حكايا من القرايا.. رحلت خالتي مسعودة

عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين

لخالتي مسعودة نظام في العدّ والحساب… لا يعتمد الأرقام، ولا يحتاج لآلات حاسبة، خالتي مسعودة لا تقرأ ولا تكتب… تستطيع أن تعد إلى السبعة بمهارة، ثم إلى سبعة أخرى بمهارة، وثالثة بمهارة… وتتجمع سبعات البيض مثلاً على مصطبتها، كل مجموعة سبع بيضات… وكانت لا تبيع البيض إلا سبعات… كل سبعة بشلن أو شلن وتعريفة… أو ستة قروش…

اختلفت في حسبة مغاطيس الحليب مع كنّة الصمدية… حيث أقرت الكنّة بأنها أخذت ستة مغاطيس وبقلولتيْن فقط لا غير… وأصرت خالتي مسعودة أن هناك مغطاساً أنكرته الكنّة… وبيّنت بقايا خطه على الواجهة… حيث كانت خالتي ترسم على لوح أسود معلق على الواجهة دور الجيران، وتحت كل دار عددا من الخطوط الرفيعة كل خط يمثل مغطاساً، وكل خط ناصح كما كانت تسميه يمثل بقلولة… الكنّة منحوسة (خطشت) أحد الخطوط الضعيفة فأسقطت مغطاساً من الحسبة… لكن خالتي ببصرها وبصيرتها أكّدت وجود الخط، وأكّدته الجارات أيضاً، فعادت الكنّة بكذبها وحسرتها… ومن ذاك اليوم كانت تحسب مغاطيس الحليب في عملية المقارظة للحارة كلها… تروّب الحليب، حتى إذا ما أصبح لبناً شخلته في كيس اللبنة، ودحبرته وغمرت الكرات في الزيت…

جانب من اللوح كان للذّمة النقديّة… بحجر الحِوّر الذي جعلت منه طبشوراً ترسم الشخص، وتكتب تحت صورته سبعاتها… وآحادها… وكانت لا تسمح للناس بدخول غرفة الحساب، بعد أن رأى أبو مفلح صاحب الدكان رسمة في اللوح… عبارة عن برميل فوقه طنجرة… كان الرجل سميناً وعليه اللحمة… فتفتقت عبقريتها الفنية عن هذه الرسمة… وصاح حين رأى صورته… وصاح… وبهدوء عدّت سبعاتها وناولته، وقالت له: عزا عزا عزيين… مالك انجنيت وحافتك إشْعرّانة… خذ قرشينك ولا تورجيني خلقتك…

خالتي مسعودة، الله يرحمها، نفسها طيبة، كريمة، لها أولاد وبنات، وأحفاد، هم كثيرون لكنهم قليلو بركة… كأنهم مقاليع إبليس كل واحد مغترب في بلاد الله… يزورها بعضهم كل سنة سنتين أو أكثر مرة… ما أن تتعود عليهم حتى يتفرعطوا في منافيهم… لذا كان العوض في أولاد البلد الذين أحبتهم خالتي وأغدقت عليهم هدايا الطفولة… كالملبس والحلوى والملابس أحيانا… ولا زال الناس يذكرون محمدا ابن ابو غازي، عندما اشترى سبعة بيضات من الخالة، وقد سقطن من يده على الأرض… وتكسرن… وبكى… غسلت الخالة يديه سبعاً، وأعطته قضامة وحلاوة، وسبع بيضات سليمة… وقالت له ” سلّم على أمك”…

عندما رحلت خالتي مسعودة… غادر الحمام طواقيه، وهربت الأرانب من مواكيرها، ولم نعد نسمع صوت المانوحة في قاع الدار… ولا الأطفال يلعبون في الساحة القريبة من طابونها… ينتظرون الملبس والحلوى… رحلت خالتي فرحل السعد من المنطقة… وغادرت البركة… وبقيت الأطلال… حجارة ستسقط يوماً… وترحل…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى