قراءة في ديوان “أشواق تشرين” للشاعرة الفلسطينية: د. روز اليوسف شعبان

د. حسن المصلوحي | المغرب

روز الياسمين، بنت الشوق والحنين الموشوم على الجبين

“أشواق تشرين”، ديوان من الأشعار الممزوجة بأسلوب نثري فريد، وكأنها جدائل شعر ذهبيّة ضفّرتها يد من حرير، وأطلقتها لنسمات الريح العابرة من بعيد. لست أدري أي مدخل سأتخذه في قراءتي لهذا الديوان، لكني سأتّبع ما انطبع في نفسي وأنا أرى أزهار الحبّ تنبت في فؤادي بين قصيدة وأخرى. وإذا كان جبران خليل جبران قد اعتبر الشعراء أبناء الكآبة، فأنا رأٌيت فًي روز اليوسف في ديوانها هذا بنت الشوق الممشوق على طول الطريق، من ههنا إلى هنالك حيث المنفى وحيث الحنين. تيمة الحنين أضفت على الديوان سحرا كبيرا، حنين تارة للحبيب وتارة أخرى للوطن، وربما كانا حنينا واحدا يكون فيه الوطن هو الحبيب أو الحبيب هو الوطن، ليغدو الوطن حبا والحب وطنا بلا أشواك ولا أسلاك ولا أعداء، يحاربون شواهد الزمن بأفواه تفوح منها رائحة العفن! لله درّك يا روز كيف جعلت الحبّ صهوة جواد عطّاف وخنجرا في خاصرة البغاة!

وكم كانت شاعرتنا موفقة في الانطلاق من قصيدة “أتوق إليك”، ليفصح الحنين عن نفسه كحالة وجدانيّة تستدرّ المكنون ليفصح عن مخزون الذات الشاعريّة المرهفة من حبّ طافح،  كما تطفح أغداق الساهرين وقلوبهم بحكايات مضت وروايات طواها النسيان. إنه ديوان يشاكس الذاكرة ويرفض أن تلقى الأحداث والأشخاص بل وحتى الأشياء في فجوات النسيان، التقاط راق لكل ما يحفظ للذات حياتها وهًي تعيش حياة البعاد، فإن أرهقتنا المسافات، ماذا يتبقّى لنا غير الذكريات! والذكريات في الديوان ليست سوداء مدلهمة، لقد كانت شهيّة بهيّة فيها السنديان والزعتر والأقاحي و العنبر… ولكم عجبت من كمّ الجمال الذي يحويه هذا الديوان الجميل… نبدأ بالشوق لنتساءل عن أٌيائل تأتي في المساء، تحمل هدايا الحبيب كغيمة شاردة تهدي المطر لأرض كواها الهجر والعجز والسهر. وتحكي لنا قصة الحبيب الذي عرفته فأزهرت إذاك الحياة في قلبها، وكأنها تقيم كرنفالا تهدي فيه الأرض أبناءها للحب، فتتفتح الورود وتنشر عطرها، تبتسم السماء ويروق المزاج…

ليصبح الحب خليل المدامة، وكأنه سكر وارتقاء من المجسد الناقص إلى المجرد الكامل، فنرى أفروديت ورفٌيقتيها فينوس وعشتار يعلنّ أن الحب هو الكمال الذي لا ينقصك معه شيء. لتلوح لنا القصيدة التي تحمل عنوان الديوان “أشواق تشرين”، فنتساءل: لماذا لا يتأجّج الشوق إلا في تشرين، تشرين تشرين الخريف الذي يعصف بوريقات الأشجار مثلما يعصف بالأحاسيس والعواطف الكامنة، لتهيج وتصرخ في وجه الكون بأني “أشتاق إليه، أي والله أشتاق إليه،”حتى الفضاء يشتاق إليه، وتأبى الريح والغيم إلا أن يحملا أشواق ليلى المقفرة التي شاخت حنينا وصمتا إليه، لعل المطر يقطر حبا، في تشرين  تنتفض ليلى لتُسمع الكون بأن ثمة حبيب بعيد، وقلب أرهقه الشوق، وعين بعد الدمع العقيم تصر على أن تكتحل بألق الحب في مقلتي المحبوب، مثلما تثور الأرض على اليباس؛ لتطالب الله بجود يكسوها بحلة الربيع التي تليق بها. الحكايات في الديوان” خضراء” يصبح فيها الحبيب قمرا، ويصبح الوصول إليه ضرورة حتى وإن اضطرت ليلى؛ لتتسلق ضفائر شعرها إليه هناك حيث يطٌيب المقام… لذلك أعلنتها الشاعرة داخل الديوان مدوية “لن أرحل”، لن ترحل لأنها ترتبط بالأرض وبالحبيب، ومن غير امرأة تراقص الأرض وهي تتأمل صورة حبيبها تعلمنا بالإصرار على الحضور معنى الوفاء ومعنى الصمود.

ولأنها لا تمتلك حيلة تحاكم السفر والتيه والضياع وتقر بأن السفر ميلاد جديد، حياة لم تنسيها حواراتها مع قرة العين وهي تخبره بأنها تحبه أكثر. ومثلما تتذكر الحب تتذمر من أحباب هجروها، ورغم الهجر تعتد بنفسها فتلبس تاج ليلى؛ لتغدو قصيدة ترنو بعينيها للفجر القادم من بعيد، وتحلو الحكايات ليلا، في الليل حيث لقاء الأحبة وعناق الأشواق على أسرّة الذكريات… لتتذكر الحبيب وتتغزل فيه غزلا عذريا، وتحتفي بحبهما وكأن لحظات الذكريات تلك “عناقيد من حنين” وطوق من ياسمين. في الديوان تحضر تيمة الانتظار كتيمة محايثة للشوق، وكأن المشتاق منذور للانتظار ! فتعاتب الزمن المستعجل بأن يمهلها قليلا، تحاسب الأرض الزمن الأرعن،  فتنشد الشاعرة على نغم تميم البرغوثي

في خالدته “في القدس :””أتراها ضاقت علينا وحدنا، يا كاتب التاريخ ماذا جد فاستثنيتها”، وفي قصيدتها “أنا و أنت” نرى الشاعرة وكأنها طفلة صغيرة تلاعب فارس أحلامها وتسافر بنا إلى عالم من البراءة والصفاء. تبكي الشاعرة بونا شاسعا بين اليوم والأمس، تبكي الجفاء الذي استقر بالقلوب، وترُش الوصال بلسما من حب الوطن الذي يبدأ أولا بعشقها السرمدي الأبدي لهذا الوطن، المغروس في أعماق قلبها، كما استقرت رجة الحب العذريّ في فؤادها لمحبوبها البعيد بعد الوطن، فتحتفي بحجارة الوادي وأهله وقصصهم الملهمة وتخاف أن يحدث لها ما حدث لبراقش، ولأن القصيدة تنفيس عما تهتم وتغتم به النفس من أسى وتعب وتيه تلتقط الشاعرة صورة ورقة تلعب بها رياح الخريف من الفضاء، وتسقط ذاتها عليها، في المنفى نعم يا شاعرتنا نتحول إلى أوراق يابسة لا قرار لها، فنهمس بالحزن بيننا وبين أنفسنا ولا من مجيب ولا حتى الحبيب. ولأن من الحب ما يصبح تملكا تقرر أن ترسم خليل الروح بريشتها، وتشكله من بنات خيالها فارسا أو شاعرا أو قمرا، أكان واقعا أم خيالا…لا أعلم؟ هل من حبيب في القصيد؟ لا أعلم؟ لكن بين هذا وذاك يوجد قلب ينبض عشقا، تعلمنا الشاعرة من خلاله كيف يكون الحب في زمن البذاءة. الديوان كان تهذيبا لنفوس اخشوشنت وقلوب تحجرت ومشاعر تبلدت فينا، حتى صرنا محض آلات لا تحس ولا تحب ولا

تشتاق… ثورة على زمن تنكّر لكل ما هو انسانيّ وأفسح المجال للأنانيّة والنرجسيّة. وقد أفلحت في ذلك لا محالة، فهي التي اعتمدت لغة راقية ورنانة لها وقع هادئ على نفسيّة القارئ. تنوع جميل داخل الديوان من حيث تشكيل القصائد رغم أن بعضها افتقد للتركيز والتكثيف، لكن النثر عوض ذلك بعبارات مجازيّة لا تذهب بالمجازيّة بعيدا إلى حد اللاترابط، كما يحدث مع كثير من الشعراء الذين توقعهم الرمزيّة والمجاز أحيانا في اللامعنى.

