العَلَم

أحمد خميس | روائي وأديب من سورية – ألمانيا

الشمس …
كنتُ أراه يرفرف عالياً حتى لكأنه حجب الشمس عني، اصطففتُ في الرتل بعد أن تناولتُ وصحبي بيضتين مسلوقتين وحبّة بطاطةٍ لستُ واثقاً من أنها سُلِقَتْ أم لا، كانت ساخنة على أية حال.
ردّدنا النشيد الوطني وقمنا بلعن الإمبريالية، والرجعية، وجماعة الإخوان المسلمين، وحيينا الرئيس، ووالده، وأمّه وأبناءه وأبناء عمومته وخالته وأقسمنا كما كنا نفعل كل يوم على أن نبقى جندهم الأوفياء.
شعرتُ للحظة بأنني سأفقد وعيي فالشمس في بادية الضمير التابعة لمحافظة ريف دمشق تكاد تترجل من سمائها لتصطف بالقرب منّا لا سيما وأن الوقت ظهراً والشهر آب.
بقيتُ واقفاً محاولاً الحفاظ على توازني لكيلا لا أتعرض للعقوبة كما حدث لهاني الدرزي صباح البارحة، رغم أنني لم أعد اسمع ولا أرى شيئاً.
استيقظتُ على لسع السوط الذي كان وكأنه يقضم في كل جلدة قليلاً من جلدي ليعود ثانية ويلتصق بلحمي ولا يغادره دون أن يشق فيه ساقية قيحٍ ودم.
لقد زمجر الضابط بزملائي ونادى عليهم : منبطحاً ولاك …
ولأنني كنت أحاول الثبات تفادياً للعقوبة كما أسلفت لم أسمعه حين أمرهم بالجثو أولاً والانبطاح ثانياً.
“منبطحاً” نعم هذه المفردة التي أصبحت مَهراً مهروا بها ذاكرتنا ووجداننا، كنا ذوي عنفوان، لكنه عنفوان منبطح ذليل.
كنا نزحف كالسحالي كل صباح، نُشتَم بمقدساتنا ومعتقداتنا في المساء ونأكل ما لا تأكله المناجذ والقوارض.

لا زال يرفرف وأنا أزحف، يرفرف عالياً بينما يقف رياض ذلك الفتى الآشوري ابن مدينة الحسكة بالقرب من حاوية القمامة وقد مرّغوا جسده بمربى التين فغدى وجبة نهمة للذباب والنحل و الدبابير لمجرّد أنه تلكأ بنطق رقمه العسكري بسبب لغته العربية المتواضعة، وأما قصيم الشاب الحوراني الأسمر الطويل كعود قصب ضل الطريق إلى طبرية ينحني بمضض ووجهه ينضح ذلّاً ليلمّع بوط قائد اللواء بكمّ سترته العسكرية الصحراوية كأرض الضمير.
في الرابع من شهر أيلول أي بعد أكثر من مئة عقوبة جماعية وخمسين فردية سمعتُ اسميَ عبر مكبر الصوت.
المجند سعد عبد الله القاسم زيارة.
كانت أمي تجلس في الحديقة محضرة معها دجاجة مشوية وطبقين من الثوم المهروس وبعض العصائر والمشروبات وعلب السجائر
ركضتْ نحوي وراحت تقبلني فور تجاوزي لبوابة اللواء الرئيسة. نظرتْ إلى وجهي الذي لوحته الشمس وقالت مزهوة بابنها.
الجيش مصنع الرجال حقّاً ..
ضحكتُ في داخلي ورفعتُ رأسي باحثاً عن العلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى