البوصلة
أحمد خميس | ألمانيا – سورية
“عندما تنتهي هذه الحرب اللعينة
لن أعود للعسكرية
كم سأكون سعيداً.
حينما استعيد ثيابي المدنيّة “
_لستُ أدري إن كنتِ قد سمعتِ بكلماتٍ كهذه من قبل، لا أعني من حيث هي كلماتٍ فحسب، إنما أقصدها هكذا، بهذا الشكل والوقع الموسيقي.
إن كان جوابك لا فسأقول إنها كلمات أغنية سمعتها للتو في مقدمة فيلم يتناول شيئاً من حياة (أغاثا كريستي)
أكتبُ لك يا غادة وأنا محاصر بأسئلتي، محاصر بتفاهتي وجبني، وقلة حيلتي عدا عن الصداع الذي صار غيابه عنّي يؤرّقني ويتعبني.
ترى متى سأستعيد ثيابي المدنّية؟
أتذكرين مدرستي الثانوية في الصالحية، ونصب يوسف العظمة في ساحة ميسلون.
كم كنتِ تكذبين!! حيث تقولين إني أشبهه.
أنا خائن يا غادة، خائن جداً، فلا شيء مني من ذاك الرجل إلا شكله على حد وصفك.
عندما أعدتُ تشغيل الفيلم استوقفتني تلك الكلمات اللعينة في مقدمته مرة أخرى، ورغم أني لستُ بارعاً في الأدب إلا أنني تنبهتُ لأمر ربما لو لم أكن فيه، لو أنني لا أعانيه لما أعرته بالاً ..
“حينما أستعيد ثيابي المدنيّة”
نعم يا حبيبتي نعم لقد انتزعوها مني رغماً عني، انتزعوا ثيابي وألبسوني ثياباً تفضحني، ألبسوني بزّةً باردةً رغم سماكتها، رثّة وإن كانت جديدة، حقيرةً مهما حاولوا تلميعها بأعيننا.
كوني واثقةً بأنّه لا يوجد ثمّة عاقل على وجه الأرض يستطيع المكوث جنباً إلى جنب رفقة بندقيته كل هذه السنوات.
كوني واثقة يا غادة بأني لستُ بمحرمٍ وبأنني أطيب بكثير مما يظنه الآخرون لكن ماذا عساي أفعل وماذا عساي أقول!
في آخر مداهمة لنا على أحد أحياء حمص، بالمناسبة
الناس في حمص صالحون وطيبون جداً رغم بؤسهم، لكننا أوغاد يا غادة.
دخلنا بيتاً حمصيّاً تفوح من رائحة الأحلام التي لم تتكمل، لنتفاجأ بوجود أربع جثث ملقاة بعبثية القدر بجوار بعضها البعض.
طفلان متكوران وكأنهما يشعران ببعض البرد، وزوج طويل أسمر يحتضن زوجته التي أطاحت الرصاصة بنصف جمجمتها لكنها رغم ذلك كانت أشبه بأميرة هبطت بقوة علوية من السماء.
لما أنا هنا تساءلت كثيراً! وإلامَ متى سأصمد ؟
هؤلاء هم الإرهابيين يا سيدي؟؟ قلتُ له وصوت خفيف ينبس داخلي يحثني على انتزاع عينيه القذرتين من مكانهما.
نعم هؤلاء هم! أجابني باقتضاب وقد شعرَ أني قاب قوسين أو أدنى من هلاكي، هلاكي فيما لو أفرغتُ ما في جعبتي برأسه العفنة وأبعدته عن جثث هؤلاء الأبرياء لأن دماءه اللعينة ستلوث قداسة موتهم.
لم أكن أمتلك ما يفضحني سوى سترتي العسكريّة، ترددتُ كثيراً قبل خلعها وتغطيتهم بها، رغم أنني واثق بأن رائحتها ستؤذيهم.
جثوتُ على ركبتي، وأغلقتُ عيون الطفلة على مهل فَنَخَزَ مخزن الرصاص خاصرتي وكأنه حثني على اقتراف جرمٍ لطالما سعيتُ إليه.
ثلاثون طلقة بيني وبين ملابسي المدنية، ثمان رصاصات بمعدل اثنتين لكل منهم وما يزيد في بندقيتي سأجهز فيه على من تبقى أسفلاً.
بغرفة نوم هذه السيدة المضرّجة بدماء عفتها كانوا يضاجعون ثيابها الداخلية، ويرتدون في أعناقهم حليّها.
في لحظة كلحظة القرار هذه يزهر الرمان قبيل أوانه، وتنبجس في التلال البعيدة ينابيع غزيرة وعيون.
وقفتُ خلفهم عارياً من العار الذي حملته على ظهري طوال تلك السنين ولأول مرة تومض بوصلة البندقية نحو قبلتها الصحيحة.