعي اجتماعي قد ينتمي إليها”[34].
إن تأسيس العلاقة مع المسرح هو ضبط كل تمفصلاته وأبعاده الاستراتيجية التي تقربه من أوليات التاريخ المسرحي والنقدي والجمالي، لأن التراث المسرحي الذي يتخلل الموضوع يجعل فكره غير منفصل عن التجربة الواقعية وعن نسيج الملموسات التي يؤطرها فعل الممارسة، بحيث يصير وجه التراث الدرامي مؤهلا بشخصيات درامية ومفاهيم نقدية وفكرية، فهو المخاطب ذاته باستمرار والمتحدث من داخل انهياراته وتأويلاته ومواقعه وتساؤلاته الحضارية، ليصير البحث النقدي يقظة جديدة للمغايرة، واستعادة للقدرات اللاواعية الكامنة في المتون المدروسة لكل من المسرح العربي والمغربي، إنها استعادة لتلك الفعالية التي قال عنها “نيتشيه” بأنها لا واعية، والتي ترسخ خط الإشكالية التي طرحها، حيث يقول: “إن الدخول الضروري في التجريب، باعتباره وعيا للذات في الزمن بوصفه دينامية وحركة وتغيرا وتقدما يسير نحو الأمام بوصفه أيضا فعل توتر وقلق ومغايرة، وبوصفه كذلك يمثل الوعي الضدي للأخر- الغرب”[35]. فهذه المقاربة هي الممارسة الإبداعية واللغوية، و صراع القوى الرمزية، التي تتجاوز الموضوع الدرامي كفضاء اليقين بلغة درامية ليؤسس السؤال افقه الاتي من داخل المتون المدروسة، باعتباره سؤال السؤال الذي يستوعب كل التناقضات النصية والواقعية والسياسية والتاريخية، من اجل ان تسير “رواجا لتمرير ثقافة القوي للضعيف و لتوكيد ثنائية التابع والمتبوع”[36], هذا الاستيعاب عند المخرج هو بمثابة وعي ضدي للمبدع المسرحي تجاه الغرب من اجل ابداع المختلف والمغاير، وفي هذا الاطار يطرح السؤال التالي: ” لماذا تظل حريه التجريب قائمه على الانفصال عن الاخر، للبحث عن خصوصيه التجريب المسرحي بتعدد لغتي وبوعيه الضدي”[37], ، لأن التعامل مع التراث يبقى دوما مفتوحا وغير مختوم، حيث يتطلب ملء الفجوات والنقص والبياضات والتقاطعات، ليسعى الى جعل النصوص الموازية عباره عن غواية متجدده تقوده نحو التعدد والتركيب المتنوع والبناء الدلالي المختلف، حيث أن هذا التعامل لا يتأسس الا اذا نظرنا اليه كخطاب وكحيز تتخلله مجموعه من الفجوات والعلاقات والانتظامات، لان الغاية هي تغيير وتوسيع مفهومنا للقراءة الدرامية، وذلك بفحص ادوات المعرفة وتحليل نظمها الممسرحة، وصولا الى بناء عالم وممسرح يكون اكثر فعالية في اظهار الواقع الممكن، لهذا فالمخرج المبدع حيث لا يرفض الاتصال، بل يرفضه كمعطى اول واخير، يقول عبد الرحمن بن زيدان في هذا الصدد: “من العبث رفض العرب ورفض التعامل معه, لان فعل الرفض يبدو مجانيا عندما يلغي الزمن الذي يتم فيه الفعل ورد الفعل، في الرفض الاعمى خيانة للحظة الزمنية، وتنكر للتجربة وانكار للتمزق الحضاري الذي جعل العربي متذبذبا بين الحضارة مختلفة تشيئه وتحد من تطلعاته في البحث عن الانعتاق، وبين حضارة عملاقه تظهر بقزميه وتتحداه بإنجازاتها”[38]
ان التفكير الدرامي رؤية وتعبير يؤطره المكتوب والمنطوق، انه سلطة وتأسيس للروابط الاستراتيجية الدرامية، لذا يطرح السؤال: كيف قرا المخرج التراث المسرحي؟ هل الذات مصدر الخطاب؟ ولماذا رفض التراث كمعطى اولي؟ وكيف التعامل مع المفاهيم والصيغ باعتبارها استراتيجيات درامية؟ أسئلة تبحث عن سكن جديد، متماهية مع صورته المثالية النقدية و ملغية كينونة الاختلاف، الامر الذي يجعل هذه المقاربة تحاور المناهج والتيارات الفكرية والفلسفية، كما لو كانت تؤرخ للعصور الأدبية وللحقول المعرفية، لان المعالجة النقدية حسب المخرج ليست رد فعل ارتكاسي، ولكنها التعبير عن نمط وجود الاختلاف المنهجي، المرتبط بالوعي وبالزمكان وبالتاريخ، يقول ابن زيدان في ذلك: “ان تلاقي الثقافات يبرز لنا قدره الأنظمة الثقافية اما على مواجهه الاستيراد الثقافي, واستيعاب الثقافة الخارجية بتحويلها الى اجوبه قابله للاندماج في نظام اسئلتها واجوبتها الكائنة والممكنة، واما انها تصبح غائبه عن مجال السؤال والوعي والنقد الضدي”[39].
فهذا الوعي الضدي يكون دوما ذاتا ضدية، اي انه يتخذ في مسوغته صبغة تغريبية، رافضا كل ما هو ماضوي ومألوف، وما هو متصالح مع الواقع، رفض يلتحم مع الفلسفي والتاريخي والنقدي، ويتثاقف مع الحاضر والماضي والمستقبل، فهذا يتعلق إذن بسقف عقلاني الذي يحيل على ما اسماه ابن زيدان بالتثاقف بين الأصالة والمعاصرة، ويقول: ” تكتمل الأصالة ولا تتحقق في الثقافات الا، باكتمال الشرطين الاساسيين التاليين:
1 حيوية وجود الدراما في العرض المسرحي.
2 حيوية وجود المتلقي العربي المبدع والناقد للعرض”[40].
فالعناوين الممسرحة كما قلنا تشكل ميثاقا يلزمنا الخوض فيما تختزنها من استفهامات افتراضيه التي ولدت عناصر، وتساؤلات منخرطة بكل الياتها واستراتيجياتها للممارسة الإخراجية، وبالتالي فهي تستند الى مناهج لتضل محتفظة بقيمتها المعرفية والنقدية، لان المعرفة الدرامية الممسرحة ليست سوى لحظه من هذا التاريخ الذي ندخله والذي يقودنا الى الوحدة، اي الى حقيقة الكتابة[41].
ان النص الممسرح لغة ثانيه، يختلف من حيث قضاياه ومناهجه باختلاف اللحظات التاريخية، وباختلاف نمط الابداع السائد في كل عصر، وهو يتوق الى الامساك بحقيقه الكتابة والابداع والثورة على اللغة والوحدة السائدة في المسرح و ” لغة الكلام” والدعوة الى لغة شاملة ومركبه[42]. وتأسيسا على هذا التصور استطاع حسن العلوي ان يطور هذا المفهوم التراثي بانطلاقه من فرضية جوهرية مفادها: هو ان يخلق توازنا بين “الفاعل والذات والواقع، ذلك ان كل توازنا بين البنيات الفكرية للفاعل من جهة والواقع من جهة اخرى، يوصلنا إلى حقيقة يمكن فيها للناقد ان يغير العالم، فيجعل من هذا التغيير توازن جديدا”[43]
وتبعا لهذا الطرح المنهجي الذي بلوره تصوره الخاص بإنتاج الفرجة، سوف يصبح العمل الدرامي نتاجا لشعور جماعي مستقل عن المألوف، وليمثل لحظة تكسوها التجربة والكتابة، ولتكشف عنها مسرحة العرض ويقول لوسيان غولدمان: ” إن الفكر ليس سوى مظهر جزئي من واقع اقل تجريدا، هو الانسان بكليته، وهذا الانسان ليس سوى عنصر جزئي من مجموعه من الطائفة الاجتماعية، وكل فكره، اثر لا يكتسب دلالاته الحقيقية الا عند دمجه في مجموع حياه معينه ومجموع تعرف معين”.[44]
فهذه المسرحيات المسرحة هي عباره عن فضاءات ومفاهيم وازمنة، لهذا وظف حسن العلوي المراني عدة قضايا مرتبطة بالهوية وبالاختلاف وبالعولمة والحرية والديمقراطية وبالمثاقفة والوعي والجدل، جاعلا من كل هذا ارضية ينبغي ان تفهم من جهة الانسان والعالم، حيث لا يمكن ان تخلق ابداعا او تجرب فكرا في غياب الحرية والديمقراطية، فلابد من طرح الأسئلة التي تلتقي “في موضوع واحد هو موضوع الهوية والمسرح”[45]. فهذا البحث التجريبي هو الذي دفعه الى معانقه الاحتفالية من اجل التعبير عن رؤيه متناسقة للعالم، سواء على مستوى الصورة المفهومية او على مستوى الصورة الحسيه، فبقدر ما يكون عالم الاساطير والرموز الاحتفالية عالما منظما يشكل وحدة بنيويه، بقدر ما تكون والثورات التعدد الحسي للعمل الدرامي، بقدر ما يكون ” المسرح بتدفقه الدلالي الاكثر قدرة على الاحتفال والتجمع واللقاء”[46]. إذن فالمخرج يسبر اغوار الذاكرة لكي يؤسس لنا فجوة جديدة ولكي يشارك الانسان في اعادة ترتيب البيت الاحتفالي، لان تجربتة هي عمليهة استرجاع فطري استثمر فيها جهودا متنوعة قضاها في عملية التحولات الفنية والأدبية والفكرية، وادرك ان تقليد الاخر لا يقدم اضافات جديدة الى وعينا المعرفي والمسرحي، ولا يمنحنا خصوصية متميزة. ومن ثم كان هاجسه هو البحث عن صيغة مسرحية تنفلت من القالب الغربي، لذا دعا مع مجموعة من الباحثين الى مغادرة الغرب من اجل ايجاد التعبير الجماعي عن الحس الجماعي وعن القضية الجماعية[47]. وهذه الصيحة التجريبية منحت له سلطة معرفية، طرح عبرها عده اشكاليات ومسائلات، انه لا يترجم الحقيقة الواقعية كحقيقه جاهزة ما دامت كيمياء الكتابة المسرحية تعيد تركيبة الواقع وفق تصور غير مؤدلج، بل ليخضع الفعل الدرامي للتخريجات وللتأويلات وللإنزياحات. لأن التجريب هو التعبير الكلي عن قضايا الكل، حيث تتأسس في مقابل غياب قراءات موضوعية كوجود مرهن، في حين يتحدد حضور الإنسان العربي في الزمكان، ويتحدد كعلامة في فعل الغياب وينكتب كأخر تحدد له الثقافة الهامشية، وعبر فعل القرائي تترهن قيمة الذات لتخزن يقين السائد والإضافة بالمنظور الابستيمي الغربي، ولتأسيس خطاب مسرحي عربي يستفيد “من إيجابيات الأسس والمفاهيم التي تمت بها صياغة نظريات المسرح العربي – خاصة-والغربي عامة”[48]. فالقراءة التجريبية تتطلب الانفلات من سطوة إشكاليتة المقاربة للتراث لتجعلنا ندرك أن هذه الأنا المنكتبة تشيد فضاءاتها في الكتابة المضاعفة والموازية، ولكي تثور في شكل أنوية متعددة تحفل في طبقات النصوص المرتبطة بالقانون الجمالي، فتأخذ طابعا وجوديا لإثبات الذات الممارسة ولتكسير يقين المطلق على خشبة المسرح، لتجعلنا نمتلك أنسجة التواصل المسرحي بلغة دراماتيكية تنمحي بواسطتها المسافات بين الأشياء والذات، ونلغي بعض القراءات المسرحية المرتبطة بصيرورة تاريخ محاصر ويقول “بن زيدان”: “إن أكبر لعنة تلحق بمسرحنا العربي وهو يتعامل مع التراث ويوظفه دون وعي، هي تلك اللعنة التي تتأكد عندما يريد بعض المسرحيين كتابة مسرح يلبي رغبة الأخر “الغرب”، ويلبي حاجياته التي تريد أن ترى واقعنا وهويتنا وذاتنا كما تريده هي، لا كما تريده رهانات الواقع العربي، وهذا أكبر مطب يزيل من المسرح العربي خصوصياته التي تضعه في نبض الواقع ونبض حوار الثقافات أو حوار الماضي والحاضر والمستقبل”[49]. يتضح إذن أن المحرك الجوهري لهذه المقاربة التجريبية هو إعطاء كل قراءة التي “تحمل هما وأدوات معرفية، بأسرار اللعبة المسرحية، ليس بعد نقد صحفي سريع وكتابات سطحية ومتابعات المتعثرة التي لا تساهم في رأي بدفع الحركة المسرحية الى الأمام، كبعد تعويلي لكي لا تدفع بها الى الهاوية والباب المسدود… ويمكن أن نؤكد على هذا النوع، غياب المصطلح التجريبي بمفهومه العلمي، بل وغياب المنهج والتمثل الصحيح لهذا الفن المركب الذي نسميه مسرحا”[50].
تتأسس هذه الأسئلة الممسرحة في التاريخ الثقافي المسرحي العربي حسن العلوي على تقاطعات وتمفصلات، حيث يقدف بها في هذا المجهول ليتحقق التطابق الوجودي المنشود على مستوى المساءلة والمراجعة، من هنا تدخل هذه الأسئلة في خاتمة التوجه العام الذي يصبو إليه حسن العلوي في إطار المراجعة ما بعد النص لكي يخرج التراثات والتاريخ والثقافات من مرحلة الكمون الى الفعل، ومن حالة الإمكان الى حالة الممارسة، ومن نسيج المتخيل الى عالم الحقيقة. وهذا هو السبيل للدخول في مختلف خطابات الإنسانية على قدم المساواة، إذن يتضح أن المحرك الأساسي لهذه المعالجة التراثية حسب المخرج ينطلق من رؤية التي تعتمد عن بعد التجاور قصد كتابة مستخلصة من التاريخ والفن والفلسفة والفكر، لأن هذه القناعات لا يمكن استيعابها إلا باصطدام مع طبيعة الهيمنة القديمة للتاريخ المسرحي الكلاسيكي المغلق حول علاقته بالمنهج أولا وعلاقته بالإبداع من جهة ثانية، يقول ” ابن زيدان” في هدا الصدد: ” إن كل الإبداع يصبح تعبيرا عن واقع معين يرتبط به ويؤثر فيه، لأن خطاب الإبداع ليس خطابا بريئا، بل يعبر عن رؤية يدافع عنها ويكرسها لخدمة قضية معينة،”[51]
يتشكل هذا التراث من مجموعة من القضايا الإنسانية والأدبية والدرامية، حيث يمثل خطاب الذوات، ويشكل نسقا مرجعيا للكتابة وللنقد، وكذا صيرورة دينامية، التي تجعل من المنظور التأويلي يتأسس على تطريز العرض بجماليات التذويت.
الإخراج المسرحي ونقد الذات المتعالية
برزت الحركة النقدية المسرحية في الساحة العربية، نتيجة إنفتاح الفكر العربي على الثقافة الأوروبية وإحتكاكه بها، وقد تمثل مشروع هذه الحركة في تحرير الفكر والأدب من القيود التي ورثها عن عصور التخلف والجهل، وبعثه على مسرح الحياة والفن، عن طريق احتكاكه وارشاده بالمعايير الجديدة والتيارات الحديثة. وهذا الاتجاه الدرامي كان يستقي منها مقييسها ونظرياتها، لتنشيط الحركة المسرحية والنقدية. هكذا ومند البداية وجدت هذه الحركة نفسها تحاول تحديد طبيعة المسرح ومجال النقد المسرحي، وعلاقته أيضا بالجمهور والمعايير التي على ضوئها يحلل العمل الميرحي، ويستنبط ما يعكسه العمل المدروس من أوجه الجودة والرداءة، ولعل تجربة حسن العلوي خلقت تعدد المعارف التمسرحية التي استلهمتها من هذه الحركة المسرحية، وهو ما يفسر تعدد اتجاهاته التي برزت على الساحة النقدية في مرحلة زمنية واستلهمت عدة تيارات منها: الاتجاه الجمالي، والنفسي والتاريخي والاجتماعي، حيث استطاع المخرج أن يتلاءم مع هذه المناهج قصد تشكيل حساسية جمالية وفنية برؤية تراعي التناسق والوحدة العضوية والصدق والتأويل والفهم الدرامي التجريبي.
ففلسفته الاخراجية كانت ثمرة لفترة تعتبر الارقى والأكثر ثراء فنيا في المسرح التجريبي، حيث تحاول أن يربط بين البعد الثقافي والفعالية الاجتماعية. جاعلة من هذه الأرضية ضرورة توظيفية للإبداع المسرحي في مهام الحياة كسلاح، يستطيع بواسطته الاقتراب إلى الجماهير، لتشكيل وعيهم، ولفتح أعينهم على ما يسود المجتمع من تناقضات، كما في مسرحية، “الفيل يا مالك الزمان” و “مغامرة رأس المملوك الجبار” لسعد الله ونوس” و “ابن الرومي في مدن الصفيح” و “عنثر والمرايا المتكسرة” “لعبد الكريم برشيد”. وأساطير المعاصرة، والكود، والبلوكاج وغيرها، وقد تعايشت المسرحيات داخل هذا الواقع كتيارات متعددة ومتنوعة، مما منح لهذا التجريب فعلا تعبيريا عن مواقف اتجاه العالم الذي نعيش فيه، لذا أصبح هذا التذويت يفتح افاق الترات على العلوالم الهشة للانا. وعلى ما يشكل حرفياتها الدرامية والجمالية، لان الانبثاق من هذه الرغبة المكبوتة هي الكشف عن الاسرار والاستدلة التي قدمت المسارات الجوهرية من خلال حياة النصوص ومن خصائص المادة المثورة والممسرحة، لذا يقدم المخرج الخصائص السردية المنجذبة نحو أثرها الواقعي. من هذا المنظور التراثي يتشكل هذا المشروع كعملية لإبداع الانا / الاخر في صيرورة استيتيقية ومعرفية تشييدية حيث تتطلع فيها الانا الى بناء كينونتها، وهذا ما يجعل خطابها يظل في حالة العدول الدرامي النصي يأخذ بعدا دراميا ،لذا فحسن المراني يحيل دوما على المتعدد والمحتمل، لأنه محكوم برغبة القراءة المتعددة ويقول في هذا الصدد: ” ونحن حين نبدع الترات ونجرب التراث المحلي أو العالمي، فهذا يعني ان الابداع ليس تهريبا للحالات من الماضي لوضعه في الحاضر، وليس سرقة موصوفة للموجود، ان التراث ملك انساني وترات عالمي تتحاور به مع المسرح اليوناني والكلاسيكي والاليزابيتي ومسرح النو، والكابوكي والكاتاكلي، وكل اشكال وانتاجات المسرح في العالم”, ان هذا الموقف يكون مغايرا للمعرفة الذوقية، انها المعرفة المتعددة والمتنوعة التي يصبح فيها المفهوم والمصطلح استيلاء وامساكا لنمطين فعالين للمحو أو التجسيد الضروري لهذه الذات الفاعلة، وبواسطتها يتخذ هذا التراث الذرامي رؤية تقتضي الاختراق لوحشية الوجود، لذا عمل على ولمساءلة المسرح من خلال سلطة المبدع المخرج، جاعلا منه إشكالية تندرج ضمن أفق أكبر في البحث النقدي، حيث يوظف الرؤية المنهجية بمختلف مباحثها الفرعية والاصلية، مدافعا على المقومات الابداعية باعتبارها العتبة العليا لهذه النهضة والحداثة. إن المخرج حسن العلوي في إبداعية يصوغ علاقة الإنسان بوجوده الممكن عبر تجربته التاريخية، كإمكانية لتأسيس التجريب المسرحي، كما قلنا، لأن عملية التأسيس لاتتم من خلال تشكيلة الخطاب التمسرحي والمعيار التجريبي الذي يولد المفاهيم، وينتج التناصات الدرامية. من هنا أصبح البعد التمسرحي عنده كمعادل للحدثة، وكنتيجة السيادة الكاملة للتفسير والترشيح، وايضا كعملية تاريخية تخلخل المركزية النصية. فالمخرج المسرحي إذن يدعو دوما الي التأسيس والتأصيل، وكذا الي التحديث، في الوقت الذي أصبح فيه الخطاب الدرامي يتخذ من خطاب الحداثة المسرحية موضوعا له، فيحمل فيه النقد قصد اكتشاف اسسه المعرفية والجمالية، وبناء فكر اختلافي هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن لا إلا خراج المسرحي عنده.
يقع في فضاء اللاعقلانية النصية الممسرحة ويقول “مقدم نديم عبود”: إننا في العالم نعيش حداثتنا غير منقطعين كليا عن العالم المنزعم بالحداثة والعقلانية التقنية ،لذلك يتهاوى الاعتقاد الذي يفيد بأن هناك هوة تصل إلي حد القطيعة المعرفية التي تفصل بيننا وبين الغرب”[52].لقد تبين أن المخرج المسرحي حسن العلوي عمل علي تقديم مشروع مسرحي متنوع وجديد للواقع العربي ،مشروع لا يستجيب لمقتضيات النسق المهيمن، الذي يتخذ من الخارج قاعدة أساسية وجوهرية في النظر الي الواقع والعالم واللغة .وهذا ما يدفعنا الي التفكير في نوعية التوظيف التجريبي، من الناحية التاريخية التي جعلت الذات تفر من ضغط الذاكرة، قصد الذوبان في التجريب. ويقول الدكتور عبد الله العروي: «إن الغرب هو التقنية بدون عبارات وبدون مقتضيات سوسيولوجية، وهو يؤمن بوجود تطور عام للبشرية، ليداري لا في أهدافه ولا في مسابقاته تطور يقاس كميا، ويفرض وسائل استخدامه ووضعها قيد العمل، ويصبح كل شيء مسألة تقنية التقنية والسياسة، وحتى الحياة الخاصة»[53]. فهدا الرؤية ستكون خطوة الي المتغير، والدخول الي حقل الحداثة ببعض ممتلكات التطور، لأننا نروم الان للحديث عن كون الحضور في السلفي[54] والتقنوي والليبرالي[55] حسب” العروي يشكل رؤية نفسية واجتماعية وتاريخية، ولتتحكم بسير الكلام وفي امتلاك تلك المناهج التي تجسد عمق العلاقة ،في امتلاك الواقع العربي والإسلامي مناهج متنوعة والتي تعتبر حصيلة تراكم تجربي حيث جعلت الاستراتيجية المتبعة من طرف المخرج تقف مواقف عصرانية، دون دعوة الي نهج النموذج الغربي المعاصر، بوصفه غير صالح للعصر، أي النموذج الأمثل والأنبل هو الذي يفرض ذاته تاريخيا علي الماضي والحاضر والمستقبل، ودون مواقف سلفية التي تدعو إلي القبض علي المطابق والتطبيق لأن التفكير العربي المعاصر، ومواقف انتقائية التي تتجدد وتعيد تكوين وإنتاج نفسها باستمرار 《في صيغة واحدة تتوافر لها الأصالة والمعاصرة.[56] إن هذه الاستراتيجية التي تنقب في مكونات ذواتنا هي فعلا محاولة استنباط بعض العلل والعوائق الكامنة وراء هذا العطب الحضاري. وجاعلة من كل الاشكاليات الموروثة والانتقائية والحداثوية عبارة عن تواصل تجريبي يعتمد الدقة. ويقول ” إدريس هاني”:《لقد تمزق عقل التراث وشهد أخطر صورة للتعسف من قبل عقد الحداثة، فما أن بدأ يستل أطرافه من أحل التأويل المادي، من تاريخية العروي واقتصادية <تزيني>حتي احتضنته بنيوية الجابري، وتفكيكية أركون…فطورا تعاسفه ثورية حنفي، وطورا أخر تدغدغه نفسانية زيعور، وأنثروبولوجيا قبيسي ودكروب 》[57].هكذا يحاول المخرج أن يعيد قراءة لهدا النموذج المحفوف بالمجاملة والذوق والخطر، لأن الذوق معياري، والخطر قضية متصلة بكياننا الحضاري والمعرفي والثقافي، فتغير الذوق ومهادنة الخطر هو استيعاب الكائن والممكن والإمساك بتاريخيته وتكوينه، قصد تحقيق مناط ما هو عالمي، لأن حسن العلوي جعل هذه القراءات الركحية《لتكون قاسية في منطقها، نبيلة في مقاصدها ،تصدر عن عقل متأمل وأصيل، في لغة خطابه وآليات تفكيره.. وطموح مشروعه، فإذا ما تحقق هذا الشرط أمكننا إذا ذاك الوقوف علي عتبة القراءة الصحيحة والنظر القويم 》[58]
يبدو لنا إذن في هذا الطرح أن العلاقة الذات والأخر الممسرح، لا تخرج عن تلك التصنيفات التي ذكرناها، حيت يحتوي كل تصنيف على توجه مرجعي الذي يحدد السياق الذي ينطلق منه، والبعد الايديولوجي المميز لكل جانب.، لان هناك في مجتمعاتنا ثلاث مجموعات من الإجابات الايديولوجية الموجودة فعلا والمحتملة هي الاتية:
1- الإجابة التي تطرح بديلا وهميا من خلال العودة إلي الاصول، وتتغدى هذه الإجابات بالحنين الي الماضي، وتعتمد المنهج الميتافيزيقي والتفسير المتجمد للدين. كما في اساطير معاصرة لمحمد الكغاط، والكود لحميد الطالبي
2- الإجابات التي تطرح بديلا مستحيلا من خلال تصور إمكان إنجاز مشروع وطني بورجوازي، علي نمط ما حققه الغرب المتقدم، فتدعو إلي التغريب. كما في البغداديات وتمارين في التسامح ورحلة الخلاص -3الإجابات الصحيحة التي تتفق مع الاستقلالية والطابع الخلاق للمشروع الوطني الشعبي. كما في البغداديات والزماكرية وخيطانو والمجنون لقد كان يهدف المخرج في مجال والتجريب، إلى لتحديد مكونات التمسرح، واستلهام ادواته التقنية والتطبيقية التي ارتبطت منذ الثورة الحداثية بشروط العرض المسرحي، وبمتطلباته الحضارية والفروجوية، غير أن هذا الاستيعاب لم يكتمل، مما جعل العرب يغرقون في التنظير، الأمر الذي أدى الي إغلاق باب الأبداع والتجريب، وأعطب الفعل النقدي الذي كان في حاجة الي تراكم وتكثير، حتى يترسخ البعد الفرجوي والفني، فيتأصل التجريبي جعل المسرحي حسن العلوي يجمع بين الاخراج والتنظير، وقد تجسد هذا البعد في الاعمال المسرحيين امثال: عبد الكريم برشيد والطالبي والزروالي ومحمد الكغاط وعبد اللطيف اللعبي حيث لا تفتقر الى متطلبات الخلق الفني، ولا عجزها على استكمال شروط التأليف المسرحي بل أبدعت [59]، هذا الحس التجريبي جعل البعد الجمالي والفني الذي لا يفقد حرارية الدرامية ولا الفرجوية، بل وتحول الى لاعب درامي تلقائي[60]، فهذه الرحلة الأنطولوجية جعلت المسرحي حسن العلوي يعود الى ذاكرته قصد البحث عن مواد عذراء تخرج من بين يديه متوهجة ومنتقدة كل الاحداث والوقائع السائدة، بهذا المعنى جاء هذا المسرح نابعا من رؤية فلسفيه، كنتيجة الظروف التاريخية، حيث اتخذها المخرج للتعبير عن موقفه من الواقع بشكل لم يكن مؤهلا تاريخيا وجماليا، لأن ،” المسرح المغربي ظل خلف الاحداث, كما سادت ممارسات تمويهية تساير الوضع القائم دون ان تطرح تطورات مستقبلية على مستوى معالجة القضايا، هذه على صعيد افق الاقتباس، لان تقليد بعض الكتابات المولييرية، واللجوء الى ليبيرتوار جعل المسرح يتأرجح بين ابداعات أوروبية واخرى عربيه”.[61]
وانطلاقا من هذا التصور، أن مرحلة التمسرح عند حسن العلوي غلفت البعد الفني بالإيديولوجي، او مدت الذات المبدعة بأصوات لا ترى حتى نحس وكاننا نسمع ونرى نصا نثريا، بلغة مونودرامية، او تراجيديه، لجعل الحضور المسرحي يأخذ مكانة كبيره في عملية التأليف والعرض بشكل كوميدي وعبثي كما عند وبرشيد والزروالي والطالبي، حيث شكلوا ارضية اولية صالحة للإنبات والنمو، ولكن حسن العلوي لا يسمدها الا بطريقة التي لتلائم شروطه الاجتماعية والتاريخية والفنية و يقول عبد الكريم برشيد: “أن الامر إذن يتعلق بإيجاد فكر مسرحي جديد، كما يتعلق أيضا بتأسيس أخلاق مسرحية مغايرة، شيء مؤكد أنه لا حياة لمسرح يكتفي بأن يكون ضلا، وانه لا يوجد الإبداع يقنع بان يكون مجرد صدى”.[62]
فهذا الطرح البرشيدي يدعو الى إيجاد فكر مسرحي مغايرو ذو معان تشكل علاقة المجتمع بذاته وبمن حوله، ومعنى هذا اننا لا نقتنع بالصدى، بل نشيده بأرواحنا ونعايشه معايشة كلية وليست انفصالية ولا استعلائية. وبناء على ذلك إن المسرحي المغربي المخرج حسن العلوي المراني، يقترن بدلالة الاستمرارية، ويتقاطع مع الاقتباس والترجمة في شتى النواحي سواء من حيث الأوجه، فهذه المرحلة خلقت لنفسها بدائل، مما يبرر بقاءها ومدها، وهذا يؤكد ان هذه المرحلة يمكن اعتبارها هزة فكرية وثورة جمالية ومعرفية وثورية، حيث أحدثت قطيعة مع المفاهيم النقدية والتجريبية السائدة ومع الاشكال الفنية والمؤرخة، وعلى هذا الأساس عمل المخرج باستحضار البعد التمسرحي كمسرح صدامي ينزع الى نقد الأوضاع السائدة[63]“.
إن هذا التداخل بين الذات والواقع يؤكد لنا بوجود جدلية، كلاهما يستوجب وجود الأخر، لذلك فالتخطي والخرق لهذا الصمت والفراغ، “يتطلب تجريبا دوريا للأشكال الفنية، مما يؤدي بهذا اشكال التي تشهد على انعدام الشكل، وهذه الاشكال الضدية تعارض التحكم والانغلاق والسكون والغائية والنموذج التاريخي”[64]. إن هذه الخطوة في أفق تحقيق المغايرة والمعاودة، جعلت المبدع المسرحي حسن يخضع كل هذا التراث للقراءة قصد خلق هالة مشهدية، لأن الأمر يتعلق بإعادة الواقع على خشبة المسرح، وصار التمسرح يبحث بعيدا عن كل تأليف درامي، وأمست الخشبة قادرة على إخفاء نقائص النص”[65]. فهذا التأكيد المرحلي التجريبي يكشف عن الأهمية التي صار يحظى بها الواقع والجمهور، حيث تحولا الى طرف جوهري في عملية بناء العمل المسرحي والنقدي، ويقول “جان بيير رينيكار”: “إن الكتابة المسرحية المعاصرة تعبر عن الشك اتجاه تعليمي وتربوي، وكل نية ظاهرة ومعلنة للتأثير على الجمهور أو النزوع الى الاعمال المسرحية الغير المغلقة والتفكير في حرية المتلقي، تجعل الأخرين يبخلون بتصريحهم الحازم حول نواياهم”[66]. إذن تستوجب الممارسة الحداثية أن يمتلك المسرحي فكرا نقديا لمواجهة الواقع الاجتماعي بتناقضاته، الأمر الذي يجعل من هذه المواجهة إشكالية منهجية تتعلق بقضية الكتابة وبالتنظير والتجريب، وبمدى ارتقاء ممارساتها الى مستوى الابداع العربي والعالمي، على اعتبار “أن الابداع يتضمن في داخله رؤية جديدة وحساسية جديدة”[67].
إن تحويل المسرح من الاجترار إلى التساؤل والتنقيب عند المخرج، أصبح إشكالية ضمن الإشكاليات الثقافية المبثوثة في الواقع المغربي، والمؤطرة لحركيته الراهنة، وأصبح المسرحي المغربي حسن العلوي مؤهلا لبلوغ الدرجة الحداثية لممارسة دوره النقدي على الواقع الإبداعي العربي، ويقول “عزت قرني” في هذا الصدد: “إن الابداع هو المقدرة على إدراك المتفرد في صياغة موضوعية تثبت مناسباتها لتوجيه العمل توجيها فعالا، وذلك في إطار حل إشكال ما”.
تتأسس تقاليد عمليات التجريب عند حسن العلوي على أن تكون قاعدة هي امتلاك امكانيه الانزياح على كل مكونات المصطلح والمفهوم، لأن هذا المحور الجذري والتأسيسي جعل الطرح المنهجي ينقلنا من ما هو نصي الى ما هو فرجاوي، ولهذا اتخذ التجريب عنده قاعدة نظرية لهذا التفكير المتجدد والمعتمد على الحضور، لان حضور الذات المبدعة الناقدة تحرر كل الانفاق من كل قراءه بسيطة، كخطاب يهدد الواقع الذي “يبدو ملجا اخيرا للحضور الممكن حسب جاك داريدا”[68].
إن تعدد القراءات والتأويلات لم تفض على الرغم من ذلك، الى تحديد واضح ودقيق للنقد التجريبي المنهجي الذي ظل يعرف غالبا ترجمه النص والعرض، إنما يستند الى اعاده القراءة الممسرحة التي تتميز انطلاقا من افق انتظار اجناسا بعينها. فلم تعد خصائص المقاربة القرائية إلا أن تكون قراءة ممسرحة الذات. ويقول عبد الكريم برشيد: “عندما يكون محملا بقناعات فكريه وعقائدية معينه فانه لا يفعل سوى ان يلبسها للأخرين، وفي هذا طبعا إلزام للمبدع ومصادره لحريته التي هي اساس الخلق والابداع لديه، وهو إلزام لأنه ينطلق من خارج الذات وليس من داخلها، ان النقد يتلخص دوره في الكشف عن الايديولوجيا الكامنة في النص، ولكنه ابدا لا يمكن ان تكون الايديولوجيا مقياس لتقويم الابداع”[69].
فهذه الصفة لا تعتمد القراءة من الداخل، بل تقتصر على الكشف والتفسير الخارجي دون العودة الى الاعماق من اجل ابراز معرفة نقدية عامه على تأسيس المشروع المنهجي الهادف بكل قواعده الموضوعية، ويقول: “محمد مسكين” ” ان جهلها يبقى في حاله الوجود بالقوة اي انها نقد من اجل ترميزه على الجانب النص فقط مع اغفال العناصر الاخرى المكونة للعرض المسرحي ككل، وبهذا يفقد مشروعيه كمسرح تجريبي، وهذا يضعنا في مواجهه مشكل الثقافة المسرحية الواجب توافرها”. عند المؤلف، والمخرج والممثل والمتلقي.
ومهما يكن من أمر، فإن الهندسة النصية لا تأخذ شرعيتها الفرجوية ونسمتها البصرية إلا من خلال فعل التمسرح، وهذا ما يفعله المخرج حسن العلوي المراني في جل أعامله الممسرحة.
ولا يفوتني أن أشكر العديد من الباحثين الذين يشجعوني على مواصلة البحث والقراءة أخص بالذكر، إدريس العريني أستاذ العلاقات الدولية، وإبراهيم الهنائي المسرحي والناقد، وعبد الكريم برشيد وعبد الرحمن بن زيدان والشاعر محمد بلمو والناقدة بن المداني ليلةة وعزيز مشكور، والكاتب بوشيبة والقارئ العزيز مصطفى المنصوري وحداد، ويوسف ومنير ومصطفى وكريم الغزيوي.
المراجع والمصادر:
[1] وولف غانغ إيرز: القارئ في النص، مقابلة أجرتها نبيلة إبراهيم ملحق مقالتها السابقة، فصول الأسلوبية 1، ص.106.
[2] إبراهيم السعافي: إشكالية القارئ في النقد الألسني- الفكرة العربي المعاصر، عدد 60-61، مركز الانماء القومي، ص.32.
[3] جاك دريدا- مقابلة أجراها معه جهاد، مجلة الكرمل، عدد17، 1985، ص60.
[4] رولان بارت: درجة الصفر في الكتابة، ترجمة: محمد برادة، دار الطليعة، ط.2، 1982، ص.38.
[5] ترنس هوكس: البنيوية وعلم الإشارة، ترجمة: مجيد الماشطة، مراجعة: ذ.ناصر الحلاوي، سلسلة المائة كتاب، دالا الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والاعلام، بغداد، 1986، ص.96.
[6] عبد الرحمن بن زيدان: إشكالية المنهج في النقد المسرحي العربي، مرجع مذكور، ص. من 83 الى 87 ومن 111 الى 150
[7] عبد الرحمن بن زيدان: المسرح المغربي في مفترق القراءة، مرجع مذكور، ص.47.
[8] عبد الرحمن بن زيدان: أسئلة المسرح العربي، مرجع مذكور، ص.248.
[9] خاص بالدكتور ابن زيدان، الأهرام، مجلة الجودة، مجموعة مدارس العرايشي، العدد الثاني، يونيو 2004، ص. 55- 56.
[10] عبد الكريم برشيد: الكتابة بالحبر المغربي قراءه في المسرح النقدي عند الدكتور عبد الرحمن بن زيدان 1ط 2003 ص 14
[11] علي حرب: نقض النص والحقيقه، رقم1، المركز الثقافي العربي، ط2، 1995، ص.14
[12] حسين الأنصاري، حوار أجراه مع عبد الرحمن بن زيدان: “أدعو لإيقاف أي عمل لا يستحق شرف مواجهة الجمهور”، الجمهورية العراقية، عدد 10، كانون الأول 1989.
[13] خاص عبد الرحمن بن زيدان الأهرام، مجلة الجودة، مرجع مذكور، ص.68
[14] عبد الرحمن بن زيدان: خطاب التجريب في المسرح العربي، مطبعة سيندي، مكناس، 1997. ص 302-303.
[15] P. ricoeur : « le conflit des interprétations, essai d’herméneutique », essai du seuil, 1969, p.16.
[16] Maurice blanchot : l’entretien infin, éd. Gallimard, p. 319.
[17] عبد الرحمن ابن زيدان: المقاومة في المسرح المغربي، مرجع، ص 12.
[18] عبد الرحمن بن زيدان: قضايا التنظير في المسرح العربي من البداية الى الامتداد، مرجع مذكور، ص، 66 الى 81.
[19] عبد الرحمن بن زيدان: خطاب التجريب في المسرح العربي، مرجع، ص 270- 321- 369- 377
[20] عبد الرحمن: المسرح المغربي في مفترق القراءة، ص 5 الى 10
[21] عبد الفتاح دايدي: الاتجاهات المعاصرة في الفلسفة، الهيئة المصريه العامه للكتابة، ط2، 1985. ص 20 الى 21.
[22] عبد الكريم: حدود الكائن والممكن في المسرح، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط 1، 1985، ص 9
[23] محمد المديوني: مسرح عز الدين المدني والتراث، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع لبنان دار سحر تونس، ط 1، 1922، ص 27
[24] مصطفى الرمضاني: توظيف التراث واشكاليه التأصيل في المسرح العربي، عالم الفكر كويت العدد 9، مجلد 17، 1987، ص. 94
[25] عبد الكريم برشيد: حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، مرجع مذكر، ص 21
[26] علي الراعي: مسرح الشعب دار شوقيات القاهرة 1993، ص 23.
[27] بول شاول: علامات من الثقافة المغربية الحديثة المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ألف و1979، ص 127.
[28] عبد الرحمن بن زيدان: المسرح المغربي في مفترق القراءة، مرجع مذكور، ص 47- 58-80- 131
[29] نجيب العوفي: جبل القراءه دار النشر المغربية الدار البيضاء، 1983، ص 86.
[30] عبد الرحمن بن زيدان: اسئلة المسرح العربي مرجع مذكور، ص. 87- 88.
[31] عبد الرحمن بن زيدان: المقاومة في المسرح المغربي مرجع مذكور، ص، 96.
[32] حسن المينعي: المسرح المغربي من تاسيس الى صناعة الفرجة، مرجع مذكور، ص، 22- 23.
[33] BERNARD SICHERE : les années cinquante, in cinquante ans de philosophie francais, n°1, p39-41
[34] Goldman (l) : le dieu caché, coll. Paris, 1955, p.16-17.
[35] عبد الرحمن بن زيدان: التجريب في النقد والدراما، مرجع مذكور، ص.13.
[36] عبد الرحمن بن زيدان: المرجع نفسه، ص27.
[37] المرجع نفسه، ص 25.
[38] عبد الرحمن بن زيدان: اشكاليه المنهج في النقد المسرحي العربي مرجع مذكور، ص 10.
[39] المرجع نفسه، ص 105.
[40] عبد الرحمن بن زيدان: التجريب في النقد والدراما مرجع مذكور، ص 20.
[41] رولا بارت: النقد والحقيقة مرجع مذكور، ص 36.
[42] عبد الرحمن بن زيدان: كتابه التكريس والتغيير في المسرح المغربي، مطبعه افريقيا الشرق البيضاء 1985، ص 110.
[43] l.goldman,: pour une sociologie du roman, éd. Gall. Paris, 1964, p. 338.
[44] la Goldman: le dieu caché, OP. Cit, p.16.
[45] عبد الرحمن بن زيدان: بيان اخر العلم الثقافي السبت 20 مارس 2004، السنة 35، ص. 11.
[46] المرجع نفسه، ص 11
[47] عبد الكريم برشيد: الكتابة بالحبر المغربي في كتابات الدكتور عبد الرحمن بن زيدان، مرجع مذكور، ص 80.
[48] عبد الرحمن بن زيدان: قضايا التنظير في المسرح العربي، مرجع مذكور، ص. 285.
[49] عبد الرحمن بن زيدان. المسرح مدينة ديموقراطية قائمة على ثقافة الاختلاف، حاوره: أكرم يوسف مجلة المسرحي، الدوحة، عدد 10، 10أكتوبر 2001، ص. 25.
[50] عبد الرحمن بن زيدان: أدعو لغيقاف أي عمل لا يستحق شرف مواجهة الجمهور، حوار: حسن الأنصاري، الأحد 10 كانون الأول، عدد 7388، 1989، ص. 20.
[51] عبد الرحمن بن زيدان: لقاؤنا فرصة لتفاعل الأفكار، الجمهورية، الأربعاء 17 شباط، عدد 6729, 1988, سنة 21, ص،12
[52] مقدم نديم عبود:” بين القطيعة والخلق ” الحقيقة في الخطاب العربي المعاصر، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، بيروت ط.1999,1ص.43.
[53] عبد الله العروي: الايديولوجيا العربية المعاصرة، مرجع مذكور، ص.55
[54] عبد الله العروي: الايديولوجيا العربية المعاصرة، مرجع مذكور، ص31.
[55] المرجع نفسه، ص.36.
[56] محمد عابد الجابري: اشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1989، ص.15-16
[57] إدريس هاني: مقال مأزق الحداثة في الفكر العربي المعاصر، السبت 20يناير، 1996، ص.5.
[58] سمير أمين: نحو نظرية للثقافة، معهد الأنماء العربي، ط .1,1989ص.176
[59] د. محمد الكغاط: بنيه التأليف المسرحي من البداية الى الثمانينات، دار الثقافة، ط1 ،1986, ص50.
[60] د. حسن المنيعي: المسرح المغربي من التأسيس الى صناعه الفرجة منشورات كليه الآداب والعلوم الإنسانية، فاس، ط1, 1994, ص،6.
[61] المرجع نفسه، ص9
[62] عبد الكريم برشيد: الاحتفالية في افق التسعينات، الاحتفالية الى اين، منشورات اتحاد العرب، دمشق دون طبعة، دون تاريخ اصدار، ص.19.
[63] د. حسن المنيعي: المسرح المغربي من التأسيس إلى الصناعة الفرجة، مرجع مذكور، ص.10.
[64] ماهر شفيق فريد: قراءة في كتاب تقطيع أواصل أورفيوس الايهاب حسن، مجلة إبداع القاهرة، عدد 11، 1992، ص20.
[65] Jean pierre ryngeart : introduction à l’analyse du théatre, éd .durod, bordas, paris, 1911, p.8.
[66] Idib, .p.16.
[67] إلساس خوري: النقد العربي وأفاق النقد الجديد، ندوة شارك فيها ثلة من النقاد، مجلة مواقف لسانية، عدد 41- 42، الفكر النقدي ،1، ص،15.
[68] إدريس كثير وعز الدين الخطابي، مقال بشكل مغاير، مجلة اختلاف، عدد5، 1993، ص.30.
[69] عبد الكريم برشيد: ـألف باء، المنهج الاحتفالي في النقد، الزمان المغربي، عدد 5، شتاء 1981، ص.70.