شهيد الحب الإلهي

هلال السيابي | شاعر عُماني ودبلوماسي سابق
تلقيت بالأمس قصة لأحد الصالحين ذكرها الإمام الشافعي في كتاب “روض الرياحين” مروية عن مالك بن دينار العابد الزاهد المعروف..فقمت بنظمها مع مقدمة مني. والقصة مرفقة أسفل القصيدة أيضا.


سأبكي دما لو كنت أعقل ما يجري
وما خبأته الساريات من الأمر
^^^
ولكن ما بيني وبين سطوره
منازع تلوي بالمهندة البتر
^^^
ومن قبله الأطواد شاهقة الذرى
فيا لفؤاد كيف سال على صخر
^^^
وما الدمع إلا حيرة بشرية
تجاه خبايا الأمر أو مغلق السر
^^^
فكيف أضاء الليل منطمس الصوى
وكيف دجت شمس الضحى لحظة الظهر
^^^
رويدك قف.. دون المشاهد مشهد
رقيق الحواشي تحت أردية الستر
^^^
رآه الألى قد عرٌَجوا بصفاتهم
إلى مربع من دونه منزل النسر
^^^
ولم يدره إلا الألى نصب الهوى
جباهم حتى سمت بذرى الغفر
^^^
رأت فسمت، حتى تراءت لها السما
وقيل لها هذي المنازل فاستذري
^^^
ومن ذلكم قد راعني اليوم موقف
يحدٌث عن زهر ويُخبِر عن غُر
^^^
حكاه “ابن دينار” ويا حسنَ ما حكى
غداةَ لبيتِ الله باتَ على سفر
^^^
وإذ بفتى يسعى “كمالك” قاصداً
إلى الحج، لكن دون زادٍ ولا وفر
^^^
فقال له: من أين أنت فلم يجب
سوى أنه “من عنده” دونما نشر
^^^
فقال ابن دينار إلى أين سيدي
فقال: إليه، أو إلى بيته فادرِ
^^^
فقال له: الأكل والشرب لازم
فقال ولكني سأطعم من ذِكري
^^^
خرجتُ ولي من بدء “مريم” سرها
غنيت به والله عن مَشرَب القطر
^^^
ففي كل حرفٍ، لوعقلتم حروفها
غناء لعمري عن ندى البحر والبر
^^^
فقلت إذنْ هذا قميصي، فخذه
للصلاة، فلم يقبل محاذرة الوزر
^^^
وقال: حلالُ الله فيه حسابُه
فكيف إذا كان الحرام به يزري
^^^
وفي كل ليلٍ كان يرفع رأسَه
يناجي إله العرش عن مدمع يجري
^^^
إلهيَ ربٌ العرش والأرض والسما
ورب الجبال الشم والأنجم الزهر
^^^
إذا لم تك الطاعات نافعة ولا
تمسٌُ معاصي العبد مجدَك بالضر
^^^
فهب لي ما قد كان ليس بنافع
لذاتك واغفر لي المذمٌمَ من أمري
^^^
ومازال يدعو الله حتى كأنه
يُدٌَع إلى النيران متقد الصدر
^^^

إلى أن أتى الميقات، والدمع هامر
بعينيه مثل السيل من حدة الأمر
^^^
تلجلج منه صدره ولسانه
ولم يقو حتى للدعاء وللذكر
^^^
فقال ابن دينا : ألا لبِّ يافتى
فإنك بالميقات إن كنت لا تدري!
^^^
فقال: أخاف الرد يصعق مهجتي
برفض من الجبار من دونما جبر
^^^
أقول له: لبيك ربي، فأسمع
الأجابة: لا لبيك من ظالم غر
^^^
يقول ابن دينار فغاب، ولم أجد
له أثرا حتى أتت ساعة النفر
^^^
فشاهدته في مشهد أي مشهد
بخير مقام بين زمزم والحجر
^^^
يقول: إلهي يذبح الناس هديهم
وماليَ من هدي إليك ولا نحر
^^^
إلهي فاقبل من فقيركَ نفسَه
فمالي سوى نفسي أقدم في فقري
^^^
وما زال يدعو الله حتى رأيته
بلا نَفَسٍ، والوجه كالكوكب الدري
^^^
ولما ألمٌ النوم بي جاءني الفتى
يخبٌِرني عن موقف العزٌ والفخر
^^^
يقول: سقاني الله من أكؤس الهنا
وضمٌ رفاتي في بيوت من الدر
^^^
وصيرٌني من “أهل بدر”، وزادني
على أهل بدر بالكريم من الذخر
^^^
لأنهم راحوا إليه على القنا
ورحت إليه مولعا بالهوى العذري!
……….
١٧ شعبان ١٤٤٣ هج
٢١ مارس ٢٠٢٢

جاء في (كتاب ﺭﻭﺽ ﺍﻟﺮﻳﺎﺣﻴﻦ) ﻟﻺ‌ﻣﺎﻡ ﺍالشافعي : ﻋﻦ ﻣﺎﻟﻚ ﺑﻦ ﺩﻳﻨﺎﺭ – ﺭﺿﻲ ﺍلله ﻋﻨﻪ – أﻧﻪ ﻗﺎﻝ: خرﺟﺖ حاجاً إﻟﻰ ﺑﻴﺖ ﺍلله ﺍﻟﺤﺮﺍﻡ ﻓﻲ ﻋﺎﻡ ﻣﻦ ﺍلأ‌ﻋﻮﺍﻡ” فبينما أﻧﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﻭإﺫﺍ برجل ﻳﻤﺸﻲ ﺑﻼ‌ ﺯﺍﺩ ﻭﻻ‌ ﺭﺍﺣﻠﺔ ﻓﺴﻠﻤﺖ ﻋﻠﻴﻪ” ﻓﺮﺩَّ ﻋﻠﻲ ﺍﻟﺴﻼ‌ﻡ. ﻓﻘﻠﺖ له: من أﻳﻦ أﻧﺖ؟! ﻗﺎﻝ: ﻣﻦ ﻋﻨﺪﻩ”. ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ: ﻭﺍﻟﻰ أﻳﻦ ﺗﺮﻳﺪ ؟! ﻗﺎﻝ: إﻟﻰ ﺑﻴﺘﻪ”. ﻗﻠﺖ ﻟﻪ: ﻭأﻳﻦ ﺍﻟﺰﺍﺩ”؟ ﻗﺎﻝ: ﻋﻠﻴﻪ. ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ: إﻥ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﻻ‌ ﺗﻨﻘﻄﻊ إﻻ‌ ﺑﺎلمأﻛﻞ ﻭﺍﻟﻤﺸﺮﺏ” ﻓﻬﻞ ﻣﻌﻚ ﺷﻲﺀ؟. ﻗﺎﻝ: ﻧﻌﻢ ﺗﺰﻭﺩﺕ ﻋﻨﺪ ﺧﺮﻭﺟﻲ ﻣﻦ ﺑﻠﺪﻱ ﺑﺨﻤﺴﺔ أﺣﺮﻑ ﻓﻘﻠﺖ: ﻭﻣﺎ ﻫﻲ؟ ﻗﺎﻝ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ((ﻛﻬﻴﻌﺺ)). ﻗﻠﺖ: ﻭﻣﺎ ﻣﻌﻨﻰ “ﻛﻬﻴﻌﺺ”. ﻗﺎﻝ: أﻣﺎ ﻗﻮﻟﻪ: (ﻛﺎﻑ) ﻓﻬﻮ “ﺍﻟﻜﺎﻓﻲ”، ﻭأﻣﺎ (ﺍﻟﻬﺎﺀ) ﻓﻬﻮ “ﺍﻟﻬﺎﺩﻱ”، ﻭأﻣﺎ (ﺍﻟﻴﺎﺀ) ﻓﻬﻮ “ﺍﻟﻤﺆﻭﻱ”، ﻭأﻣﺎ (ﺍﻟﻌﻴﻦ) ﻓﻬﻮ “ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ”، ﻭأﻣﺎ (ﺍﻟﺼﺎﺩ) ﻓﻬﻮ “ﺍﻟﺼﺎﺩﻕ” ومن ﺻﺤﺐ: [كافياً ﻭﻫﺎﺩياً ﻭمؤﻭياً ﻭﻋﺎلماً ﻭﺻﺎﺩقاً] ﻓﻼ‌ ﻳﻀﻴﻊ ﻭﻻ‌ ﻳﺨﺸﻰ ﻭﻻ‌ ﻳﺤﺘﺎﺝ إﻟﻰ ﺍﻟﺰﺍﺩ ﻭﺍﻟﺮﺍﺣﻠﺔ”.
ﻗﺎﻝ ﻣﺎﻟﻚ: ﻟﻤﺎ ﺳﻤﻌﺖ ﻣﻨﻪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﻼ‌ﻡ ﻧﺰﻋﺖ ﻗﻤﻴﺼﻲ لأ‌ﻟﺒﺴﻪ ﻟﻪ فأﺑﻰ أﻥ يلبسه ﻭﻗﺎﻝ: ﻳﺎ ﺷﻴﺦ. ﺍﻟﻌﺮي ﺧﻴﺮ ﻣﻦ قميصك. فاﻟﺪﻧﻴﺎ ﺣﻼ‌ﻟﻬﺎ ﺣﺴﺎﺏ ﻭﺣﺮﺍﻣﻬﺎ ﻋﻘﺎﺏ” ﻭﻛﺎﻥ إﺫﺍ ﺟﻦّ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻳﺮﻓﻊ ﺭأﺳﻪ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ: وﻳﻘﻮﻝ :ﻳﺎ ﻣﻦ ﻻ‌ ﺗﻨﻔﻌﻪ ﺍﻟﻄﺎﻋﺎﺕ ﻭﻻ‌ ﺗﻀﺮﻩ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﻲ ﻫﺐْ ﻟﻲ ﻣﺎ ﻻ‌ ﻳﻨﻔﻌﻚ ﻭﺍﻏﻔﺮ ﻟﻲ ﻣﺎ ﻻ‌ ﻳﻀﺮﻙ”.
ﻓﻠﻤﺎ ﺃﺣﺮﻡ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻭﻟﺒﻮﺍ ﻗﻠﺖ ﻟﻪ: ﻟِﻢَ ﻻ‌ ﺗﻠﺒﻲ؟
ﻗﺎﻝ: ﻳﺎ ﺷﻴﺦ. أﺧﺎﻑ أﻥ أﻗﻮﻝ ﻟﺒﻴﻚ ﻓﻴﻘﻮﻝ لي: (ﻻ‌ ﻟﺒﻴﻚ ﻭﻻ‌ ﺳﻌﺪﻳﻚ، لن‌ أﺳﻤﻊ ﻛﻼ‌ﻣﻚ، ﻭلن‌ أﻧﻈﺮ إﻟﻴﻚ”) ﺛﻢ ﻣﻀﻰ ﻋﻨﻲ ﻭﻏﺎﺏ ﻋﻦ ﺑﺼﺮﻱ ﻓﻤﺎ ﺭﺃﻳﺘﻪ إﻻ‌ ﺑﻤﻨﻰ ﻭﻫﻮ ﻳﺒﻜﻲ ﻭﻳﻘﻮﻝ ﺷﻌﺮاً:

إﻥ ﺍﻟﺤﺒﻴﺐ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﺿﻴﻪ ﺳﻔﻚ ﺩﻣﻲ
ﺩﻣﻲ ﺣﻼ‌ﻝ ﻟﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻞ ﻭﺍﻟﺤﺮﻡ
ﻭﺍلله ﻟﻮ ﻋﻠﻤﺖ ﺭﻭﺣﻲ ﺑﻤﻦ ﻋﺸﻘﺖ
ﻗﺎﻣﺖ ﻋﻠﻰ ﺭأﺳﻬﺎ ﻓﻀﻼ‌ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﺪﻡ
ﻳﺎ ﻻ‌ﺋﻤﻲ ﻻ‌ ﺗﻠﻤﻨﻲ ﻓﻲ ﻫﻮﺍﻩ ﻓﻠﻮ
ﻋﺎﻳﻨﺖ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﻋﺎﻳﻨﺖ ﻟﻢ ﺗﻠﻢ
ﻳﻄﻮﻑ باﻟﺒﻴﺖ ﻗﻮﻡ ﺑﺠﺎﺭﺣﺔ
ولو بالله ﻃﺎﻓﻮﺍ ﻷ‌ﻏﻨﺎﻫﻢ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﺮﻡ
ﻟﻠﻨﺎﺱ ﺣﺞ ﻭﻟﻲ ﺣﺞ ﺇﻟﻰ ﺳﻜﻨﻲ
ﺗُﻬﺪى الأ‌ﺿﺎﺣﻲ ﻭأﻫﺪﻱ ﻣﻬﺠﺘﻲ ﻭﺩﻣﻲ

ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﺍﻟﻠﻬﻢ إﻥ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺫﺑﺤﻮﺍ ﻭﺗﻘﺮﺑﻮﺍ إﻟﻴﻚ ﺑﻀﺤﺎﻳﺎﻫﻢ ﻭﻫﺪﺍﻳﺎﻫﻢ ﻭأﻧﺎ ﻟﻴﺲ ﻟﻲ سوى نفسي أﺗﻘﺮﺏ بها إﻟﻴﻚ ﻓﺘﻘﺒﻠﻬﺎ ﻣﻨﻲ، ﺛﻢ رفع بصره إلى السماء وهو يبكي ثم ﺷﻬﻖ ﺷﻬﻘﺔ وخر ميتاً ﺭﺣﻤﻪ ﺍلله ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻓﺠﻬﺰﺗﻪ ﻭﻭاﺭﻳﺘﻪ التراب؟! وﺑﺖ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻠﻴﻠﺔ ﻣﺘﻔﻜﺮﺍً ﻓﻲ ﺃﻣﺮﻩ ﻓﺮﺃﻳﺘﻪ ﻓﻲ المنام ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ: ﻣﺎ ﻓﻌﻞ الله ﺑﻚ؟! ﻗﺎﻝ: ﻓﻌﻞ ﺑﻲ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﺑﺸﻬﺪﺍﺀ ﺑﺪﺭ ﻭﺯﺍﺩﻧﻲ”. ﻗﻠﺖ : ﻟِﻢَ ﺯﺍﺩﻙ؟! ﻗﺎﻝ: ﻷ‌ﻧﻬﻢ ﻗﺘﻠﻮﺍ ﺑﺴﻴﻮﻑ ﺍﻟﻜﻔﺎﺭ ﻭﺃﻧﺎ ﻗﺘﻠﺖ ﺑﻤﺤﺒﺔ ﺍﻟﺠﺒﺎﺭ!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى