أضغاث أحلام
يكتبها : محمد فيض خالد
هَا هي تُبدي الشِّكاية والتَّأفف، تُبَرطِم بنبرةٍ مُستفزة، تضرب الحَائط بكفها اليابس، ترمق زوجها المُتَربعُ فوقَ حشيةِ اللَّيف، غائبا وسط سُحبِ الدُّخان، يفرج عن غَابةِ الجوزة الغائبة بين شفتيهِ، يطلق دفقات الدخان، سُرعان ما يعيدها سيرتها الأولى كرضيعٍ قبضَ ثدي أمه ، تقول وعيونها تنضحُ حَبات اللؤلؤ مُرتجفة:” إلى متى الهوان ، ألا يحقُّ لي ما يَحقُّ لنسائهم؟!” ، في هدوءٍ لَملم أسماله قائما، مدّ يده مُمسكا هراوة فأسه، قَالَ في استسلامٍ:” إنّك تعشقين النّكد، قُلت لك ألف مرة هذا لا يفيد”، كانت خيوط الصَّباح البرتقالية شرعت تتدفقُ في الأفقِ الرّمادي ؛ مُعلنة انتشار الحياة في القرية، مضى “ابوزيد” في الدَّربِ مستغفرا، عُرِفَ صغيرا ، يَدبُّ خَلفَ أمه، تلك السَّمراء النَّاحِل، ذات الجبين اللامع كالرِّجال، جاءت بهما عائلة ” الحاج حسني غنام” من الصَّعيدِ الجواني، هذا كُلّ ما يُعرَف عنهما ، يتمدّد لسانها وينبسط في لكنةٍ جنوبيةٍ قاحلة ، تتَربع حول ماجور العجين، تتَعالى في تيهٍ: “بلدنا بني محمد محمود ، يمة الجبل”، غَيرَ أنّ سحابة الحزن تعاودها تلفها من جديد، تستحضر مُمسية مُصبحة أحزانا ثِقال تَستنزف مدامعها، وما أكثر دعاء النَّسوة لدموعهن، شبَّ” أبوزيد” في كنفِ الخدمة تابعا كأمهِ، لا يعرفُ غير فأسهِ وأنفار الحَقل، لا يعرف من رفاهيةِ الحياة إلّا انحناءة الظَّهر، وبيت مولاه ” الحَاج حسني”، حينَ تفيضُ الموائد بقاياها، غَالَبَ حسراته ألفَ مرة، أن يضع عنه هذا الإصر لكن أمانيه تتبخّر، له كسوة الصَّيف والشَّتاء، وما يكفيه وأمه من غلةٍ ودقيق، وفي المواسمِ رطلين من اللَّحمِ، انهالت دموع “عيوشة” داعية أمام الفرنِ بالنَّارِ الطَّاهرة؛ وتشفعت بآلِ البيت ؛ أن يُرزق “أبوزيد” رزقا واسعا، وألّا يُشِرك أحدا في كدهِ، لكنّ المسكينة لا تعلم من تصاريفِ الغد ما اضمر، مرّت الأيامُ وهذه النَّوازع مشتعلة في صدرها تخفيها حينا، وحينا تبثها، لكن كلام القوم المعسول يردها عن غوايتها ، يمتلئ فم كبيرهم وهو يلقي إليها سحره:” أنتم أهلنا ومننا وعلينا ، أنتم لحمنا “، تعودُ ثانيةً تُدندنُ منُتَشية تنَشطُ في خدمتها، مُتغاضية عن أحلامِ الأمسِ، تُلقي حجابا مستورا فوقَ مُضايقات نساء العائلة ممن آمنوا بأنها وابنها من سقطِ المَتاع، نصحه “أبورواش” الحلَاق أكثر من مرةٍ؛ أن يهرب بجلدهِ، ويشقّ طريقه بعيدا عن حياةِ الأسر، لكنّهُ كَانَ يُقابِلُ كلامه بامتعاضٍ، يَمطَّ بوزه، ويُغمض عينيه، قائلا في تذلّلٍ:” ربّ هنا ربّ هناك، والنَّاس دي لحم كتافي من خيرهم “، عَادَ ذاتَ ظهيرة، ألقى عنهُ فأسه ،جَلسَ فوق المصطبة يلتقط بعض أنفَاسهِ، رَفَعَ طرف ثوبه يُجفِّف عرقه المُنساب، نَظَرَ فوجدَ الكآبة قد تمدّدت في البيتِ كظلٍّ ثقيل، اطلقت زوجته سيل السِّباب، تَبرمُ في انتحابٍ متواصل، قائلة:” كيف يشتري الحاج لزوجات أولاده ذهبا ويتجاهلن؟!”،انتهبَ القلق عقله وهو يفكِرُ في شكواها غير المجديةِ، يتساءل :” إذّ كَيْفَ لزوجة الخادم أن تتساوى وأسيادها؟!” ، مضى أغلب الوقت مُنكمشا في ركنٍ مُظلم، وكُلَّما تقَدّم اللَّيلُ ضَاقت أنفاسه، ومن حولهِ تَحلِّقت الأبالسةُ؛ تُلقي في روعهِ الأباطيل، تتراقص ذُبالة المصباح في استهتارٍ؛ تُذكره ضآلته ، فجأة تزاحمت على البابِ طرقاتٍ مدوّية، ما إن فَتَحَ حتّى دفعته عصا الحاج في صدرهِ، وبنبرةِ الآمر قَالَ مُحتّدا:” إذا كان الغد ، فلا مكان لكما في هذا المكان” تَحسسّ صاحبنا الجدار من هولِ المفاجأة، تخنقهُ العبرة، تعلّقَ الصَّمتُ في الفَضاءِ كابيا، قَبلَ أن تُوقظهُ “هانم” بصوتها الذّكوري الأجَشّ: “قوم النهار طلع هتتأخر على الشَّغل” هَبَّ من ثباتهِ، شيعها بابتسامةٍ باهتة ، يحمد الله ، مُستَعيذا من الشَّيطانِ وهَمزه .