القصائد في الديوان تراتيل وجد ووله بكلمات ساحرة للوطن والحب الأصيل والسلام، فالوطن هو سيّد الوقائع والمجاز، إليه تزف عبارات حبها، وعليه تتحسر من أٌ يام ضاعت في المهجر، وليس لها إلا أن ترفع يديها بالدعاء. وفي الديوان أٌيضا احتفاء بالقيم الإنسانيّة النبيلة كالصداقة والحب والسلام ولحظات العشق البسيطة الخجولة والحياء الأنثويّ البديع. وفي قصيدة “عودي” أتساءل: لماذا الشوق يا بنت الشوق وقد قررت الرحيل؟ أكان رحيلك اختيارا أم قدرا محتوما؟ ما أتعسنا حين نختار العذاب! ما أحرّ ما كانت دمعتك وأنت ترمقين يمامة ترابط في عشها محتضنة صغارها رغم البرد ورغم العدوّ وأنت تجمعين الحقائب! أكنت يا روز ليلى تهجر الحب تاركة خلفها الأطلال. من يشتاق يا ليلى، أنت؟ أم ذاك الحبيب؟

خاطبت الشاعرة المرأة قائلة كوني كما أنت، كوني  “كعبة” ولا تكوني لعبة، فليحجوا إليك راجين من كل فج عميق. ومن الحب ما يصبح استبدادا لذلك تحدثت الشاعرة عن عاشق يحترف اللعب بالعواطف… وتخبرنا أن القصيدة قد تصبح وجعا يقتلنا فيه البوح عن مأساة الوطن، لقد كانت هاته القصيدة “وجع الوطن” ضاربة في الرمزيّة البديعة. وتحلم في المنفى أنها تبحر نحو زيٌتون الوطن وكأنه المنى والمبتغى حيث الأرض مكان الحب

والسلام والعنادل… ولأن الشعر رسالة تكتب الشاعرة في القصيدة ما قبل الأخيرة “لم تغب الشمس” أن الأرض ههنا قائمة تحتفي بأصحابها كشمس لا تغيب في رسالة راقية تبعث الأمل في النفوس. أما نهاية الديوان فلم تكن إلا مع “يبوس” وهي القدس زهرة المدائن، قصيدة شاعريّة بامتياز، فيها جرس موسيقيّ تناغم مع موسيقى المكان ونفحاته التي تمتد من التاريخ إلى التاريخ، عبر الأزمنة، رأٌيتها تكسر سيف ديموقليدس وتقبض على اللحظة لتطبع قبلات من تهيام على جبين القدس والمقدسيّين، وكل من أدى طقوس الولاء لسيّدة المدن… ولم أستغرب حين قرأت “يبوس” ووجدتها تتقاطع مع اللفظ المغربيّ الدارج “بوسة” أي قبلة، و”يبوس” يقبّل؛ هاته القصيدة قبلة جميلة في جبين فلسطين الوطن الحبيب والقدس والتاريخ الشريف، وكل من لا زال يحتفظ بإنسانيّته في زمن السقوط والذئاب الجائعة والضباع الوضيعة التي تقتات على الجيف… هاته القصيدة نوح حمام يبكي في  كبد الليل، يبكي حبًّا دنّسه البغاة وقلبا أوجعته المأساة وحضنا صار باردا، وعيونا أرهقتها الدموع فأهدت أهدابها لوحشة الليل ووحدة القمر وبعاد النجوم …

ماذا أقول وماذا عساه يفيد القول حين تنأى العين عن العين وتغدو الدِّلاء بلا معين وتتكسر المجاذيف وتعوم علينا مياه الغدر ولا ميّاح في اليد، ولا يدا تصافح اليد لتذكرها بأن القلب قلبان والروح روحان وأن القسيم الذي أبعده سيف زيوس أعاده الحنين إلى حضن الحبيب…. لكن تبقى عيون “يبوس” كعبة تجمع حجّاجها، تحتضن كل من يؤمن بالإنسان، وبأن الحياة ليست ترفا و بأن الأرض و رائحة المكان ذاكرة راسخة تأبى النسيان والخرف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى