أستاذي العزيز (٤)
شرين خليل | مصر
نظرت إليه وأنا خائفة أن يطلب مني الابتعاد عنه بعد الإنتهاء من عرض المسرحية ..
تقطعت أنفاسي وتلعثمت كلماتي : ط..طلب أيه ؟
-مالك ياريم ليه إتخطفتي كده ؟
-أنا ماصدقت لاقيتك ومش عاوزه أبعد عنك تاني
-للدرجه دي ياريم ؟
– أنا مش عاوزه أعيش العذاب اللي عشته قبل كده ..
– ياريم لازم تعرفي إن في حجات ملناش يد فيها .. وزي ماقلت لك قبل كده إنسي اللي فات إنتي لسه العمر قدامك .الماضي ناخد منه بس العبرة ونتعلم منه الدرس ..
-وإيه هي بقي العبرة اللي المفروض أخدها والدرس اللي هاتعلمه ؟
– العبرة إن الأمل ممكن يخرج من الألم ،أنا اكتشفت إني فنان لما رسمتك ولما بدأت أتكلم مع صورتك ويبقي في بينا حوار والدرس هو عدم التسرع في إتخاذ القرارات وإننا لازم نحكم العقل حتى لو القلب هايتألم قرار العقل هو الصح لأن القلب بيخطئ أحيانا ..وعشان أطمنك أنا مش هابعد تاني مبقاش في العمر بقية للغربة والبعد .. أما الطلب اللي هاطلبه منك طلب بسيط جدا : أنا مش عاوز شادن تعرف إننا كان في بينا حاجه زمان وإن إنتي البنت اللي حصلت المشاكل بسببها .أرجوكي ياريم ..
-هي شادن أصلا عارفه الموضوع دا ؟
-ايوا طبعا والبركة في والدتك لما راحت لمراتي وأهلي وشادن كانت موجودة .الموضوع دا تعبها نفسيا ولولا مامتها قدرت تتصرف بحكمة وفهمتها إن دي مشكلة بسبب الإمتحانات كانت البنت هاتفقد ثقتها فيا وإنتي عارفه شادن متعلقة بيا قد إيه ..
-أنا أسفه على كل اللي حصل معاك بسببي ..
-خلاص ياريم دا موضوع وانتهى وإحنا قولنا ننسى اللي فات ونفكر في اللي جاي ..
-نبدأ شغلنا وأكلمك عن أول مسرحية هانعملها في مسرح العرايس هاقولك القصة بإختصار وإنتي بعد كده إقريها براحتك . المسرحية بتتكلم عن تناغم الكون أو بمعنى أوضح إن كل مخلوق في الدنيا له وظيفة وبيكمل التاني .. أبطالها الشمس والقمر والنجمة والسحابة..
الشمس بتقول :أنا مصدر الضوء …أنا أهم مخلوق
أنا اللي نوري بيملأ الكون …وبدوني النهار يبقي ليل .
عندي أشعة فوق بنفسجية …مفيدة للبشرية
أنا الدفء والنور والحياة …مين قدي أنا الشمس الجميلة…
-بعد كده القمر يبدأ يتكلم وكذلك النجمة والسحابة في الأخر هاتقول لهم كلنا سواسية ،كلنا مخلوقات الله خلقنا عشان نكمل بعضنا وكل واحد فينا له وظيفة ومانقدرش نستغني عنه .
-إيه رأيك ياريم ؟؟
-جميلة جدا والأطفال هايحبوها ..
-المسرحية التانية اسمها (البطل الصغير) وبتحكي عن طفل فقد أبوه وأمه في حادث أليم وللأسف فقد ذراعه اليمين …عاش مع جدته المسنة وكان بيعاني الحرمان والضعف بسبب الإعاقة وبسبب إنه يتيم وطبعا في المدرسة بيتعرض للتنمر من بعض الأطفال وفي يوم شافه مدرس الكمبيوتر حزين قرب منه واتكلم معاه وبدأ يحكي له عن قصص لعظماء كان عندهم إعاقة ومااثرتش عليهم بالعكس دول بقوا عظماء ولهم أثر كبير في الحياة ..و الإنسان لازم يتأقلم مع القدر ويرضى بماقسمه الله له ..
و كل إنسان عنده قدرة وموهبة ولو فقد حاجه ربنا بيعوضه بحاجه تانية ..ومن هنا حياة الطفل اتغيرت وبدأ يتدرب إنه يستخدم إيده الشمال في كل أعماله ويخرج من أحزانه ويساعد جدته وكمان بدأ يكتب على الكمبيوتر لدرجة إنه بقى ماهر جدا في الكمبيوتر وبعد ماكان بيتعرض للتنمر من زملائه بقى نموذج وقدوة للجميع ..
-رائع يادكتور بجد القصة أثرت فيا والجميل فيها إنها بتوجه رسالة لنا كلنا إننا لازم نراعي الطفل اللي عنده إعاقة ونقرب منه زي ماالمدرس عمل مع الطفل وعشان كده هاطلب من حضرتك طلب .
-أؤمري ياريم ..
-انا عاوزة الأطفال هي اللي تمثل المسرحية دي (البطل الصغير ).
-بس دا محتاج وقت وتدريب ولازم نجيب أطفال عندها موهبة التمثيل وكمان في أغنية فيها بتخدم الحوار ..
– ماتقلاقش الأطفال موجودة .
-موجودة ؟!!
-أيوا أطفال الدار .
-معقول ياريم .. أطفال الدار هايعرفوا يمثلوا المسرحية..
-أيوا لأنهم أكتر أطفال عايشينها وحاسيين بأحداثها ودي حاجة هاتفرحهم وهاتزود ثقتهم بنفسهم ودا المطلوب و أنا هادربهم كويس ..
طرقت شادن الباب ودخلت ومعها القهوة :
-معلش إتأخرت عليكوا .
-تعالى ياشادن احضرينا .ريم عاوزه أطفال الدار يمثلوا المسرحية ..
-تصدق يابابا فكرة حلوة .
-خلاص طالما اتفقتوا عليا أنا هاسكت بس لازم تعرفوا إني بحب شغلي يكون تمام إتفقنا ؟
-يابابا أكيد ريم لها وجهة نظر صح ياريم ؟
-أيوا ياشادن أنا شايفه إن دا فيه دعم نفسي للأطفال وكمان هانكتشف المواهب اللي عندهم ..أنا بس هاطلب من حضرتك طلب يادكتور ..
-اتفضلي ..
-هاجيب الأطفال يتدربوا هنا في المسرح عشان يتعودوا لأن المسرح اللي هنا مش بيختلف عن المسرح اللي هايتعمل فيه العرض ..
-إنتي تؤمري ..وعاوزه تبدأي من بكره معاكي وهاعمل لك الديكور زي يوم العرض بالظبط ..
-أنا سعيدة جدا ومش عارفه أشكرك إزاي ..أنا هامشي دلوقتي عشان أبدا أجهز الاطفال ..
ضحكت شادن قائله: والقهوة نسيتيها دا أنا أخرتها مخصوص عشان نشربها سوا .
-معلش ياشادن الأيام جايه كتيير لازم أروح الدار عشان أتفق مع الأستاذة نجاة ..أشوفكوا بكرة على خير إن شاء الله ..
-خرجت وأنا إنسانة جديدة بروح مختلفة بداخلي نشاط وتفاؤل وسعادة لم أشعر بها من قبل .ذهبت إلى الدار وتحدثت مع الأستاذة نجاة وأعجبت بالفكرة وبدأت أختار أبطال المسرحية من قبل أن أقرأ الحوار بالكامل وبعد الإنتهاء من العمل ذهبت إلى البيت ودخلت غرفتي وبدأت في قراءة الحوار وأتخيل المشهد وكأني طفلة صغيرة رجع بها الزمن إلى أجمل أيام وغفوت ولم أشعر بنفسي إلا في الصباح .وبدأت أتساءل هل كنت في حلم جميل ؟ حقا إنه حلما جميلا أتمنى أن لا أستيقظ منه .
طرقت أمي الباب ودخلت :
-ريم : إنتي نمتي بلبس الخروج .للدرجة دي كنتي تعبانه من الشغل وبعدين إمبارح دخلتي على أوضتك على طول ..
-أصل إمبارح كان يوم مرهق لكن من أجمل أيام عمري .
-طيب يابنتي تعالى الفطار جاهز .
-فطار!!
-ايوا ياحبيبتي نفطر سوا بقالنا كتير لا بنفطر ولا بنتغدى ولا بنتعشى مع بعض مابنتجمعش على سفرة واحدة غير في رمضان .
-حاضر ياماما ثواني هاهجهز وهاتلاقيني وراكي ..
خرجت أمي وأنا مندهشة من إهتمامها بي فلم أجد هذا الإهتمام عندما كنت في أشد الإحتياج له .تناولت معها الفطور وذهبت إلى الدار فالأطفال في إنتظاري على لهفة لكي نذهب إلى المسرح وبدأنا في تدريب الأطفال واندمجنا في العمل ونسينا كل شئ وتوالت الأيام ونحن نعمل على قدم وساق ومضى شهر واقترب الموعد فلم يتبق سوى أيام قليلة على الحفلة وبدأت الصورة تكتمل وتوحي بأن العرض سيكون رائع جدا .
وفي يوم جلست شادن معي وأخبرتني أنها سعيدة بهذا العمل الرائع الذي اخرج والدها من حالة العزلة التي يعشها فهي لاحظت إهتمامه بالمشاركة مع الأطفال وتدريبهم بنفسه وكأن هناك شئ خفي أعاد له روحه المفقودة وتنهدت قائله: كنتي فين من زمان ياريم ؟؟
إنتي عملتي اللي أنا مقدرتش أعمله .
أجبتها بإبتسامه حزينة :كنت موجودة ومنتظراكي تخرجيني من اللي كنت فيه أنا كمان كنت في عزلة و الحمد لله خرجت منها وإن شاء الله الأيام اللي جايه هاتكون أحسن من اللي فات ..
-تفتكري ياريم ..
-طبعا ياشادن ،تفائلوا بالخير تجدوه ..
-عارفه ياريم أنا نفسي في إيه ..
-ياترى ياهل ترى؟؟ شكلك جوعتي ولا إيه ..
ضحكت قائله : لا ياريم نفسي في حاجه أكبر وأهم حاجه هاتغير حياتي كلها هاتخليها حياة وردية أنا نفسي بابا يرجع لماما ويعيشوا مع بعض .أنا مشتته ياريم وحياتي مش كامله وفي صراع نفسي أعيش جو الأسرة الدافي حتى لو هايتخانقوا بس يبقوا حواليا أنا حسيت باليتم من صغري ..
كانت كلماتها كالسهم الذي اخترق قلبي ،بدأ قلبي ينزف وتصاعدت أنفاسي وبدأت الدموع تنهمر من عيني .احتضنتي وهي تقول :يااا ياريم إنتي حساسه جدا معقول إتأثرتي بيا كده أنا أسفه إني شيلتك همومي .امسحي دموعك دي وتعالي نخرج نتمشي شويه ونغير جو الشغل دا ..
-معلش ياشادن خليهابعد الحفلة إن شاء الله نخرج زي مانحب أنا هاروح دلوقتي وبكره نتقابل .
-بس ازاي هاسيبك تمشي حزينة كده وأنا شايفه الدموع لسه في عينيكي ..أنا السبب سامحيني ..
-لا ياحبيبتي ،أنا بردو زيك كان نفسي أعيش الجو الأسري الدافي بس الفرق بينا إن والدي ووالدتي مش منفصلين ..
-يعني أنا بردو قلبت عليكي المواجع ..
-حبيبتي ماتلوميش نفسك أنا في المواجع دي من زمان ..
-إنتي كمان ياريم ؟؟
-ناس كتير جواها مواجع بس مش بتقول ولا بتحب تظهرها وبتحاول تنساها بأي طريقة ..
-عشان كده بترهقي نفسك في الشغل ..
-بالظبط ياشادن هو الشغل بينسيني كل المواجع .
-معاكي حق الإنسان لما يكون عنده هدف نفسه يحققه ويجتهد فيه لما بينجح بينسي كل أوجاعه كنوع من أنواع التعويض لنفسه..عموما ياريم أنا حبيتك وأعتبرتك اخت ليا وصديقة لإني لمست فيكي حب الخير والعطاء فيكي صفات مش موجودة في الزمن دا ويمكن يكون دا سبب إنك مااتجوزتيش لحد دلوقتي صح ولا في حاجة تانية؟
-لا تانية ولا تالتة الجواز دا نصيب ولسه مجاش النصيب وكفايه كده كلام أنا هامشي واشوفك بكره باقي أيام على الحفلة مش عاوزين نيجي في الآخر ونكسل يلا سلام بقى عشان أستاذة نجاة طلبت مني أكتب كلمة أقولها بنفسي في الحفلة ..
-سلام ياريم ربنا معاكي ..
ودعتها وأنا في ضيق شديد من أمري وبداخلي صراع بين عقلي وقلبي ..
قلبي يتألم ويبكي لقد اكتفيت من العذاب وآن الآوان أن اتنفس الحياة ..
وعقلي يرد بحكمة:
بمن ستضحي
بالثوابت أم المتغيرات
باللذي يتبقي معك أم بهذا الغريب العابر
بالطرف الثابت أم بالطرف الجائر من وجهة نظر الآخرين فهو جائر لأنه اخترق الثوابت حتي وإن لم يكن يقصد ذلك
لا تضحي بمن يمتلك روحك بمن يأخذ نبض الحياة من قلبك
لتعطي روحك لمن لاروح له فيأخذ ها ويرحل ويتركك بلا روح وبلا ثوابت
فتجد نفسك تائه ف طريق لا رجوع ولا تفاوض ..
أتعبني التفكير ولذا قررت أن أعطي لنفسي هدنة من هذا الصراع حتى تنتهي الحفلة ..
ومرت الأيام وأنا أعمل في صمت وأحاول بقدر الإمكان أن أتجنب الحديث مع شادن ووالدها إلا في حدود العمل فقط .. وجاء الموعد المنتظر موعد الحفلة التي ينتظرها الجميع …