الحكاية الكاملة ليوم الأرض
خالد جمعة | فلسطين
في الحقيقة إن يوم الأرض الذي أطلق عليه هذا الاسم بعد الأحداث التي وقعت في الثلاثين من آذار من العام 1976، لم يكن يوماً معلقاً في الفراغ، بل جاء نتيجة لمجموعة من الممارسات التي قامت بها سلطات الاحتلال على مدى شهور عديدة قبل اليوم الموعود، وهذا المقال هو محاولة لرواية الحكاية الكاملة ليوم الأرض.
في يوم 12/2/1976، صدر أمر من الشرطة الإسرائيلية يمنع دخول سكان الجليل إلى المنطقة المعروفة بالمنطقة التاسعة في الجليل، ومن الناحية الطبوغرافية، هي أرض في معظمها سهلية تستغل وتستعمل للزراعة وهي مشجّرة بقسمها الأكبر بالأشجار المثمرة كأشجار الزيتون والفواكه على اختلافها، في قسمها الآخر تزرع بجميع أنواع الحبوب والخضار.
أما مساحة الأرض الزراعية التي تقع ضمن المنطقة، والتي أغلقت وتهددها خطر المصادرة فتساوي حوالي 17 ألف دونم، وتحيط بها ثلاث قرى هي سخنين وعرابة ودير حنا، وتعود ملكية هذه الأرض ملكية مباشرة إلى أصحابها العرب المقيمين في هذه المنطقة وقد انتقلت إليهم بالوراثة إرثاً شرعياً وقانونياً وبموجب شهادات تسجيل “كواشين” طابو، صادرة عن وزارة العدلية/دائرة تسجيل الأراضي في إسرائيل نفسها.
وورد في الأمر العسكري الذي أصدرته الشرطة أن من يدخل هذه المنطقة سيعامل كمن يدخل ثكنة عسكرية دون إذن.
وقد ذهب ضحية ذلك منذ إعلانها كمنطقة عسكرية ما يقارب المائة شخص مثلما حدث مثلا في يوم الأحد 1975/6/1 حيث ذهب ضحية ذلك طفل يدعى المأمون ابن الإثني عشر عاما من جراء انفجار لغم، وتقول أمه: ذهب للنزهة مع أبناء عمه في عطلة نهاية الأسبوع، وعاد إلينا جثة…
دعا العرب إلى رفع احتجاج، تجسد في مؤتمر سخنين يوم 14/2/1976، فدعت السلطات الإسرائيلية ممثلي السكان وتفاوضت معهم وانتهى الأمر إلى حل وسط بتقسيم المنطقة إلى قسمين.
ولم ينقض أسبوعان حتى بدأت إسرائيل بمصادرة الأراضي في الجليل، عندئذ دعت لجنة الدفاع عن الأراضي العربية إلى اجتماع في الناصرة يوم 6/3/1976، صدر عن ذلك الاجتماع وبحضور مندوبين عن لجان الدفاع المحلية واللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي ورؤساء وأعضاء سلطات محلية متعددة القرار بإعلان يوم الثلاثين من آذار 1976 إضرابا عاما للعرب في إسرائيل، في مدنهم وقراهم عامة احتجاجا على سياسة الحكومة، بإعلان مصادرة أراض عربية في الجليل. وقد اعتبر إعلان الإضراب هذا احتجاجا قانونيا، لخطوة أقدمت عليها الحكومة بتجريد الفلاح العربي من أرضه بحيث يصبح وجوده كله تحت علامة استفهام كبيرة.
ولكن المسؤولين الإسرائيليين لم يقفوا مكتوفي الأيدي حيال هذه الخطوة فكانت الاجتماعات المتكررة، من قبل المسؤولين في وزارة الداخلية للسلطات المحلية ومن قبل مسؤولين آخرين في الوزارات الأخرى لثني المواطنين العرب في إسرائيل عن القيام بمثل هذه الخطوة، فكانت الاجتماعات الدورية لرؤساء السلطات المحلية مع حاكم اللواء في الشمال، وكان الاجتماع الذي عقد لرؤساء السلطات المحلية في شفاعمرو يوم 1976/3/25، ذلك الاجتماع الذي لم يعد كونه تمثيلية هزلية: لا أكثر ولا أقل. وبعده خرجت أجهزة الإعلام لتعلن أن السلطات المحلية ممثلة برؤسائها لا تريد الإضراب، وحاولت أن تبث أن الحزب الشيوعي هو الذي يريد أن يفرض على السلطات المحلية أمراً لا تريده هي. وكذلك على الجماهير العربية.
وفي يوم 1976/3/29، أي قبل الإضراب بيوم واحد. توجه مندوبو القرى الثلاث، سخنين، عرابة ودير حنا، إلى محطة الشرطة في سخنين “سيجف” وكذلك إلى محطة الشرطة في شفا عمرو. وقابلوا مدير الشرطة في منطقة الشمال، في عكا. وشرحوا له أن الإضراب سيشمل القرى الثلاث. تماثلاً مع الموقف العام للعرب في إسرائيل، وأنه من الحكمة أن لا تتواجد قوات الشرطة في ذلك اليوم في هذه القرى المذكورة. وذلك تحسبا من أي اصطدام يقع بين السكان ورجال الشرطة. وأن ذلك الأمر لا يرغب فيه أحد. وكذلك أن الإضراب سلمي، احتجاجي في حدود القانون وعلاوة على ذلك لا يوجد في القرى أي مؤسسة حكومية، يخشى من الاعتداء عليها من قبل المتظاهرين.
وطالبوا كذلك بإخلاء سبيل نائب رئيس المجلس المحلي في عرابة السيد فضل نعامنة، على اعتبار أنه يستطيع المساعدة في حفظ النظام والهدوء في يوم الإضراب. وأبدى المسؤولون موافقتهم المبدئية على المطلب. لكن وفي الوقت الذي كان فيه الوفد عند مدير الشرطة في منطقة الشمال، ويدعى فرانكو، (يوم 1976/3/29) وإذا بالأخبار تصل بأن قوات من الجيش تشتبك مع متظاهرين، في دير حنا. ودخل الجيش أيضاً إلى قرية عرابة، ونتيجة دخوله وإطلاقه النار فقد جرح تسعة أشخاص، أحدهم، الشهيد خير محمد ياسين، سقط نتيجة إصابته بعيار ناري، ونقل على أثر ذلك إلى المستشفى الحكومي في نهاريا. وقضى نحبه هناك في الليلة ذاتها.
دخلت سيارات الشرطة ووراءها المجنزرات تقطع السكون وتحدث ضجيجا هائلا في شوارع القرية، ومكبر الصوت ينادي “يا أهالي عرابة البطوف، انتبهوا انتبهوا، ممنوع التجول”. وكل من يفتح مدخل بيته، ليسمع ما يقال، كانوا ينهالون عليه بالشتائم والإهانات. وانهالوا بالضرب بالهروات على رئيس المجلس المحلي، واعتذروا بدعوى أنهم لم يعرفوه، وأركبوه سيارة الشرطة واخترقوا شوارع القرية يوجهون التنبيهات للسكان بأمر منع التجول. بعد ذلك توجهوا إلى بناية المجلس المحلي، وسلموا أمر منع التجول لرئيس المجلس.
في التاسعة من صباح 1976/3/30 تناهى إلى مسمع السكان مقتل الشاب خير ياسين، فخرج السكان إلى الشوارع، واختلط الحابل بالنابل، وفقدت قوات الأمن سيطرتها على فرض منع التجول.
شمل الإضراب فلسطينيي 1948 والضفة الغربية وقطاع غزة الذين هبوا لمساندة إخوانهم عرب الجليل. عمت المظاهرات أنحاء الضفة والقطاع وألقيت قنبلة على دورية في نابلس. أما في منطقة الجليل فقد هاجمت القوات الإسرائيلية منزل رئيس بلدية الناصرة توفيق زياد، وأصابت أفراد أسرته بجروح، وهاجم المتظاهرون الجنود في كل مكان فقتل 3 جنود إسرائيليون وجرح 12، واستشهد 3 مواطنين فلسطينيين وجرح 27 آخرون، هذا في الناصرة.
أما في شفا عمرو فقد قتل جنديان إسرائيليان وأصيب تسعة آخرون فيما استشهد 4 مواطنين فلسطينيين وجرح 18، واستشهد 4 فلسطينيين في سخنين بينهم سيدة وجرح 17 مواطناً وقتل 4 جنود إسرائيليون.
عمت الاشتباكات بقية مدن الجليل، وقتل جنديان في قانا الجليل الأعلى، وجرح 5 في حين استشهد من الفلسطينيين 3 وجرح 12.
هذه الأرقام للشهداء تشمل جميع الشهداء الذين سقطوا نتيجة المواجهات التي امتدت لأيام بعد الحدث الرئيس، أما أسماء الشهداء الذين سقطوا في يوم الأرض نفسه، المقصود الثلاثين من آذار 1976 فهم ستة شهداء: 1ـ خير محمّد ياسين من عرابة 2ـ رجا حسين أبو ريا من سخنين 3ـ خضر عبد خلايلة من سخنين 4ـ خديجة شواهنة من سخنين 5ـ محمّد يوسف طه من دير حنا 6ـ رأفت الزهيري (رأفت حسن سعيد حسن) من مخيم نور شمس.
ولقد أقامت إسرائيل لجنة تحقيق من الجيش والشرطة، توصلت إلى نتيجة غريبة مفادها أن لا حاجة لوجود لجان تحقيق!
وقد أقيم في بلدة سخنين نصب تذكاري لشهداء يوم الأرض تزوره الجماهير كل عام في ذكرى يوم الأرض.
حتى اليوم يحتفل الفلسطينيون والعرب في يوم 30/3 من كل عام بما أصبح يعرف “بيوم الأرض”.
وقد شكل يوم الأرض تحولاً حاداً في المسيرة السياسية للفلسطينيين داخل إسرائيل، إذ وجدوا أنفسهم مضطرين للانتقال من خانة الصمت والعزلة والخوف والتخندق إلى خانة المواجهة والتصدي والسطوع الوطني، وجدت الجماهير نفسها مضطرة لمقاومة الدبابة بالحجارة.
فلم تعد هذه الجماهير أقلية معزولة منسية مهملة؛ بل صارت برنامجا ومسيرة وتاريخا وحاضرا ومستقبلا. صارت رقما صعبا في معادلة الصراع القائم وعنصرا هاما في موازين الحلول.
كما كان ليوم الأرض الأثر الأكبر على بلورة الهوية السياسية الوطنية للفلسطينيين داخل الخط الأخضر، فبعد أن كان الفلسطيني رهينة الخوف والعزلة والتردد، تحول إلى نموذج في المواجهة، ودخلت إلى قاموسه عبارات ومصطلحات وشعارات غيّبتها عقدة الخوف والتردد.
كما ساهم يوم الأرض في تعريف العالم برفع القضية الفلسطينية إلى المستوى العالمي من خلال هجمة إسرائيل الشرسة وقتلها ستة شهداء لم يرتكبوا ذنبا سوى أنهم خرجوا إلى الشوارع في تظاهرات منددة بمصادرة الأراضي، فلم يكن العالم العربي يعلم بوجوهم قبل هذا اليوم، كما ساهم في إثارة النزعة الوطنية منسجمة مع الهم العربي.
وتجلت الوحدة الوطنية بأروع صورها في الثلاثين من آذار عام 76 وخرجت الجماهير إلى الشوارع دونما تخطيط، لقد قادت الجماهير نفسها إلى الصدام مع المؤسسة الرسمية احتجاجا على مصادرة الأراضي، حيث بلغ وعي الخطر الداهم على الأرض أوجه في يوم الأرض، وقد اقتربت الجماهير العربية في الثلاثين من آذار إلى إطار العصيان المدني الجماعي، فتصرفت لأول مرة كشعب منظم، استوعب فيه أبعاد قضيته الأساسية، وهي قضية الأرض والوجود.