أرزاق الروح

د. عبير خالد يحيى 

أؤمن أن الله يهب الرزق للأرواح كما يهبه للجوارح، لكل خلية من خلايا مخلوقاته، لكل قسمته وحصّته، حتى الثعبان الأعمى في وكر مسدود، وبناء عليه، أؤمن أن الخير أصل، بينما الشر طارئ، لكن الصراع بينهما قائم بالقدرية إلى قيام الساعة، بذريعة الديمومة والاستمرارية التي لن تكون مطلقة إلا بعد يوم الحساب، وكثيرًا ما أُقحِمتُ في نقاشات وجدل حول هذا الموضوع ( تسيّد الخير أو الشر في الإنسان وأيهما الجذر وأيهما الطارئ ) ولم تتزعزع عقيدتي أبدًا، رغم أن مظاهر الشر تعمّ مجتمعاتنا، منتشية بعربدة الحروب وتبجّح الفساد وسقوط الأخلاق وصعود الرذيلة، إلا أنني ما زلت أبحث عن بذور الخير ، وإن تهتُ عنها سيدلّني عليها المطر، هذا ما أخبرني به أحد الأصدقاء عبر ( فيديو) وجدته في بريدي الالكتروني…
أغرتني الشمسُ بالخروج من كهف منزلي، ودعتني للتريّض على شاطئ البحر، وشرب القهوة بحضرتهما، ولأنني تأخّرتُ بالخروج، ربثما أنهيت بعض الأعمال المنزلية، ارتأيت أن أستقل الباص على خط سير شارع أبو قير إلى محطة ( سيدي جابر ) ومنها أنطلق مشيًا على الأقدام على امتداد شارع المشير الذي ينتهي إلى كورنيش البحر ، ما أن استقر بي المقام في الباص، وكان حظي الجميل ( والحظ رزق أيضًا) أن المقعد المزدوج الذي جلست عليه كان فارغًا، لم يشاركني فيه أحد طوال المشوار ، ما أتاح لي فرصة الجلوس بجوار النافذة، ووضع شنطتي وشالي على المقعد الفارغ بجانبي، حريصة أنا على وضع النقود المعدنية أو (الفكة) من فئة الجنيه والخمس والعشر جنيهات في الجيب الخارجي للحقيبة حتى لا أضطر إلى فتحها، وربما سقط منها شيء أغفل عنه أو لا أستطيع التقاطه وسط الزحمة، لكن تفاجأتُ أن النقود في الجيب الخارجي لا تكفي لدفع أجرة الباص، ما اضطرني لفتح الحقيبة وإخراج النقود من الحافظة، وقع بصري على رواية كنت أقرأها في البيت أخذتها معي لأستأنف القراءة في حضرة البحر والشمس، أخرجت الرواية أتصفّحها خلال الطريق، وصلت إلى فقرة يقول فيها المؤلف على لسان أحد شخصيات الرواية بما معناه : أن الخير هو الفطرة الأولية والأساس في الإنسان، وأن الشر أتى لاحقًا، والخير هو الأكثر والأعم، ولو كان الأمر معكوسًا لانتهت الخليقة بعد ١٠٠ عام من بدء الحياة، لأن الغلبة ستكون للكثرة، وانتصار الشر هو الفناء، وهذا لم يحدث، فالحياة مازالت مستمرة، ومازال الصراع بين القوتين قائمًا بجولات غير محسومة بالمطلق”
تأملتُ في ذلك القول وهززتُ رأسي أوافقه..
اقترب الباص من المحطة، أغلقتُ الكتاب، لملمتُ أغراضي المبعثرة على المقعد، وضعتها في الحقيبة وأغلقتها، ووضعت الشال عليها بطريقة محكمة ونزلت من الباص باتجاه شارع المشير، وخطر ببالي أن أتوقف لإجراء مكالمة مع ابنتي أدعوها لمشاركتي في هذا احتفالية (الشمس والبحر والقهوة) ، لم أكد أنتهي من المكالمة إلا وصوت ينبهني بلهجة السؤال : “يا هانم حضرتك كنت في المشروع ( الباص) ونزلت في المحطة؟ ” التفتُ إلى صاحب الصوت فوجدته رجلًا كهلًا، مليح الوجه ( حليوة يعني ?)، وجه أبيض مشرّب بالحمرة وعينان زرقاوان، يعتذر عن اقتحام خصوصيتي، ويطلب مني بأدب جمّ أن أجيبه، قلت له: “نعم، نزلت لتوّي من المشروع”.
سألني:” ألم تفقدي شيئًا من أغراضك؟ “
ازدادت دهشتي، ونظرت أتفقد (الموبايل) وجدته في يدي، ووجدت شنطتي على حالها كما أغلقتها، قلت له : ” لا أفقد شيئًا، ما الأمر؟” وأنا في حيرتي تلك، لاحظتُ أن الرجل شابة أنيقة برفقة الرجل، وجهها جميل، تغزوه ابتسامة هادئة، تحاول أن تخفي شيئًا وراء ظهرها، توجّستُ خيفة من أن أكون ضحية مقلب سخيف، وجدتُ الرجل يقول لي:” من فضلك تفقدي شنطتك، أنت مدينة لنا بأننا قطعنا مشوارنا ونزلنا لنتبعك” زاد خوفي أكثر، لم أحرّك ساكنًا، وجدتُ الصبية تسحب يدها من وراء ظهرها ببطء لألمح محفظتي الصغيرة التي حوت_ إضافة إلى النقود _كل أوراقي الرسمية وبطاقاتي الشخصية والبنكية، قفزت ملسوعة وقلت :” محفظتي”
سارعت الصبية إلى مناولتي إياها!
سألتهما :” ما القصة، هل نشلني أحدهم وقبضتم عليه؟”
أجابني الرجل :” لا، لكن حال نزولك، صعد شاب وجلس في المقعد الذي كنتِ تجلسين عليه، ثم رفع هذا الحافظة، يسأل لمن هذه؟ عندها اسرعنا وأخذنا منه الحافظة وتبعناكِ، والحمد لله الذي أعاننا على اللحاق بكِ وإعادة الأمانة إليكِ”
غرقتُ في بحر من الخجل، ومحيط من الامتنان، تلعثمت كثيرًا وأنا أشكرهما حتى بدوتُ كالمعتوهة!
تابعت طريقي وأنا ساهمة، أفكر بما كان من الممكن أن أعانيه جراء فقدان أوراقي الثبوتية ومحاولة استخراج البدائل، عندما لاح لي البحر نفضتُ رأسي من تلك الخيالات المرعبة، وبدأتُ أنظر إلى البحر الذي غرقتْ فيه الكأس الفارغة، غمرتني السعادة وأنا أحمد الله على التقادير الخيّرة، وعلى رزق الله الذي كان حصّة روحي (والله أعلم بحالي) وعلى ما وقر في قلبي، وصدّقه يقيني، من أن الخير أصل في الخلق، وأن الشر عارض، كلاهما في صراع، والظفر الحق هو للأصل مهما طالت الحرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى