حوار مع منكري الإسراء والمعراج.. قديما وحديثا (١)
رضا راشد | الأزهر الشريف
فيما مضى من عمرنا – وهو كثير – كان حديث الدعاة والعلماء عن الإسراء والمعراج يدور حول عدة محاور لم يكن من بينها إثبات هذا الحدث في حد ذاته؛ إذ الشأن في المسلم أن يتلقى هذه الأمور بالتسليم المطلق واليقين الجازم؛ من أنها معجزة إلهية خارقة لناموس البشر المحدود بحدود العجز. وإذن فلا تحكيم للعقل فيها، ولا قياس لقدرة الله المطلقة على قدرة البشر المقيدة بالعجز..
هكذا كان الشأن فيما مضى، ولكن زمانا نكدا أظلنا، تمخض عن نابتة سوء لا هَمَّ لهم إلا التشكيك في ثوابت ديننا ومقررات عقيدتنا ومسلمات ملتنا، فاستحيوا – بإنكارهم هذا- تاريخا قديما كتب سطوره مشركو قريش وضعاف الإيمان من المسلمين ساعة أن أخبرهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بما كان في الإسراء، حيث تعددت أفعالهم (فكان منهم المصفق بيده، ومنهم الواضع يده على رأسه تعجبا، ومنهم الساخر، ومنهم المستهزئ ومنهم من ارتد عن دينه افتتانا بما كان). ولكنها على تعددها نبعت من معين واحد هو معين الإنكار والاستبعاد.
ولقد احترت في تفهم منبع إنكارهم الإسراء: أكان عن استبعاد حدوثه في هذا الوقت القصير، كما قال بعضهم: كيف تدعي أنك أتيت بيت المقدس في جزء من ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرا؟! .. فلو صح هذا فهذا غباء منهم ناجم عن عدم التفريق بين فعل ينسبه رسول الله لنفسه فهو محدود بحدود القدرة البشرية العاجزة، وفعل ينسبه رسول الله لربه فهو خارج عن أية مقاييس بشرية أو قواعد عقلية؛ لأن رسول الله لم يقل “سريت، وعرجت”، وإنما قال “أسري بي، وعرج بي” .
ولكني أظن ظنا هو أشبه باليقين أن كفار قريش لم يكن يخفى على أمثالهم هذا الفرق الظاهر بين “سريت” و”أسري بي”، حتى يخلطوا بين الأمرين فيحاكموا قدرة الله المطلقة لقدرتهم المحدودة العاجزة؛ وذلك لأنهم الجيل الذي تحداهم ربنا أن يأتوا بمثل القرآن أو بعشر سور مثله مفتريات..إلخ، ولا يصح التحدى إلا لبارع في المجال الذي يُتحدَّى فيه وإلا بطل التحدي .. كما أنه الجيل الذي طولب أن يتبين أن هذا القرآن كلام الله: بأن يتبين الفرق بين كلام الله وكلام البشر .. وما كانت هذه المطالبة لتكون لولا أن الله سبحانه علم منهم أنهم ارتقوا في التذوق مرتقى يصعب على الآخرين بلوغه.. أفمثل هذا الجيل يخفى عليه الفرق بين “سريت” و”أسري بي”؟! بعيد هذا .
وليس له – عندي – إلا وجه واحد؛ وهو أنهم ليس الشأن فيهم أن يخفى عليهم هذا، ولكن العصبية أعمتهم عن رؤية الحقائق الواضحة والبينات الساطعة. وهذا أمر كائن؛ فلكثيرا ما يَعْمَى المرء عن رؤية الحق الساطع الذي لا يخفى على من هو دونه – فضلا عن مثله أو أعلى منه- وذلك حين يلف غشاوة العصبية على عينيه فلا يرى شيئا، فتراه -وهو البصير- ينكر ما يراه ذوو البصر الكليل والنظر السقيم العليل.
ومما يرجح هذا، أن تكذيبهم هذا استمر، على الرغم مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأدلة الواضحة والبراهين القاطعة على صدقه – صلى الله عليه وسلم – فيما ادعاه من الإسراء لبيت المقدس (كوصف المسجد الأقصى، وكإخباره لهم عن أمر البعير وغيره)، فدل هذا على أنهم ما كذبوا إلا عنادا، وأنهم لو أوتوا بقراب الأرض أدلة وبراهين على أن هذا قد حدث ما كان منهم إلا التكذيب والسخرية والعناد .وكما قال سبحانه:{ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون* لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} [سورة الحجر:١٥،١٤].
ولكن:
لئن كان لقريش بعض العذر في إنكارهم الإسراء؛ إذ كانت البشرية لا تزال في طور التخلف المادي العلمي (حيث كانت وسائل المواصلات بدائية تستغرق الزمن الطويل في السفر) فما عذر منكري الإسراء والمعراج حديثا وقد سدت أمامهم أبواب الأعذار ومنافذه: بكونهم – فيما يدعون – مسلمين واجب عليهم الإيمان بالغيب، وبأن الله على كل شيء قدير..إيمانا يثمر تسليمهم المطلق بما ثبت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – من المعجزات، ثم بكونهم عاشوا عصر المنجزات بل ما يشبه المعجزات التكنولوجية في وسائل الاتصال والمواصلات.
ترى:
ما بواعث إنكارهم الإسراء والمعراج الظاهرة غير الحقيقية والخفية الحقيقية ؟
ذلكم موضوع المقالة اللاحقة إن شاء الله تعالى
يتبع إن شاء الله