الشاعرتان السوريتان: صفية الدغيم وثناء حاج صالح (وجهًا لوجه )
خاص | جريدة عالم الثقافة
صفية الدغيم شاعرة ذات حضور إبداعي قوي متألق. يقدِمها شعرها المتميز، الذي يفرض نفسه على كل قرائها ومتابعيها، بقوّة جاذبيته المعنوية، وسماته الجمالية الأخاذة… ما عالجتُه في قراءتي النقدية لشعرها (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع) دفعني لبدء حوار معها، كنت على الدوام أطمح بالخوض فيه مع كل شاعر حقيقي خصب الإبداع، ليكون جزءا من مادة التحليل، في كتابي الذي ما زال قيد التأليف (سيكيولوجيا الشعراء) .
حوارنا الشفَاف المسترسل في الزمن هذا ، والذي استغرق بضعة أسابيع ، ذو شجون كثيرة متشعبة الرؤى، تارة يجري بسرعة ويقفز في الزمن إلى الخلف وإلى المستقبل ويكون إذن عبر الاتصال الهاتفي ، وتارة يسير وئيدا بطيئا ليتناسب مع مشاغلنا، فيكون عبر الكتابة ، وتارة يكون طارئا فنلجأ إلى التسجيلات الصوتية . لكن أهم ما فيه أنه لا يتوقف ، بإذن الله.. والحمد لله.
وفي الحقيقة فإن الغوص في الشخصية الأدبية والإنسانية للشاعرة الفذة صفية الدغيم . يعطيني من المتعة ما يمنعني من قطع هذا الحوار بأية حال؛ لأن النضج والرهافة والعمق والشجن والتحفُّز والروح الجميلة القريبة إلى النفس، وذلك التواضع الذي يعكس امتلاءها الثقافي ورقيِّها الأخلاقي. إنما هي سمات وصفات تجسد الجوهر الحقيقي لطبيعة الشخصية الإبداعية المكتملة عند الإنسان.
فإليكم أقدِم أصدقائي الأعزاء بعضاً من جوانب ذلك الحوار الماتع المتواصل مع شاعرتنا النبيلة رفيعة الشأن والمقام صفية الدغيم.. ولا بد في البدء من طرح جملة الأسئلة التي تدور حول تعريف الشاعرة لنفسها:
ثناء حاج صالح:
من هي الشاعرة صفية الدغيم ؟ كيف ولدت ؟ ومتى ؟ وما الذي جعلها تكتب الشعر و لماذا تكتبه؟ ولمن ؟
صفية الدغيم:
كنت لا أزال مشروع شاعرة قد ينجح وقد يفشل حين كان عمري تسع سنوات . لم تكن في ذلك الوقت مواقع تواصل . بل لم يكن حينها مايسمى موبايلات حاليا لأنشغل بما ينشغل به الناس اليوم. كانت مكتبة والدي مدرس التاريخ هي صلة الوصل بيني وبين العالم الآخر .. بدأت كطفلة بقراءة المجلات الصغيرة التي أعدت خصيصا للأطفال بهذا السن والتي كان يبتاعها لنا والدي كي يغرس فينا الشغف للقراءة ..ثم بدأت بقراءة الكتب الأدبية عامة ..فقرأت لكثير من الأدباء الكبار ..أمثال مصطفى صادق الرافعي و مصطفى لطفي المنفلوطي ..وجبران خليل جبران ..وغيرهم كثير ثم اتجهت لقراءة الكتب التأريخية التي وثّقت التاريخ من خلال الشعر والأدب بشكل عام ككتاب العقد الفريد وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ومنها إلى قراءة القصص كقصة ممو زين وقصة سيامند ..ومنها للروايات الطويلة كرواية أحدب نورتردام و رواية البؤساء ..وغيرهما الكثير ثم إلى كتب الفلسفة والكتب الدينية عموما من أمهات الكتب وبناتها.
وليس غريبا على من هي مثلي أن تجد ضالتها في الكتب بالذات الأدبية منها لأنني فتحت عيوني على عالم غريب عني لا أشبهه ولا يشبهني بشيء ..لم يكن هناك ما يشبهني من حولي سوى انعكاس صورتي في المرآة غير أنه يبقى انعكاسا منقوصا غير مكتمل ولأنني امرأة تتوق إلى عالم آخر ترسمه بريشة خيالها الحالم؛ كان لا بد أن أعيش هذا التصادم العنيف بين الواقع وبين المتخيل ..بين الحاصل ..وبين المأمول . فامرأة تحلق عاليا وتحتضن السماء بقراءة عبارة واحدة من وحي القلم على سبيل المثال، لا يمكن لها أن تتقبل سماع كلمات نابية في محيطها وهي راضية . وامرأة تتذوق نعيم الجنان بقراءة (ممو زين) لا يمكن لها ألا تصطدم بجحيم الواقع من حولها، وهي لا ترى فيه مما قرأته شيئا ملموسا، وما يكون ارتداده عند البعض ضعيفا، سيكون عندها زلزالا. وما يكون ارتداده عند البعض مؤقتا، سيكون عندها مستديما. وعندما أرادت هذه المرأة أن تكون جزءا من العالم الآخر، الذي تحلم به، لا أن تكون مجرد فاحصة متتبعة له، ولدت بها الشاعرة، فغدت الآن تكتب لتعيش كما تريد، ولكن في كنف خيالها هي ..ولترى الأشياء من منظورها هي، ولتسجل بصمتها الخاصة، بما تحسّه هي. فكانت التجربة الأولى بكتابة الشعر الموزون ، وعمري حينها سبعة عشر عاما، وما قبلها كان مجرد خربشات.
.
ثناء حاج صالح:
جميل، إذن ، صفيًة الدغيم تكتب لكي تكون جزءا من العالم الآخر، الذي تحلم به هي . طيّب دعيني أسألك سؤالا تقليديا لكنه ماتع ويعبِر عن الخصوصية .وانطلاقا من خصوصية العالم/ الحلم الذي تعيش فيه الشاعرة صفيَّة الدغيم في وقت الكتابة.. معروف أن لكل شاعر/ أديب / فنان طقوسه الخاصة للكتابة والتي لا بد له منها لخلق ونهيئة الجو الذي يلائمه شخصيا للبدء بالكتابة . وأحيانا نقرأ عن طقوس غريبة أو مثيرة للتعجب . أخبريني عن طقوسك الخاصة.
.
صفيَّة الدغيم:
بطبعي أميل للهدوء والتأمل حتى في الحالات العادية فكيف في وقت الكتابة؟ وقد سبق وقلت أن الحالة الشعورية هي رحم القصيدة وهذه الحالة الشعورية تحتاج طقوسا خاصة، تختلف ربما من شاعر لشاعر؛ لكن لا بد منها في مرحلة يكون فيها الشاعر بين الوعي واللاوعي، ولكي يصل إلى هذه المرحلة كما أعتقد، لا بد أن يبتعد عن المؤثرات الخارجية ما أمكن، ويختلي بنفسه وبهاجسه لتكون القصيدة ثالثهما. أنا مثلا لا أكتب إلا في الساعات الأخيرة من الليل حيث لا حركة تشغلني ولاصوت. و يساعدني تفهم زوجي بحمد الله في تأمين هذا الجو الذي يحتاج الكثير والكثير من التركيز والتأمل .
ثناء حاج صالح:
بعض شرائح الجمهور العربي العريض يضع تجربة المرأة النفسية كشاعرة على المحكّ . بمعنى أنه يقنع نفسه أنَّ كل ما يتضمنه النص من عواطف ومواقف إنما هو حقائق واقعية ، تعيشها المرأة الشاعرة وتستمدّ منها مضامين شعرها ، ما رأيك بهذا ؟ و من أين تستمدّ القصيدة مادّتها عند الشاعرة صفية الدغيم ؟
:
صفيَّة الدغيم:
ربما أصاب الجمهور بهذا وربما لا أو لنقل أن الحكم في هذا غير دقيق.. لماذا ؟ … في الحقيقة ليس بالضرورة أن كل ما يكتبه الشاعر يعيشه واقعا؛ فقد يكون مايكتبه هو الواقع الذي يأمل أن يعيشه. وربما يكون تقمّصاً لحالة معينة يتحدث به بلسان كل من عايش هذه الحالة.. ربما ستسألينني : كيف لشاعر أن يتمص حالة ما لم يعشها، و بالتالي لا يملك صورة ذهنية عن تفاصيلها، ولا ما تولّده من مشاعر وأحاسيس؟
وسأقول لك ببساطة: إن الشاعر إنسان ككل الناس، لا بد وأنه عايش هذه الأحاسيس كلها في تجارب سابقة له؛ فهو يعرف ما معنى الألم، ويعرف ما معنى الحب والكره، ويعرف ما معنى الشعور بالظلم، ويعرف ما معنى الفراق.. وطالما أن المعرفة المسبقة بهذه الأحاسيس مترسخة في ذهنه مع وقع كل ذلك في نفسه ، فهو قادر على استحضارها وقت ما يشاء. فالذي فارق قريبا أو حبيبا في وقت ما، وعانى ألم الفراق، يستطيع تقمّص ذات الشعور والكتابة في انعكاس الحال فيه دون معايشته آنيّاً.
:
ثناء حاج صالح:
(لا يزال الشعر عاطلاً حتى تزينه الحكمة ، و لا تزال الحكمة شاردة حتى يؤويها بيت من الشعر.) هذا ما يقوله أحمد شوقي وأرى شعرك مزيجا من الحكمة والغزل، ولكنه في عمومه ذو طابع عاطفي غزلي . فما موقفك من تقييم النص بالربط بين موضوعه ( كمضمون معنوي ) ومستواه البلاغي والبياني؟ وهل يمكن للغزل أن يقلل من شأن الحكمة في شعر المرأة؟
.
صفيَّة الدغيم:
.بصراحة لا أتفق مع مقولة أحمد شوقي، أو بشكل أدق ..لا أتفق مع حرفية ما قال؛ فالشعر أجمل بالتأكيد عندما تزينه الحكمة. ولكن هذا لا يعني أن ما لا تزينه الحكمة ليس بشعر أو أنه شعر عاطل والزينة بالذات رفاهية وليست ضرورة …في حين أن الحكمة ضرورة والزينة تدخل في باب المريح والجميل رغم كونها ليست ضرورة وقد جعل القرآن الحُلي التي نلبسها من النعم التي أنعم الله بها علينا، وجعلها دافعا للشكر والحمد
فتذوق الجمال في حدّ ذاته يضفي على روح متذوقه السعادة. وماخلق الله الجمال إلا لنتذوقه ونسبّح الله فيه. وإلا لماذا خلق الله الأزهار بألوانها وأشكالها وروائحها المختلفة ؟ هل من ضرورة لذلك ؟ ربما تكون هناك حكمة من ذلك. ولكن المفارقة هنا أن الحكمة هي تذوّق الجمال وتسبيح الله بتذوّقه …فانظري كيف جمعنا بين الزينة والحكمة هنا ولكن بشكل آخر. وتقييم النص أدبياً وبلاغيا يختلف عن تقييمه كموضوع.. وعن نفسي أرى أن نفصل هذا عن ذاك …مع التأكيد على أن الشعر الذي يحمل رسالة خير للناس هو الأنفع بلا شك.. لكن قد يكتب الشاعر قصيدة غزلية خالية من الحكمة بل يكتبها خالصة لوجه الشعر ووجه الغزل ..ويبدع فيها أكثر من قصيدة يكتبها في باب الحكمة …وقد يكون العكس صحيح. هذا بشكل عام ..أما عن تجربتي الخاصة فقد كتبت في هذا وذاك متفرقَين في قصائد ومتحدَين في غيرها أما عن سؤالك في أن يكون الغزل سبباً للتقليل من شأن الحكمة في شعر المرأة أم لا..فهذا مردّه للقارئ ومدى وعيه.
.
ثناء حاج صالح:
ما الذي يميت القصيدة قبل ولادتها أو في مهدها، عند الشاعرة صفيّة الدغيم ؟
.
صفيّة الدغيم:
في الحقيقة لا جواب محدد لهذا السؤال قد تضحكين إن قلت لك أن موتها قد يكون كموت الإنسان المفاجئ، حين يحين أجله، بلا أسباب أحيانا، ولا مقدّمات. وقد تعرّضت لمثل هذا ..فما زالت عندي أبيات تكابد اليتم وتنتظر. أو ربما أوان ولادة القصيدة لم يحن لتخرج جنينا كاملا قابلا للحياة. وقد يلعب التشتت الذهني دورا كبيرا في موتها تبعا للحالة النفسية للشاعر. وقد تموت بموت الحالة الشعورية للشاعر، والتي تعتبر الأم الحقيقية للقصيدة ..أو بتعبير آخر (رحم القصيدة ). وقد يقول لك أحدهم (حسب تجربته) : إنها لاتموت أبدا؛ لأن الشعر عنده صنعة أكثر منه حالة شعورية تستند للموهبة. ما أريد قوله ان لكل شاعر تجربته الخاصة المختلفة عن تجربة غيره في هذا الأمر.
.
ثناء حاج صالح:
بالتأكيد . أوافقك الرأي فأن لكل شاعر تجربته الخاصة في إرهاصات الإبداع وتجلياته. ولكن دعيني أتطرق إلى مسألة الحافز أو الدافع على الكتابة وتأثيرها في توليد الرغبة العفوية للكتابة. فكثيرا ما نلاحظ أنه عندما لا يتوفر الحافز النفسي المباشر على الكتابة ، فإن الشاعر يحاول توليد هذا الحافز؛ لأنه يشعر بالقلق والاضطراب من عدم الكتابة . فهل يعني هذا أن كتابة الشعر إدمان؟
.
صفيّة الدغيم:
أعتقد: نعم.. إن كتابة الشعر إدمان يكاد لا يسلم منه شاعر ..هذا الإدمان قد يعتبره البعض سلبياً من حيث الإشغال النفسي المستمر للشاعر والذي يسبب له قلقاً شبه دائم ، ويعتبره البعض إيجابياً من حيث أنه يوفر الحافز لدى الشاعر لكتابة المزيد والمزيد.
.
ثناء حاج صالح:
ماذا عن تجربتك الشخصية في هذا الشأن ؟
.
صفيّة الدغيم:
عن تجربتي الشخصية: لقد مررت بفترات انقطعت فيها عن الكتابة فعلا؛ لعدم وجود الحافز النفسي، أو لسبب مجهول لا أعلمه ..كنت أحاول في هذه الفترات الكتابة وأفشل ..وقد أبدأ القصيدة وأتوقف بعد البيت الأول، أو ربما الثاني، كما ذكرت لك في إجابتي عن سؤال سابق… توصلت مع الوقت للحقيقة التي تمخضّت عنها تجربتي الشخصية على الأقل .وهي: ألا أستدعي القصيدة بالرغم عنها قط. بل أترك للقصيدة اختيار الوقت والظرف المتوافقين مع الحالة الشعورية المناسبة لها …كلام قد يبدو غريبا ..ولكنه بالنسبة لي أصبح قاعدة ثابتة… ولا أنكر أنني حتى بعد وصولي لهذه القناعة، و بالذات عندما تطول الفترة الزمنية بين القصيدة والقصيدة، أحاول أحياناً أن ألزم نفسي بالكتابة، إلا أنني أندم لاحقا، وأشعر بأنني أفتقد نفسي بين السطور .عدا عن التكلف الذي يظهر لي بعد مرور وقت قليل على انتهائي من القصيدة .وقد بيّنت لك سابقا السبب في صعوبة تقييم الشاعر لقصيدته في الساعات الأولى لولادتها… ولا ننكر أن وجود وسائل التواصل الاجتماعي شكّل حافزا جديداً مرادفاً لحافز الرغبة المحضة عند الشاعر في الكتابة .فأصبح نشر جديده هاجساً لا يكاد يفارقه ؛ فهناك من ينتظر جديده بلهفة من محبيه ومتابعيه .بالإضافة إلى أنّ متابعة الشاعر للجميل من كتابات غيره الجديدة حصراً يشكل له دافعاً كبيراً للمنافسة، أو لمحاكاة الجمال الذي قرأه ، أو لإثبات ذاته الشعرية في زحمة القامات الكبيرة. ينجح أم يفشل هذا موضوع آخر ..فليس كل من توفرت لديه الرغبة وامتلك الدافع قادر على إثبات ذاته ..فلا بد من الموهبة أولا وقبل كل شيء والأمثلة واضحة أمامنا وبكثرة.
.
ثناء حاج صالح:
اتفقنا مسبقا على أن مداومة كتابة الشعر تفصل الشاعر عن وسطه الاجتماعي المحيط به، وتسرقه ممن حوله، لتضعه في عالم آخر خاص به، سواءً أكان ذلك في أثناء الكتابة، أو عندما تشغله بقلق الكتابة وهمومها، خارج أوقات الكتابة.. هل تشعر الشاعرة الأم والزوجة بالذنب تجاه أسرتها بسبب انشغالها هذا ؟ ومن تجربتك النفسية الشخصية: هل تعدّين هذا الانشغال النفسي الدائم نوعا من التقصير بحق أقرب الناس، من المرأة المطالبة اجتماعيا بالحضور النفسي الكامل في أسرتها ؟
.
صفيّة الدغيم:
الحقيقة أجل وأتفق مع هذه النقطة بقوّة. فإن لم يأخذ الشعر مساحة كبيرة من الوقت العملي للشاعر ، فإنه حتماً وبلا شك سيأخذ الكثير من مساحة تفكيره، التي من المفترض أن تتوزع باعتدال على جوانب أُخرى من الحياة الخاصة والاجتماعية. هذا يشمل الشعراء جميعا. إلا أن سلبية هذا الأمر تنعكس بشكل أوضح وأكبر على حياة المرأة الشاعرة ؛فمهام الرجل العمليّة والوظيفيّة قد تنتهي بانتهاء دوامه أو فترة عمله .لكن بالنسبة للمرأة الشاعرة ، خصوصاً في حال كانت زوجةً وأمّاً، فإن أوقات الانشغال بمهامها اتجاه زوجها وأولادها وبيتها تكاد لا تنتهي. وليس لها وقت محدد يعرف آخره. أمّا كيف تتعامل المرأة الشاعرة مع هذا الوضع وتستطيع التوفيق بين الكتابة وبين باقي مسؤولياتها، فذلك يتبع أولا تفهُّم الطرف الثاني، الذي هو الزوج لرغبتها في الكتابة أو عدم تفهّمه ..وأيضا مدى اعتدالها في توزيع الوقت أو تطرفها في توزيعه لصالح هذا أو ذاك .. الشعر أو باقي المسؤوليات.
ثناء حاج صالح:
شعرك مكتمل ناضج فنيا. ومن أهم ما يميزه في نظري الاتساق الموضوعي أو ما يسمى بالوحدة الموضوعية. وهي من أهم سمات الشعر الحديث . هل تعتقدين أن خلق الدهشة في الموضوع المطروق نفسه أصعب ؟ أم أن طرق الموضوع نفسه مرارا يزيد من فرص الإدهاش لأنه يحفّز الشاعر على تخطي نفسه والتفوق عليها؟
.
صفيّة الدغيم:
أيهما أصعب ؟ الحقيقة الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة ..بمعنى: ( لا يمكن قياس ما لايقاس) وما لا يقاس هنا هو مدى الصعوبة .لكنني أستطيع الجزم بصعوبة الأمرين: خلق الدهشة في الموضوع المطروق ..وتكرار طرق الموضوع مع الحفاظ على عنصر الدهشة ..وكلاهما يعود لمدى قدرة الشاعر على إثبات نفسه كشاعر حقيقي أم لا.
ثناء حاج صالح:
دعينا ننتقل إلى مناقشة نوع آخر من الإدهاش . وهو الإدهاش الذي يحدثه إتقان إلقاء الشعر من قبل الشاعر… صوتك في إلقاء الشعر جميل وطريقة إلقائك رائعة مقنعة . لكن سرعة الإلقاء على العموم تحدَّ من زمن تأمل الجمل الشعرية، الذي يمكن أن تتيحه القراءة الصامتة للشعر. وسرعة الإلقاء على المنبر وأمام الجمهور . تختلف عن الإلقاء المسجَل . ما رأيك في هذه المسألة عموما؟
.
صفيّة الدغيم:
في البداية أشكرك جزيل الشكر لثنائك الجميل هذا. وأرجو أن أبقى عند حسن ظن ذائقتك وذائقة كل من يحب الشعر والشعراء. ثانيا وعن تجربتي الخاصة في الإلقاء : هي في الحقيقة حديثة العهد . فأول قصيدة ألقيتها بصوتي كانت قصيدة (الوداع الأخير ) وهي من قصائدي الجدد. وكان انطباع المتابعين فوق ما كنت أتوقع بكثير.. أعتقد أن السرعة في الإلقاء ليست سيئة دائما ..فالسرعة قد تتناسب مع بعض المواضيع أكثر من البطء ..وقد كنت تابعت قصيدة لتميم البرغوثي ( يا مدرك الثارات ) كانت برتم سريع وكانت السرعة في الإلقاء من عوامل نجاحها وانتشارها على نطاق واسع.. بالنسبة لي لو سئلت عن تقييم قصيدة ما سماعيا ..ربما أرفض ..لأنني لا أستطيع الحكم إلا على الشعر المقروء ..لحاجتي لتأمل الصور والتراكيب بعيدا عن أي مؤثرات جانبية ..فقد يكون الشاعر بارعاً في الإلقاء فتطغى جمالية إلقائه على قلب وعقل المتلقي فيظنه جاء بالعجب العجاب ..فيما يكون النص ربما عاديا لو قرأه ذات الشخص الذي سمعه.. وفي هذا المقام ..أذكر جملة طريفة لأحدهم علّق بها على إلقاء شاعر من فحول شعراء اليوم قائلا: والله لو قرأ فلان بصوته فاتورة الكهرباء لخرجت للناس قصيدة من عيون الشعر هههه…ولعل تجربة محمود درويش خير مثال ..فكثير من شعر محمود درويش لا يعجبني ولا أعتبره شعرا ..( النثري خاصة) وكل ما يعتمد على الرمزية المغرقة ..لكنه بحضوره الطاغي وإلقائه المتفرد يجعل للكلمة وقعا آخر في أذن المتلقي.. لا يمكن أن ننكر أن الإلقاء الجميل من عوامل شهرة الشاعر والبعض يقول: إن الشاعر المكتمل لا بد أن يجمع بين الكاريزما، والإلقاء المقنع ، والشعر الجميل. وعن نفسي، ربما أختلف معهم في ذلك، لكن بلا شك هذا الرأي موجود و له اعتباره. نعود لمسألة السرعة والبطء ..الحقيقة برأيي أن خير الأمور في هذا أوسطها فلا البطء الشديد الممل جميل، ولا السرعة الزائدة مطلوبة.
عَلمتِنَا الحُبَّ والإحسانَ و الشَّغَفا
فكيفَ جُرتِ على أبنائِكِ الضُّعَفَا
.
حتى تَناءوا وما خلّى الزمان لهم
إلا المدى مَلجأً والبردَ مُلتَحَفَا
.
بينَ الضلوعِ محطاتٌ مؤجلةٌ
تقولُ من يدفعُ الوقتَ الذي وقَفا
.
لا أرهبُ الموت ، هاتِي الموتَ واقتربي
فقد يموتُ أسىً مَن لَم يَمُت لَهَفَا
.
حَمَلتُ هَمَكِ من صُغْرٍ على كَتِفي
وقد ذوى الجِسمُ من ذا يَحملُ الكَتِفا
.
يا من تلومينَ صبَّاً ما مَددتِ لهُ
خيطاً للقياكِ لم يُمسك لَهُ طَرفا
.
يَخُطُّ بالدمعِ سطراً ثم يَحذِفُهُ
فيقرأُ الناسُ في عينيهِ ما حذفا
.
لم يعرفوكِ وكادَ القهرُ يقتلُهم
حزناً عليكِ فما حالُ الذي عَرَفا
.
عَشَّمتِ روحي بوصلٍ منكِ تَنظُرهُ
وحينَ أخلَفتِ قلتِ : اساقطي كِسَفا
.
فمن يُعيدُ لإدراكي تَوازُنَه؟
عقلي الذي تاهَ أم صوتي الذي رَجَفا؟
.
إن كانَ شوقي إلى لقياكِ يا بلدي
ذنباً فلا تغفري للقلبِ ما اقترفا
وما زال الحوار جاريا ومستمرا ..