من عربة الإسعاف

وداد معروف | أديبة مصرية

     في وسط هذا الليل الحالك, وأنا في طريقي الموحش إلى مكان لا أدري هل سأعود منه إلى حياتي السابقة؛ التي طالما تمردت عليها, هذه الوجوه من حولي، التي أخفتها عني تلك الكمامات, ترى ما شعورهم الآن تجاهي؟ أعرف أن الفزع يملؤهم,  الحياة غالية لا شك,  لكنه الواجب الذي يحتم عليهم التعامل معي, وتقديم المساعدة الطبية ولو كلفهم هذا الواجب حياتهم, هل تنجيهم تلك الكمامات مني, أم سيتسرب لهم هذا اللعين, كما تسرب لي دون أن أدري.

     لا أعرف كيف ولا متى أصابتني الكورونا؟

     ارتفعت حرارتي ذهبت للمشفى, أجريت المسحة وكان هلعي حين عرفت أن النتيجة إيجابية, إذا الكورونا  حقيقية, لطالما أنكرتها, كم مزحت وسخرت من لوثة كورونا وضحكت  منها مع زملائي وأصدقائي, ها أنا ذا  الآن واحدٌ من مصابيها الذين تعلن أرقامهم كل يوم على وسائل الإعلام, ترى هل سينتقل اسمي غدا إلى قائمة موتى وباء كورونا؟

     ربما لن يمهلني القدر للغد, فلأخرج هاتفي وأكتب رسالة لأصدقائي ولعل وسام تقرأها معهم :

أنا أنس سالم,

صديقكم الذي طالما كتب لكم منشورات تطلعكم على الجديد في المعرفة الرقمية, صرت أحد المصابين بكورونا,  أخبركم عن حالي الآن وكيف أعاني من آلامها الرهيبة .

     أشعر برشق رصاصات في صدري, الهواء قليل جدا, آلام لم أتخيل أن أشعر بها, سامحوني جميعا إن كنت أخطأت في حقكم, سامحيني يا وسام أيتها الزوجة الطيبة, أنا الآن أسترضيك أمام الجميع, فاغفري لي حماقاتي معك, سخريتي من طيبتك, من كلماتك العفوية التي كانت تخرج منك لأهلي فكنت أحاسبك عليها حساب الملكين, عودي للبيت خذي بناتنا الثلاث في حضنك,  احضنيهن بقوة بدلا مني, قولي لهن إن أباكن كان يحبكن  كما لم يحب أحدا في هذه الحياة. قولي لهن إني أتمنى الآن لو كانوا أمامي لأشمهن وأتعطر بأنفاسهن, يا وسام أوحشتني جدا, حينما كنت أتعصب عليك وأسخِّفُ كلامك, كنت ألاوم نفسي بعدها, لكن كبريائي كان يمنعني أن أعتذر إليكِ, كنت أضغط عليك بالخصام لتأتي وتعتذري إليَّ وأشهد الله أنك لم تخطئي في حقي أبدا, سامحيني يا حبيبتي؛ لم أكن أحسب لهذا اليوم, كنت أظن الحياة ممتدة أمامي.

     الحياة!.. تمنيت أنها طالت لأفرح بـ (سها) و(نهى) و(مها), آهٍ يا زهرات عمري الذابل.

     ها هم يستعدون للتوقف أمام الحجر الصحي,  حركة دائبة في الإسعاف, سأدخل الآن إلي غرفة الإنعاش, فريق كامل يقف في استقبالي, كلهم على أهبة الاستعداد تعقيما وتجهيزا, فمصاب الكورونا هو طاعون متنقل, أنا الآن على السرير المتنقل؛ ذاهب لأواجه مصيري وحدي, أراكن الآن أمامي، أري عيونكن تطوف حولي تبكي عليَّ, تتبعني في طرقات الحجر حتي أصل لغرفة الإنعاش, خلف الزجاج عيونكن تراقبني, على جهاز التنفس الاصطناعي,  أرى العمر حبلا واهنا ممدودا بيني وبين سقف الغرفة, يكاد ينقطع, يا كل من عرفتموني .

دعواتكم لي.

بقلم / وداد محمود معروف

13/4/2020 م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى