الأديب السُّوري الدكتور موسى رحُوم عبَّاس وناصر أبو عون

لقاء خاص | جريدة عالم الثقافة

“لا تباعدْ بينَ أصابعك؛ فأنتَ تقبضُ على حَفْنَةِ الترابِ الأخيرةِ.” (من روايتي بيلان)

 

1) الدكتور موسى رحوم عبَّاس … السِّيرة والمسيرة .. أين تضع قدميك الآن؟

   أنا ذلك الطفل الوحيد الخجول الميَّال للعزلة، ولمَّا أزل. نشأت في قرية صغيرة وجميلة هي كَسْرَةُ مُريْبِط التي تتكئ على كتف الفرات من أعمال مدينة الرقة السُّورية. تعلمتُ منها الصَّمت والدَّهشة والأسئلة، لم أكن متفوقا، ولم أكتب شيئا ذا بال في طفولتي وشبابي. تخرجت في جامعة حلب، وتخصصت لاحقا في علم النَّفس السَّريري، وهاجرت منذ عشرات السِّنين، صدر لي:

  1. “الآفلون”، ديوان شعر، دار بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، بيروت، 2010.  
  2. “بيلان”، رواية، دار بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، بيروت، 2011 وقد أدرجت على القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب، دورة العام 2012.
  3. “الوسواس القهري، ماهيته، أسبابه، علاجه”، بالاشتراك مع الدكتور يحيى القبالي، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، 2012.
  4. “فبصرك اليوم حديد”، ديوان شعر، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، 2015.
  5. “بروق على ثقوب سوداء”، قصص، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، 2015. وقد ترجمها الأستاذ الدكتور موسى الحالول، أستاذ الأدب المقارن في جامعة الطائف، و الدكتورة سناء الظاهر، عميدة كلية الآداب في جامعة عِفّت تحت عنوان White Carnations، وستصدر عن دار النشر الأمريكية كيون برس.
  6. “ليلة إعدام دمشق”، مقالات في الفكر والفن والثقافة، دار فضاءات للنشر والتوزيع، 2019.

 ما زلت أحاول أن أضع قدمي، يا صديقي، على أرض ثابتة، كيلا تزلَّ!

***

2) من خلال هذه السِّيرة نراكَ تكتب في الشِّعر، والرواية، والقصة، والمقالة … هل ثمة مقاربة لذلك، تنير لنا الدُّروب التي سلكتها؟

  كنتُ أضحكُ بألمٍ من عبارةٍ كان يكررها الجاحظ في كتبه، عندما يتحدث عن سيرة أديب أو شاعر؛ فيقول ما معناه: عاش فلان حتى أدركته حرفة الأدب فمات فقيرا. متأخرا أدركت ذلك، أن تكتب في المنطقة العربية عموما – مع اتساع الهامش في هذا البلد أو ضيقه – يعني أن ترفع رأسك عاليا محاولا التَّنفس في منطقةٍ خانقةٍ، ربَّما تحاول مقاومة الغرق يوميا، وأنتَ تبتكرُ أشكال موتك. جئتُ متأخرا إلى الكتابة، وتحتدم في هذا الرأس أصواتٌ كثيرةٌ، كتبت الشِّعر فتساميتُ به فوق الجراح، أحسستُ أنه صوت العالم، ولغة الكون، وفي الرِّواية وجدت متسعا للبحث وتأريخ ما تجاوزته التواريخ سهوا أو عمدا. أمَّا القِصَّة القصيرة فهي لعبة استهوتني. فهي تشبه الرَّصاصة الواحدة في بندقية القنَّاص، إما أن تُصيبَ الهدف، أو تكشفَ مكانه – أعني القنَّاص – وربما نهايته. والمقالة إطلالة من دون أصباغ وأقنعة على الآخرين. أليست هذه هي الحياة، أنا ابن الحياة وقتيلها! إلى أي حد وصلت في هذه المعادلة، لست متأكدا من شيء، الأمر للتاريخ.

***

3) المشهد الثقافي في نطاق وجودك الجغرافي والافتراضي … ما هي الملامح والسمات والتأثيرات في المشهد العربي الكبير؟

   للأسف، لست متفائلا بالمشهد الثَّقافي العربي، فأنا بعيدٌ عن الإيديولوجيات ولا أتقنُ الشِّعارات الكبيرة والتعصب لها، كما أنني لن أكون ساذجا في انتظار غودو، وسيط التغيير والنهوض. ولست موهوما بأن الأدب يمارس التحريض والتغيير. نحن نتحدث عن مجتمعات أكثر من نصفها أمِّي، يعاني في أجزاء واسعة منه التهجير والتشرد والحروب بالأصالة والوكالة والذِّهنية الأسطورية والنكوص إلى بُنَى ما قبل الدَّولة، والمستوى القرائي العام يكاد يكون صِفْريًا. صحيح أن وسائل التَّواصل الاجتماعي توهم بوفرة الأدباء والشُّعراء والرِّوائيين، لكن هذا لا يبرِّر الاستنتاجاتِ المتسرعةَ حول المشهد الثَّقافي العربي، المؤسسسات الرَّسمية الثَّقافية العربية ما زالت نمطية الحركة تسيرها غالبا بيرقراطيات متهالكة، ودور الجامعات في تطوير الأدب والبحث العلمي وحركة النقد أراه ضعيفا، أو محدودا ولأسباب لا أظن أنَّ المجال يتَّسع لها. وفي التَّفاصيل استطاع أدباء الخليج العربي عموما تسجيل نقاط كثيرة لصالح الأدب والثقافة لمنطقة جغرافية كانت مستبعدة عن الخارطة الثقافية العربية، وهاهم أولاء يسجلون أسماءهم: مبارك العامري وجوخة الحارثي وسيف الرحبي وأميمة الخميس وعبده خال وقاسم حداد ومحمد الثبيتي وطالب الرفاعي وسعود السنعوسي … وأعتذر جدا ممن لم أذكر أسماءهم من جيل الرواد.

***

4) كثير من الكتاب ينظرون إلى الكتابة على أنها قلق وجودي نابع من حيرة المبدع أمام الكون… هل نستطيع الحصول على جواب شاف لسؤال الكتابة وجدواه… لماذا يكتب موسى رحوم عباس؟

 سؤالك صديقي الدكتور ناصر هو أيضا سؤال وجودي، ولطالما تساءل الإنسان من أين؟ وإلى أين؟ هذا الكون العظيم ونحن فيه نقطة ضوء آفل. نعم، الكتابة لدي هي فعل ضد الموت، هي فعل يقاوم الانمحاء، إذا كان لابد لنا من الأفول، على الأقل فلنترك بقعة ضوء هنا، نترك أثرا يقول للآتين: مررنا قبلكم. ربما هذا ما قصده إدغر ألن بو في محاولته فك الارتباط بين القصة والأخلاق بمعناها الوعظي. لست مُبشِّرا سياسيا أو دينيا أو أخلاقيا. أكتب عن آخرين يشبهونني حزنا وقلقا – وجوعا، أحيانا للطعام، وأحيانا للحرية. أعبِّر عن انكساراتي وخذلانهم وعن بطولاتهم أيضا، وأحيانا أكتب لأتوازن وأستمر في الحياة، وربما رصدتَ الفرحَ يلمع في قاع الهزيمة في بعض ما أكتبه!

***

5) لا يزال الجدل يدور حول استقلالية القصة القصيرة جدا، هل هذه الكتابة تشكل نوعا أدبيا قائما بذاته، أم هي مجرد صنف من جنس كان متداولا غير أن بعض الكتاب يفضلون اعتبارها شكلا من أشكال القصة دون الحاجة لتجنيسها، أو إعطائها هوية مستقلة. إلى أي الآراء تميل؟

 عرف الأدب العالمي الكتابة خارج التجنيس أو العصية على التجنيس، فالكاتب اللاتيني إدواردو غاليانو مثلا كتب مازجا بين السِّيرة والأسطورة والرِّواية وحتى التَّاريخ وبقي منتجه الإبداعي في غاية الأهمية، أما القصة القصيرة جدا فهي قصة سواء أكانت قصيرة أم طويلة: هي فن له قواعده. ومرة أخرى أعود لوسائل التواصل الاجتماعي فقد تركت بصمتها على هذا الفن وصولا لما يسمِّيه الدكتور معجب العدواني “القصة التويترية” وغيره يسمِّيها ” الومضة.” بالنسبة إلي أعدُّ القصة القصيرة فنًّا مختلفا، وما يميزه، ما يسميه أهلنا في مصر بـ “الحدوتة،” أي الحدث والشخصيات وعناصر الحبكة الدرامية. أما معظم ما نطالعه تحت هذا المسمَّى ليس منه، وبعضه خواطر ليس إلا، مع مساندتي التجريب للقادرين عليه، فالإبداع ليس حكرا على أحد، بل هو مشاع والحياة ما تزال ولودا!

***

6) يعتقد البعض أن ذوبان القصة القصيرة العربية في الشكل الغربي ضيع عليها الاستفادة من ذخيرة فعلية “كان ممكن استثمارها دون تقديسها” فضلا عن تنوع الكتابات القصصية ما بين مدرسة وأخرى، ونزعة أو أخرى، وما بين التأثر بالتداول الشفهي اليومي أو الموروث العربي، كيف يمكن توظيف التراث العربي في بنية القصة القصيرة المعاصرة؟

اسمح لي دكتور ناصر أن أعود لمدينتي الرَّقة، ففيها عجيبتان تميزانها عن معظم المدن التي عرفتها في القارات الأربع التي زرتها. الأولى: في معظم مدن العالم كرة القدم هي اللعبة الشعبية، أما في الرَّقة فهي كرة اليد إلى درجة أن معظم أعضاء الفريق السُّوري الأولمبي كانوا من أبنائها في السَّبعينيات من القرن الماضي. والثانية: فمعظم مدن الوطن العربي – على الأقل – يشكل الشعر ولاحقا الرواية الفن المفضَّل، أما الرَّقة فالقصة القصيرة هي الفنُّ الذي يجرِّبه أولا كلُّ شابٍّ موهوب حتى أنها حازت على لقب عاصمة القصَّة القصيرة السُّورية قبل اندلاع الحرب في بلادنا. نعود للتراث والقصىة، استلهام التراث كان واحدا من أساليب التجريب، والمقصود بالتراث (الديني، الشعبي، الأسطوري، شخصيات تراثية، قوالب تراثية). وأرى أنه تم هذا الاستثمار لصالح الفن القصصي والمسرحي أيضا، وهو ما رآه الدكتور حسام الخطيب، إذ رأى الإقبال الشديد على القصص التاريخية، وما فعله سعد الله ونوس في المسرح.

والمنتج الإبداعي للدكتور عبد السلام العجيلي وزكريا تامر في سوريا وجمال الغيطاني في مصر … وغيرهم يؤكد أهمية التراث واستلهامه فنيا. أما الأجيال اللاحقة فقد اندمجت مع الأساليب والمدارس الغربية، فالقصة القصيرة فن حديث في بداية القرن العشرين ومع انتشار البعثات والتواصل مع المدارس الغربية وأدب الواقعية الاشتراكية وما سمي بالأدب الملتزم اتخذ هذا الفن منحى مختلفا، وأصبح معطف جوجول واسعا، يمكن لبعضنا الاختباء تحته كما يقول مكسيم غوركي، “لقد خرجنا جميعا من تحت معطف جوجول.” واقتربت القصة الحديثة من هموم الناس وظروف الزمان والمكان على حد تعبير إدورد سعيد.

***

7) قراءتي لبعض نصوصك تتبدى محاولة جلية ورغبة عارمة في تحطيم الحدود بين القصة القصيرة وغيرها من أنواع الخطابات وبينها وبين المعرفة … لماذا هذا التوجه؟

هذا سؤال عميق. في لحظة الخلق الفني لا يتوقف الكاتب بصورة واعية ليقول هنا سأفعل كذا، وهنا سأتجاوز كذا. لكننا في النهاية ننتج إبداعيا ما نعرف، أو ما يختزنه لا شعورنا من تجارب ومرتكزات. أنا أتعاطى الشعر والرواية والمقالة، لذا حين أنخرط في فعل الكتابة تتداخل الكثير من المعارف والحصيلة الثقافية والتجارب لتنتج في النهاية النَّص، وفي النهاية أحاول لملمة الخيوط كلِّها للوصول للذروة صانعا المتعة والجمال، وقد استعمل ما أسميه بالإيهام بالواقعية، إذ أنصب شركا للمتلقي ، فأضع بين يديه اسما أو مكانا أو حدثا يعرفه، ثم أجعله طرفا  بعد ذلك في لعبة صناعة الفن ومتعة الكشف، هذا جزء من بصمتي الخاصة، وللآخرين لغتهم وطرائقهم.  

***

8) في نصوصك القصصية حركة بندولية ارتدادية بين الغوص في قاع الواقع المعاش والصعود إلى المجرد والأسطوري والسريالي إلى حد كبير!! لماذا هذا التوجه؟ هل هو محاولة للهروب من مقص الرقيب؟

أي فرح تهديه إلي، صديقي! قراءتك لنصوصي واعية وعميقة، أحيانا الحياة نفسها لا تسير بخط مستقيم، تتشابك خطوطها من الخاص إلى العام، من الواقعي إلى السريالي. الأسطورة هي وسيلة العقل الأولى لتفسير الكون على رأي فراس السواح، ولهذا قصصي تتأرجح بحركة بندولية، كما عبرت، بين كل هذه المستويات. في الحقيقة أنا كتبت معظم منتجي الإبداعي في بلدان المهجر، وكنت أقول ساخرا، إنَّ الرقيب مضاف لجواز سفري، يرافقني من جنيف إلى لوس إنجلس مرورا بباريس، بل ربما يشاطرني غرفة نومي. فأخطر أنواع الرقباء هو الذي ينام في تلافيف مخك، فلا يرتاح، ولا يدعك تستريح! وهذا يعيدنا لوجع الكتابة ومتعتها بآن!

***

9) شهدت أواخر القرن التاسع عشر، التحول إلى القصة النفسية مصحوبا بظهور النظريات الحديثة في علم النفس وأدرك الأدب نصيبا من تأثير فرويد في اللاشعور، هل هناك بعد جديد للدراما الإنسانية يتيح لك كمختص بعلم النفس وأديب الاعتماد عليه في تفسير السلوك الإنساني؟

  طيف هذا السؤال واسع جدا، لكنني سأحاول الاختصار. ترك فرويد وتلاميذه ومنجزاتهم في التحليل النفسي أثرا بالغا في الأدب العالمي، فلم يسلم أديب عالمي معروف من هذا التأثر، ودراستي لعلم النفس العِيادي (السَّريري) كان لها الأثر الحاسم فيما أنتجتُهُ قصةً وروايةً وشعرًا. لا بل أستغرب كيف يمكن لكاتب يتعاطى أيا من فنون السَّرد، وهو يجهل أساسيات هذا العلم؟ وكيف يبني شخصياتٍ آدميةً ويُمْلِي عليها سلوكَها، وهي لا يعرفُ كيف ينتظم سلوكُ النَّاس؟ فالصِّراع والتطور الدرامي في العمل الأدبي تحكمه معرفة الاضطرابات النَّفسية، والعُقَد التي تكمن في دواخلنا لتنفجر في اللحظة المناسبة.

 منذ عدة أيام، نشرت مقطعا صغيرا من نصٍّ شعري، أقول فيه:

يُخيفني المساءُ دائما، يخيفني المساء/ مع اقترابِ خيله / تغرورقُ العينان بالدموع/ وترحلُ السَّاعاتُ في أجنحةِ الدُّوار/ تختلط الأشياءُ في ذاكرتي/ وتمَّحي الوجوهُ والخطوطُ والألوان/ ويدخل التاريخُ في عَبَاءة الفناء/ لكلِّ هذا دائمًا يُخيفني المساء.

 بعد دقائق أرسل لي صديقٌ مختصٌ بعلم النفس يقول لي: أنت تتحدث شعرا عن اضطراب الظلمة أو أول الليل، وهو اضطرابٌ نفسيٌ موصوفٌ لدى ك. غوستاف يونغ تلميذ فرويد المعروف.

***

10) وماذا بعد؟ هل أنت راض عن هذه المسيرة؟ وهل ثمة ما تود قوله؟

  سعيد بما أنجزتُ، ولستُ راضيا به، هذه من المتناقضات في حياة من يحاول أن يفعل ما يرضيه أولا، ويقنعه أولا! في كلِّ عملٍ أرغبُ في تجاوز ذاتي، أن أكون في مستوى آخر. روايتي الأولى “بيلان” وصلت للقائمة القصيرة في جائزة الشَّيخ زايد للكتاب للعام 2012، وهي جائزةٌ مرموقةٌ عربيا وعالميا. قصصي القصيرة المترجمة للإنكليزية نالت تقريظا أعتز به من شخصيات أكاديمية عالمية، كالبروفيسور آرثر غولدشمت الأستاذ المعروف في جامعة بنلسفانيا الحكومية، والبروفيسور عمر العمادي أستاذ التاريخ في الجامعات البريطانية، والمستعرب الهولندي المعروف نيكولاس فان دام، وغيرهم ونالت كتاباتي دراسات عربية مهمة، من نقاد أحترمهم مهنيا وشخصيا. هذا مصدر السعادة، أما عدم الرضا فهو الهاجس الذي يدفع بي للعمل والجهد نحو التمكن من أدوات الفن كتلميذ ما زال يتدرب ويتعلم من نفسه والآخرين، أدعو لبلادي سوريا الحبيبة أن يعمَّها السلام ويتوقف نهر الدماء فيها،  أقدر لكم سعادة رئيس التحرير الدكتور ناصر أبو عون، هذه المبادرة الطيبة، راجيا لكم وللمؤسسة الإعلامية التي تمثلونها التوفيق والسداد.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى