رسائل إلى السيدة «ع» (7)

بسام الشاعر | مصر – الجيزة

في قلبي كما في المحيط تستقرُّ آلاف الذكريات الغارقة.. رأيتُ مذ يومين طفلة أقصَتها الحرب عن بلدها، ووجدتُها تزيَّتْ بحُسْنٍ من حسنك؛ فإذا بي أخرجُ من الزمن الذي أنا فيه إلى زمن آخر فيه أنتِ؛ وأطبق عليَّ الأسى؛ إذ كيف للحرب أن تُقصيَ صاحب الأرض عن أرضه، وتفرِّق بين الروح وساكن الروح! إلا إن نفسها كانت لا تزال تشي بالأمل واليقين الساكن داخلها، ثم كان أن تذكرتُكِ يا «ع»، تذكرتك يوم كنتُ أرى سعادة الدنيا ملْء عينيكِ، تضحكين فأجد البهجة تمدُّ ظلالها على الوجود حولك، أتذكَّر ذاك التزمت الذي كنتِ تقيمينه بينكِ وبين الناس متى ما انفردتِ عن صديقاتكِ وقد أخفيتِ البسمة عن رقيق شفتيكِ، تزوين ما بين عينيك، وتقطبين ذاك الوجه الذي ما خلق لغير النور يعرفه الناس نورًا وأعرفه أنا منكِ بديع الحسن في صورة النور، تتكلَّفين الجدَّ والعبوس فتبدين في هيئة من الغطرسة المتكلَّفة؛ كل هذا لتدفعي الأنظار عنكِ؛ فتبدين في صورة من الحسن أخرى فوق الحسن الذي أنتِ عليه! يقبلُ عليك فيها مَا تودين دفعه عنك مِن دون ما قصدٍ منكِ أو نيَّة.. ولكنكِ في كلِّ حالاتكِ مدانة يا صغيرتي؛ مدانة أنتِ بتهمة الجمال! وهذه تهمة برِئ منها الجميع إلاكِ. جميلة أنت في كل أوقاتك يا «ع»! كسنديانة عظيمة تلامس زرقة السماء بفرْعها، ممتدَّة في الأفق تريد النفوذ للسماوات العلى، يفيض بهاؤها على الأنظار بهجة! قد اتخذ عصفوران منها سكنًا؛ فهُما يشدوان لها طوال الوقت فرحين باخضرارها، بظلِّها، بنسمات الهواء التي تلاطف أوراقها، بماء الحياة يجري في أصولها، برونقها، بغضارتها وروائها… هي لهم مسألة الطبيعية التي يحار في أسرارها ناظرها، وإنكِ لا تجدين حلها متّصلا بشيء كما اتصل بقلبيهما، هذه السنديانة هي وطنهم في الطبيعة فهم يغنُّون لها، وأنتِ في الناس وطني يا «ع» فأنا أكتبُ إليكِ! أتذكر.. ضحككِ وفرحك، مشيتك وسعيك، نظرتك.. التفاتتك! هذا كله لا ينفكُّ عن نفسي يا «ع»! طاحونة الذكريات تلك ملأى بالكثير وهي لا تكفُّ عن الدوران!

تعلمين يا «ع»! لحروف اسمك وقع في القلب عجيب! فهل تُجيدُ صغيرتي الحلوة كتم الأسرار الصغيرة؟! كنتُ إذا ما أصابتني وحشة، وتاقت النفس للحسن تطلبه؛ ردَّدْتُ حروف اسمك في نفسي وتأملتُها، وأنعَمتُ النظر في وقعها ونغمها وهي ترتفع بي وتهبط مع صوائتها، وتسكن بي وتهدأ مع صوامتها؛ فأجد فيها جمالًا من اللغة يعرفه أهل اللغة! وعذوبة من البيان يتذوَّقه أهل البيان! هزة تسري في الروح سريان فرح فاض عن القلب؛ فما تغيب عن فكر أهل البلاغة!

ذهبت أنظر حرف الـ «ع» في المعجم؛ فكان هذا القول، فتأمليه ولتضحك بعدها حضرة الأستاذة «ع» ما شاء لها أن تضحك؛ يا رقَّة صيغت في صورة البشر! يا أنشودة للجمال بديعة الصور، يا جنة خلقت معقودة الثمر، يا ضوء نجم ساطع، يا بسم ثغر ضاحك، يا غصن ورد مائس، يا ربَّة الحسن وجارة القمر. يقول: «الْعَيْنُ وَالْقَافُ لَا تَدْخُلَانِ عَلَى بِنَاءٍ إِلا حَسَّنتاه؛ لأَنهما أَطْلَقُ الحُروف؛ أَما الْعَيْنُ فأَنْصَعُ الْحُرُوفِ جَرْسًا وأَلذُّها سَماعًا». فانظري لصيغ التفضيل أطلق وأنصع وألذ، ثم ردِّدِي حرف العين في نفسك وانظري لرقته وبديع نغمته، ارقبي صورته ورسمه! صدق الخليل عندما جعل العين فاتحة مؤلَّفه، وإني على يقين من براعة ذاك العبقري وتتبعه طُرُق المعرفة التي تثبت بأمور منها تحسينها وإظهار أثرها العذب في النفس. فذائقة الخليل بعد مراسه الطويل للشعر وللغة العرب باتت تعرف الجمال وتبحث عنه في كل شيء؛ حتى في الحرف وما له من نغم في الأذن، والكلمة وما تحمله من جرس في النفس، والجملة وما تطبعه من أثر في الفؤاد! فمصدر العين -كما ذكر- أقصى الحلق؛ كأن هذا الحرف متصل بالقلب؛ موضع الذائقة ومهبط العلم؛ ومناط كلِّ فهم! وكأن الفراهيدي يريد أن يقول: قبل كل شيء عليك معرفة أن ما يأتي من علم إنما يسلس قياده -فقط- لمن وصل قلبه بأسباب المعرفة وفرَّغه إليها. ثم إن الخليل كأنه يعمد إلى تزيين المعرفة وتبيين زخرفها قبل كل شيء حتى تصادف هوى في الفؤاد فيَعْلقُها ويعقِلُها كلُّ من يمَّم وجهه شطرها، ولذلك بدأ بالعين أنصع الحروف وألذِّها سماعًا! ولا أدري كيف وصل للخليل بن أحمد خبر الأستاذة «ع» حتى يتسنى له أن يفطن لكل ذلك ويقيمه في أول كتابه! ولكن لمَ العجب! فإنكِ يا «ع» لا تعدمين حيلة! وإني أمازحك الآن فلا تغضبي!!

مسرفٌ أنا في الحديث إليكِ؛ أعلم ذلك.. ولكن كلٌّ يجد نفسه في موطنه كما قال شاعر الحمراء؛ بياسبيا( ): «إذا تهتُ في فجاج الدنيا؛ فابحث عني في الأندلس»، وأنت لي ذلك الوطن المفقود!

سلام على صغيرتي الحلوة، والله يحفظكِ ويرعاكِ!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى