تحليل نفسي للحالة الشعرية (3-3)

ثناء حاج صالح ناقدة وشاعرة سورية / ألمانيا

 

3- التلذذ بالفعل الإبداعي/ إشباع الحس الجمالي

في البدء أريد أن أؤصل العملية الإبداعية المتمثلة في الكتابة عند الشاعر، فأردها إلى الظاهرة النفسية التي تظهر عند الطفل منذ بدء تفتح وعيه حوالي السنة الخامسة من االعمر ،وهي ظاهرة أحلام اليقظة.

فالطفل يبدأ مع بدء ظاهرة أحلام اليقظة بتخزين مدركاته الذهنية لإعادة تركيبها وصياغتها من جديد وفق علائق مختلفة عما هي عليه في الواقع ، فتكتظ مخيلته بما هو ضخم من التصورات ذات الجذور الواقعية التي يعيد تشكيلها لتتحول إلى تخيلات بديلة للواقع، غير أنها ستحل له إشكالاته العالقة مع الواقع .

 ويدخل ضمن إشكالات الواقع أولئك الذين يزعجون الطفل في حياته الواقعية . فيأتي حلم اليقظة ليمكِّنه من الانتقام منهم ، أو ليعيد له اعتباره وينتصر لكرامته

.لذا فالطفل حينما  يُدخِل شخصيةَ الأخ القاسي مثلا  في مخيلته، يُدخِلها مع ما تحمله من صفاتها الواقعية التي أدركها الطفل وشعر بها ، غير أن سلسلةً من الأحداث المتخيلة في حلم اليقظة سيتعرض لها الأخ القاسي لتجعله في النهاية يندم على قسوته  ويحسن التعامل مع أخيه ويعوِضه عمَّا تعرَّض إليه من الظلم والقسوة بالكثير من القبلات والهدايا مع الفخر به أمام الجميع.

 ولأن الطفل نفسه سيكون في حلم اليقظة محور الأحداث وبطل القصة ، فهو سيتقمص جميع الشخصيات في الحلم وسيعيش الإحساسات والمشاعر بأنواعها المختلفة في الوقت نفسه. فهو نفسه سيعاني من شعور الندم الذي سيفرضه على شخصية أخيه ، كما أنه هو نفسه سيعيش الإحساس بالظلم  قبل أن يتحوَّل إلى شخصية البطل الذي يتمتع بالصفات التي تدفع الآخرين لحبه واحترامه . وقد يكون ثمة ما يدعو ليعيش إحساس الانتقام أو العفو عند المقدرة . وسيكون عليه أن يؤلف السيناريو ويوزع الأدوار ويخرج الفيلم (حلم اليقظة ) بالطريقة التي يراها قادرة على إشباع حاجته للاهتمام والعناية التي يفتقدها في الواقع.

الشيء المثير للانتباه في هذه المرحلة أن  التجارب النفسية الخيالية التي يؤلفها الطفل ستكون متصلة بعضها مع بعض بحيث أنها ستؤسس عالمه الخاص الذي سيبقى ماثلا لاستقباله كلما احتاج أن يلجأ إليه . والذي  يعلم أنه خاص به وحده .

وهكذا يكون اكتشاف الطفل لأداة الخيال عنده محفزاً على تطوير نفسه وتغيير وتحسين من حوله وتحوير الواقع بكامله.

غير أن أحلام اليقظة ليست مجرد أداة لإعادة التوازن النفسي عند الطفل عبر إشباع حاجاته النفسية الملحة . بل هي أيضا أداة لخلق المثال الجمالي . لأن إعادة صياغة العالم عبرها تكون موجهة باتجاه واحد فقط هو اتجاه التجميل والتحسين والذي يكون ملازماً لصفات البطل . والطفلة كذلك تتخيل نفسها أجمل وأرق وأذكى فتاة في العالم. وترى نفسها أحق من غيرها بكل دلال العالم والمحبة والعناية .

وعندما يتخيل الطفل نفسه البطل الأذكى والأقوى والأكثر محبة وتأييداً من قبل أقرانه وأهله . فهو في الحقيقة يرسم ويحدد صفات المثال الأعلى  ويتمثلها . وهذا يؤمن له لذتين أساسيتين ترتبط كل منهما بسلسلة من اللذات النفسية ،هما :

1-لذة اللعب الإبداعي: وتكون اللعبة الإبداعية هنا هي إعادة تشكيل عجينة  العالم ، وتصويرها بالشكل المرضي للطفل. فتترافق هذه اللذة مع لذة اكتشاف الاحتمالات الممكنة للواقع وتدله على إمكانية خلق بدائل للواقع غير المرغوب به. وللاكتشاف لذته الغريزية التي ترتبط بالفضول الغريزي وغريزة حب المعرفة عند الإنسان. وهي لذة تدعو الإنسان لطلب الكمال عبر المعرفة والإدراك.

2-لذة الاستعراض : والتي توفرها عملية تقمُّص المثال . وخاصة عندما يمارس الطفل عملية التخيل عبر اللعب المشترك مع غيره من الأطفال. فيعيش حالة التماهي والتباهي بالشخصية التي يتقمصها .

 

أحلام اليقظة تشهد نشاطاً مميزاً عند الطفل وعند المراهق بشكل واضح. وفي حين يؤثر ارتفاع معدلات النشاط الواقعي في الحياة الواقعية سلبياً على معدل نشاط أحلام اليقظة فيضعفه أو يؤدي إلى إيقافه وانقطاعه لفترات معينة عند الإنسان العادي . إلا أن الأمر مختلف مع شخصية الشاعر أو الأديب أو الفنان عموماً ، كونها تتميز باستمرارية ارتكازها بشكل كبير على تحقيق التوازن خصوصاً عبر حالات التقمص في حلم اليقظة.  فالشاعر/ الفنان الشاب لا يتخلى عن الخيال في إدارة شؤون شخصيته واحتياجاته النفسية. لكن الذي يحدث الآن وبسبب نضج العقل والحاجة إلى المصداقية في الحياة وكي يتحقق الاحترام الذاتي هو (بلورة عملية اللعب الإبداعي). فبدلا من أن تكون الآلية في اللعب الإبداعي مجرد تخيل سلبي في حلم اليقظة، تحل ممارسة الفعل الإبداعي الإيجابي في عملية الكتابة الإبداعية ، ويصبح استئثار الحالة الشعرية المرافقة للكتابة  بالشاعر شبيها بالعالم الخاص الذي كان يلجأ إليه وهو طفل ليلعب بعجينة العالم ويعيد تشكيلها كما يحب . والأمر الذي يصبح أكثر أهمية ووضوحاً الآن هو مشاركة (اللعب الاستعراضي ) مع الآخرين والذين أصبحوا يسمون بالمتلقين ( القراء ) أو جمهور الشاعر و كانوا في ما مضى هم أصدقاء الطفل وأقرانه .

بناء على هذا التأصيل  ،يتدخل في الحالة الشعرية عاملان :

العامل الأول:  الاستعراض  

فلكي يضمن الشاعر جذب اهتمام المتلقين فسوف يتقرب إليهم بما هو مشترك بينه وبينهم .  لذا فإن متلازمة الإثارة -المبالغة كما ذكرنا سابقاً ستحتل مجالا مهماً في الحالة الشعرية عند الشاعر؛ لأنه لا يستطيع ممارسة الاستعراض مع الاستغناء عن دور المتلقي؛ فوجود المتلقي شرط مهم لممارسة الكتابة الإبداعية عنده .ولو افترضنا أن الشاعر قد تأكد من عدم وجود  المتلقين بشكل مطلق، فقد ينتفي ويختفي دافع الكتابة الإبداعية عنده .

العامل الثاني : لذة الحس الجمالي :

وفعالية الحس الجمالي قد لا تتوفر بالدرجة نفسها عند كل الناس, وذلك لأن الحس الجمالي على الرغم من فطريته فإنه يتطلب الصقل المستمر كي ينمو ويتضح للوعي الشخصي الذاتي…

الحس الجمالي في الأصل يرتبط بالغريزة الجنسية عند الحيوانات، إذ نلاحظ كيف تزدهي الحيوانات بالألوان الجذابة خلال مراحل الغزل في مواسم تكاثر الأسماك والطيور مثلا. بيد أنه عند الإنسان -وإن كان يرتبط أصلاً بالغريزة الجنسية- ينمو مع الصقل ليتداخل ويتفاعل مع جميع أنواع الانفعالات النفسية والذهنية والعاطفية. خاصة وأن تجربة التفكير وملكة التأمل ترقى به عبر ربطه بالقيم المعنوية الأخلاقية والدينية والفنية.

وما يحدث مع الشاعر( الفنان عموما) أنه يكتشف أكثر من غيره لذة الحس الجمالي أثناء محاولاته المستمرة للتعبير باستخدام اللغة المجازية الخاصة به فيكتشف قدرته على الملاحظة والوصف الجمالي ويكتشف تفوقه على الإنسان العادي في ذلك. فيبدأ بتفعيل حسه الجمالي عبر تحرير طاقة اللغة وامتلاكها كأدوات توفر له عناصر الصورة الشعرية .وتكون مهمته الربط بين هذه العناصر وتمثيلها وتجسيمها لتكون ذات معنى ومنبثقة من دوافعه ومتسقة مع ذبذبات مشاعره ، غير أنها وهذا هو الأهم ستكون بمثابة مفاتيح المخيلة التي ستتيح للشاعر فرصة اكتشاف المجهول والقبض عليه وإحضاره موجودا إلى النص.

 فكلما كانت مخيلة الشاعر أقدر على  اكتشاف عدد أكبر من عناصر الصورة الشعرية وعلائق أكثر وأقوى تربطها مع السياق الشعري، دلَّ ذلك على مرونة المخيلة وحيويتها ونشاطها. أما الصور الشعرية المبتورة التي تبدو كقصاصات لامعة صغيرة غير مترابطة وغير حسنة التوظيف فتدل ( في رأيي الشخصي ) على اتصاف عملية التخيل بالإجهاد وعلى النقص في طاقة المخيلة الشاعرة وأدائها تحت ضغط الحالة الشعرية.

وإذا كان المطلوب من الشاعر أن يتمكن من إثارة دهشة المتلقي عبر اكتشافه لحقول دلالية جديدة عبر أساليب البلاغة والبيان . فإن ما يحدث في لحظات الكشف الإبداعي هذه يكون غير مخطط له مسبقاً ويكون غير قابل للإعداد والتخطيط من قبل الشاعر ، بل هو نوع من القفز في المجهول يمارسه الشاعر الواعي له بطريقة تعتمد على الحدس الجمالي والمعرفي اللاواعي ، ليجد نفسه بعد انقضاء لحظة الاكتشاف متفاجئاً بما اكتشف.

 إننا نرصد ونراقب الآن لحظات التصوير الشعري التي لا تعدو كونها عملية تجريب حقيقي تحتمل النجاح والفشل . ويجرِب الشاعر فيها أن يربط بتوجيه من حدسه وحسه الجمالي بين عناصر الصورة الشعرية الطارئة والعابرة في مخيلته بلمح البصر . وما أرى كل عملية تصوير شعري مبتكرة إلا وتمثل كشفاً أو فتحاً جمالياً. والشاعر هو أول من يندهش لما كتب ، وهو أول من يعلم أنه ها هنا قد أصاب صيداً . وأنه يستحق جائزة . وتكون جائزته نشوة ولذة الإحساس بالظفَر ممتزجة بلذة تذوق الجمال نفسه. هذه اللذة تغذي الحس الجمالي عند الشاعر وتقويه وتتحول مع الوقت والتكرار إلى حافز يغري الشاعر على الدوام بالمزيد من المحاولات وإعادة خوض التجربة. فإذا ما اعتاد هذه اللذة تحوَّل حالة الاعتياد عنده إلى حالة إدمان لا يمكنه التخلص منها . وكما هي الحال مع أعراض الإدمان فإن مواقيت الحصول على الجرعة الجمالية التي تمثلها تلك اللذة تظل تتحكم في حاجة الشاعر ووجدانه ، وتظلُّ تلحُّ عليه وتقلقه ذلك القلق الإبداعي الذي يعرفه ويعايشه كل شاعر وكل فنان مدمن على أداء فنه ، والذي يتراكم ويعظم تأثيره النفسي في المرحلة التي تسبق قرار الاستسلام والدخول في الحالة الشعرية بهدف تكرار الفعل الإبداعي لتفريغ القلق وإشباع الدافع الجمالي والظفر بلذته من جديد.

 

وترتبط الحاجة لرفض القديم والتحرر مما اعتنقته ذاكرة الشاعر وحفظته من الصور الشعرية مع الخوف من فشل تجربة الفعل الإبداعي عنده؛ لأن هيمنة العناصر القديمة من الصور الشعرية في مخيلة الشاعر قد توقعه في فخ إعادة إنتاجها بطريقة (إعادة التدوير )، وهو ما يهدد نجاح الفعل الإبداعي كونه يستهلك طاقة الشاعر ويستنفدها في تكرار ما تم إنتاجه سابقا، دون شعور بالظفر، فحتى لو أجاد الشاعر الربط بين عناصر الصورة الشعرية ليعطيها شكلا جديداً ، فسيشعر بأنه قد فشل في تجربة الفعل الإبداعي الحقيقي ولن يكون مندهشا مما كتب. إلا إذا تدخل ذكاء الشاعر ومهارته الحرفية في استقلابه المنتجات القديمة وإعادة إنتاجها عبر أنواع من التناص المعرفي والجمالي تسمح له باكتشاف علائق وروابط محتلفة وجديدة للربط بين العناصر القديمة .

وليس تكرار واجترار الصور الشعرية المستهلكة هو فقط ما يهدد تجربة الفعل الإبداعي عند الشعراء في بداية مسيرتهم . ولكن أيضا هناك خطر  الوقوع تحت سيطرة  الشخصية الشعرية الطاغية لأحد الشعراء الأقوياء، مما يجعل الشاعر غير واعٍ لخضوع حسه الجمالي وذوبان شخصيته في شخصية سواه. وكثيرا ما نقرأ مثلا  ظلال الشخصية الشعرية الطاغية للشاعر محمود درويش في كثير من قصائد غيره من الشعراء المتأثرين بأسلوبه والذائبين في شخصيته.  فتجنباً لحدوث ذلك يجب على الشاعر أن يكون متوازناً في قراءاته، وفي تنويع وتعديد مصادر معينه الثقافي وطبيعة المادة الثقافية والجمالية التي ينمي بها حسه الجمالي ويصقله، وهو ما يضمن بناء شخصيته الإبداعية المتميزة والمستقلة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى