في مسيرة ابن باديس الإصلاحيّة دروس وعبر!!

الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام| الجزائر   

الشّيخ عبد الحميد، ابن باديس أحد الرّوّاد الكبار في الحركة الإصلاحيّة في الجزائر، واحد أقطابها في النّضال الوطني، والجهاد التّربوي والاجتماعي، والعمل السّياسي. تعلّم في الجزائر وخارجها ليعمل ويقوم بواجب النّهوض بالأمّة ويسهم في بناء الفرد الجزائري بالعلم الصّحيح والفكر الأصيل. فنظّم الحلقات العلميّة في المساجد وفي بعض المراكز التّعليميّة، وأسّس جرائد، ونشط في أنديّة، وقام بجولات عديدة في التّراب الوطني؛ معلّمًا ومربيًّا ومصلحًا، ويّداعيًّا وموجّهًا ومرشدًا.. خاض معترك الحياة السّياسة بقوّة الكلمة وسلاح التّوعيّة، فحارب الاستعمار الفرنسي بقوّة، وأظهر في ذلك شدّة وصرامة وحزمًا، ومرونة ومداراة وديبلوماسيّة محكمة في آن واحد، دوّخت الفرنسييّن، وعجزوا أن يوقفوا زحف جهاده، أو يحولوا دون مواصلته العمل الجهادي.

مع كلّ هذه الأعمال المتواصلة ليل نهار، وفي جبهات متعدّدة، لم ينسَ ميدان التّأليف والكتابة.. فقد ألّف كتبًا وكتب مقالات، ونظم شعرًا وأناشيد، وحرّر رسائل للعلماء والأصدقاء والأبناء والطّلبة وعامّة النّاس.. زيادة على تفسير القرآن الكريم وشرح الأحاديث النّبويّة، وغيرها من الأعمال الكبرى الموجّهة للتّكوين والإعداد والبناء..

ترأّس جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين فأحسن إدارتها وتسييرها. ربط علاقات قويّة مع رجال الجزائر الكبار، علماء وساسة وقادة وأعيانًا، ومع العلماء و الزّعماء والكبراء في العالم الإسلامي، هذه العلاقات اندرجت ضمن عمله الجهادي والدّعوي لخدمة الإسلام والوطن والمجتمع.. فربحت الجزائر بهذا الجهاد والنّشاط ربحًا كبيرًا؛ إذ ألّف لها رجالاً خدموها، ووطّد ومهّد لأبناء الجزائر مسلكًا قويمًا في العمل البنائي والتّكويني والتّربوي والاجتماعي.. كانت نتائجه وثماره طيّبة ومباركة على مستقبل الجزائر..

الشّيخ ابن باديس اشتدّ نشاطه وقوي جهاده وازدادت حماسته للعمل الإصلاحي والتّربوي والوطني.. في أصعب فترة عاشتها الجزائر تحت نير الاستعمار الفرنسي الغاشم، وتحت نيران قمعه الجهنّمي لكلّ عمل  تربوي، أو جهود إصلاحيّة، أو نشاط وطني.. فترة الثّلاثينيّات من القرن العشرين، التي كثّف فيها الاستعمار الفرنسي جهوده للإجهاز على النّضال الوطن، وإجهاض كلّ حركة إصلاحيّة أو نشاط وطني؛ بسنّ القوانين الجائرة في حقّ كل ما هو أصيل في الفكر والثّقافة الجزائريّة، والقيام بالاستفزازات وتدبير المؤامرات وتلفيق الاتّهامات لنشطاء الحركة الإصلاحيّة والوطنيّة؛ لإبعادهم عن  ميدان الجهاد، كما اجتهد في محاربة مقوّمات الشّعب الجزائري، ومناهضة قيمه، وعزل شباب الأمّة عن زعمائها وموجّهيها، وتشويه تاريخ الجزائر المسلمة..

في هذه الفترة قوي نشاط ابن باديس مع زملائه في الجهاد، إذ كانوا بالمرصاد لكلّ تلك الأعمال الموجّهة لتحييد الجزائر عن منهج الإسلام وفصل الشّباب عن أصولهم.. فتأسّست جمعيّات، وتكوّنت هيئات، وبنيت مدارس، وأنشئت نوادٍ، ونشطت الصّحافة.. فكان لهذه المبادرات والأعمال أثرها في تقويّة الإيمان في نفوس  النّشء، الذي قال فيه ابن باديس:

يا نشءُ   أنتَ   رجاؤُنــــــــــا

 

وبك الصّباح   قدِ  اقْتَرَبْ

خُذْ   للــحَـــــاةِ  سِلاحَهـــــــــا

 

وَخُضِ الـخُطوبَ ولا تَهَبْ

تقوية الإيمان بالله والإيمان بالوطن. هذا النّشء الذي أنْشأَه على النّهج الذي أفصح عنه في النّصّ الآتي: “إنّنا والحمد لله نربّي تلامذتنا على القرآن من أوّل يوم، ونوجّه نفوسهم إلى القرآن من أوّل يوم،  ونوجّه نفوسهم إلى القرآن في كلّ يوم، وغايتنا التي ستتحقّق أن يكوّن القرآن منهم رجالاً كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرّحال القرآنيّين تعلّق هذه الأمّة آمالها، وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودُنا وجهودُهُم” (الشّهاب، ج4 و5، مج 14، ص: 291). وهو القائل: ” من علّم بنتًا فقد أغلق سجنًا”   

كما نحج ابن باديس في زرع روح المقاومة في شباب الجزائر، بالإضافة إلى بناء شخصيّتهم، وتكوينهم علميًّا واجتماعيًّا..من بين مظاهر هذا التّكوين في الشّباب الجزائري – نتيجة عمل المصلحين البنائي – الاستجابةُ السّريعة لرفع السّلاح في وجه الاستعمار، وهو ما حدث في حوادث الثامن من مايو سنة 1945م.. والاستجابة  القويّة لنداء الثّورة التّحريريّة الجزائريّة في أوّل نوفمبر 1954م. التي توّجت الثّورات التي قام بها الشّعب الجزائري منذ أن وضعت الفرنسيّون أقدامهم في أرض الجزائر سنة 1830م، وأنهتها بالاستقلال سنة 1962م,

نبّه ابن باديس الشّعب الجزائري إلى عدم الوثوق بوعود المستعمر المتجاهل حقوقه وقيمته،  كما دعاه إلى التّحلّي بالثّقة في النّفس، والاعتزاز بها، قال: ” أيّتها الأمّة الكريمة، أيّها النّواب الكرام! اليوم وقد آيسنا من غيرنا يجب أن نثق بأنفسنا. اليوم – وقد تجوهلت قيمتنا،  يجب أن نعرف نحن قيمتنا. اليوم وقد خرست الأفواه عن إجابة مطالبنا، يجب أن نقول نحن كلمتنا” (عمار طالبي، آثار ابن باديس، ط3، م2، ج1، ص: 370).

لذا نقول: لم يخطي الكاتب السّوري بسّام العسلي، حين ألّف كتابًا عن الشّيخ ابن باديس، سمّاه: عبد الحميد، ابن باديس وبناء قاعدة الثّورة التّحريريّة الجزائريّة”، ابن باديس توُفّي سنة 1940م، والثّورة الجزائريّة قامت سنة 1954م.. لهذا العنوان دلالته ومراميه ومغازيه، يفقهها من يدرس التّاريخ بعقليّة المؤرّخ المدقّق المتعمّق المتأمّل في سيرورة الأحداث ومآلاتها، ومن يقرؤه  للتّأسّي والاعتبار والاستفادة..

هكذا تُعلّمنا مسيرة الشّيخ ابن باديس العلميّة والتّربويّة والإصلاحيّة الشّاملة..أنّ العلم يسخّر في خدمة المجتمع، وأنّ من يتصدّى لخدمة الأمّة وتربيتها عليه أن يكون ذا دراية بمجموعة من المجالات، وأن يتفقّه في مجموعة من العلوم، وأن يكون قريبًا من مجتمعه، بل مندمجًا فيه. وأن يكون صاحب نفَسٍ طويل في العمل البنائي والإعدادي، وصاحب نظرة استشرافيّة لمستقبل عمله والمجتمع الذي ينشط فيه، ليعرف كيف يعدّه إعدادًا صحيحًا يتماشى مع التّطوّرات والمستحدّات والمتغيّرات.. رحم الله الشّيخ ابن باديس، ونفعنا بعلمه، ورزق العمل بمنهجه، ووفّقنا لاستثمار كلّ ذلك في مسيراتنا وأنشطتنا، فإنّ مسيرته  الإصلاحيّة كلّها دروس وعبر..

                     

                                    

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى