التواصل بمفاهيم حميمية
محمد الدرقاوي
يدخل المعرض و له يقين أنه لن يجد لن يجد أحدا، أو قد يجد بعض المتحررين مثله والذين لا يحفلون بدعوات المقاطعة السياسية، التي تصب كمزاجية متقلبة بين دعوة وأخرى حسب التعليمات الفوقية، ارتكازا على أسباب واهية قد تحرف الدين،وتعلي المذهب، وتنحاز للانتماء، وحيث انه لايهتم بجنسية العارض او ديانته، فلم يحرضه على الحضور سوى ايمانه بأن الفن هو امتداد لشخصيته، كما هو تواصل بمفاهيم حميمية هي بعض مما يؤمن به ،كما لم يشجعه على الحضور غير دعوة ملحاح من احدى صديقاته ،وهي طبيبة أسنان تعشق الفن وتستلذ الأدب، تعده من قرائها الاوفياء والتي برمجت يوم العرض لتوقيع مجموعتها القصصية الأولى: “ملائكة بلا عمائم “
لم يكن أحد داخل المعرض غير نادية صديقته الكاتبة التي وجدها مشدودة إلى لوحة انشداد طفل بحلوى يتلهف عليها، مستمتعا بطعمها ..فاجأها وهو يضع يده على كتفها ..تشرئب بعنقها، فتباغثه صرة دمع متحجرة في عينيها، شفاهها وهي تطبع قبلة على وجهه ،تخلف أثر اهتزاز، ويدها على كتفه توقع ذبذبات .. يتمعن في اللوحة، وفيها يغوص بإثارة، وهي تمسكه بانفعال يحرك مشاعره الداخلية ، فبناؤها الفني يكشف عن عبقرية الرسام وثقافته العالية، فمن خلال كثافة دخانية استطاع توليف صورة شاب وسيم متداخلة مع صورة أنثى ،كأنها ظلال متماوجة لصديقته نادية الواقفة بجانبه..
يحدق في وجهها وكأنه يراها لأول مرة؛ تدرك ما يعتمل في صدره، فتحاول أن تحد كل ظن أو احتمال قد يتلاعب بخيالاته، تتأبط ذراعه وتجره بكلمات دعوة لمقهى تابع لقاعة المعرض.. تريد أن تبعده عن تأويلات تنثرها عيناه جاهدة في التسلل الى أعماقها ، حتى يعرف سر الصورة ، فينكتم هدير تساؤلات تحس مطارقها في راسه..
حين يحاول أن يفتح فاه ليسال ،تتعمد النظر الى ما فوق كتفه او الى جهة أخرى ..
حيرة تعصره ،تطغى على سكونية المكان : هل تريد نادية أن تبعده عن حياتها وكأنها تقول : ما بيننا صداقة ومابعدها فليس من شأنك !! ..
تخرج حبة علكة وتشرع في مضغها بقلق يعري توترها المتزايد ،ثم تزفر عطرها القرنفلي بنفس طويل وكأنها تطرد اعتمالات تؤرق وجودها ..
يسألها وهو يشرب قهوته متعمدا ان يبعد فضوله عنها :
ألم يحضر عزرا صاحب اللوحات ، يبدو ان المقاطعة قد اثرت عليه ؟
يفتح لها السؤال منفذا فتبادر الى أن تتنفس منه برأي . ترد وهي تغير علكتها بأخرى ذات أنسام نعناعية :
عزرا !..كانت غايته تجسيد حياته، حقيقة حياته ،ومعاناة الغربة في لوحاته،احساسه بالفقد لم يندمل له جرح في أعماقه ، أما العرض فقد كان يدرك انه ليس صاحب مظلة هنا ممن” يتبعون جيلالة بالنافخ” ، مداحين ومتملقين ، أوصامتين عن مزوري الدين ،وناهبي خيرات الوطن ، خصوصا وقد أعلن أخيرا انه يوسف المحسود فصار كافرا بإخوة ،يضمرون غير ما يعلنون ..
تتنهد ثم تتابع متلذذة ببرودة نعناع علكتها :حتى عرضه يقدمه بغير هويته الحقيقية .. سنوات مرت ولإزال يخشى اخوته ..
يستغرب من أقوالها وفي نفسه يتحرك سؤال :وهل له هوية غير هويته اليهودية الكندية ؟
يدرك من حديثها انها تعرف رسّام اللوحات عزرا جيد المعرفة، متشربة بأفكاره، وتحليلها لحياته هو اطلاع واسع بحركته وفكره ،وكمن يريد ان يحدد علاقته به يقول :
ــ شخصيا لا اعرفه كرسام لكن قرأت له روايتين : “الأصنام تستعيد الروح ” ،”والعرب قتلوا ربهم” … أعجبت بأسلوبه وطريقة تبليغ المعلومة الى القارئ المثقف، وكيف يمرر مفاهيم محكومة بمنطق العقل والواقع بمرجعية تاريخية بلا تدليس او نفخ ..
يصمت لحظة ، ثم يردف بعد بسمة استحسان ترسمها صديقته على محياها :
ــ صوره المنشورة يتعمد أن تكون جانبية او مظللة،لهذا قليلون من يعرفون وجهه الحقيقي .. حتى حياته يلفها بكتمان شديد بعيدا عن الصحافة واهلها ،يتابع أثر كلامه على محياها فيضيف :
هل حقا هو يهودي؟ كتابته متينة بلغة الضاد ولا أظن غير العربي المتشبع بالقرآن وبحضارة العرب يستطيع أن يكتب بعمقه ومتانة أسلوبه وصفاء فكره رغم انه متهم بالتحامل على العرب!! .. لاغرابة ،اعتمالات الأديان في النفوس ..
تتبسم نادية بسمة عميقة وترد :
هنا تخطئك نباهتك ويخونك الذكاء يا صديقي ، هو عربي مسلم بالعقل والصدر،والوجدان ، مغربي حتى النخاع ، لكنه عاش فترة مع أسرة يهودية وحمل اسمها ،خصوصا وصباه قضاه مع عمران المالح الأديب اليهودي …
يستغرب لقولها، مرة أخرى تعلن تشبعها به ،وخبرة مكينة بحياته، مطلعة عليها اطلاع القريب الداني … نسمة عطر رجولي تخترق خياشمة وتغطي على أنسام علكتها ، وهو يهم بالرد عليها ، يظهر أثر من ظل خلفه يشد عيون صديقته بعناق هو مزيج من فرحة واكبار.. تهب من مكانها هبة من كانت تترقب فرجا بعد ضيق ،تسبقها أحضانها الى الوافد الذي يقبل يديها بعد عناق تتلاقى فيه الشفاه بالقبل .. يلتفت الوافد اليه ، يحييه بسلام ونظرة لا تخفي اعجابا ثم يجر كرسيا يلصقه بكرسي نادية ، فتميل عليه برأسها وكأنها تستمد منه قوة الحضور والاعتزاز ..
الوافد رجل خمسيني انيق الهندام ، قمحي اللون، بلحية مشذبة يغزوها البياض، وشعر غزير رمادي، يكاد يرتاح على كتفيه، نظارته الغامقة تخفي الكثير من ملامحه، ورغم ذلك فهو يتبدى صورة مرحلها الزمن بملامح الشاب الذي رَآه في اللوحة وكانهما من نفس الظل ، بنفس التقاطيع التي لا يمكن ان تغيب عن فنان متذوق للرسم . ينظر الى الوافد حينا ،وحينا يترقب ان تقدمه نادية اليه مستغربا هذا التباطؤ أوالاهمال من قبلها،والذي لم يكن أبدا من عادتها ،فهل تتعمد أن تتركه في حيرة،أم وراء تباطئها سر لا تريد أن ينكشف ؟؟.
قصة تتخفى وراء اللوحة، هذا الوافد سرها ، وخيط رفيع هو الحبل السري اللاحم بين الاحتواء وبين موجات الترددات التي تنبعث من صديقته نفسها، ترى من يكون هذا الرجل الذي استحق كل تلك الحفاوة والعناق من صديقته ؟
ينتبه الى نادية وهي تتابع انفعالاته ،ولكنها تتعمد ان تتركه في مخاض من قلق ، في صراعه الذي يتخيل منه حكايا ويولد مواقف ..
الوافد نفسه يتابع حركة نادية التي لم تغادرها عيناه وكأنه بها متيم بعشق ، يرفع البصرالى صديقها وهو يغلي من داخله على وشك الانفجار، ثم يجده يزفر بقوة قائلا :
كنت اترقب ان تقدمك نادية الي، او ان تعرفك بي، لكن ما لفها من صمت قد قمطني في حيرة هو ما تفجر سؤالا على لساني رغم ان ملامحك ليست غريبة عني!!..
يبتسم الوافد بسمة من يعي من حوله :
ـ أعي معاناتك ،ونادية السبب ، فهي من كانت تمنعني عن الكلام بوضع يدها على فمها ، لن أتركك تتعذب اكثر ،انا ناصر أستاذ أحمد ، زوج نادية ،أعرفك من نشاطك في الوسائط الثقافية الكندية، قد تستغرب لكن هي ذي الحقيقة.. من خمسة عشر سنة أهدروا دمي بعد أن كفروني وأخرجوني من ديني لأَنِّي قدمت رأيا يخالف تأويلاتهم للرسالة المحمدية ،ورأيا آخر عن المرأة ومفهوم الحجاب، هاجمتني احدى المنظمات السلفية من تكفر كل من عداها ،وتقايض على كل شيء حتى الوحدة الوطنية لوطنها ..
استطعت الفرار الى فرنسا خوفا من القتل قد ينفذه إرهابي مجنون ،ساعدتني عائلة أديب يهودية كانت مقيمة في الصويرة ثم انتقلت الى كندا، فاليد الطولى لمن كفروني قادرة على الوصول الي قلب فرنسا ، و فضلت نادية أن تبقى هنا ارتباطا بعيادتها واهتماما بأبيها الذي كان بين الموت والحياة وحتى لا تثير الانتباه لهروبي ..
تتابع نادية حديثهما وهي تبتسم تارة وتتنهد اخرى ، أنثى جديدة تحل فيها عما كانته قبل حضور زوجها ، تتلبسها بإنتشاء لم يعهده فيها .. إحساساتها تغلي افتخارا بالرجل وغبطة تطغى على كل ما حولها ..يقول أحمد وهو لا يصدق ما يسمع ويرى :
من خمسة عشر سنة لم تكن مثل هذه الأحداث تحرك فضولي كنت عندها تلميذا بالإعدادي لكن على ما أظن فقد تم توقيف مهازل تلك السنوات بعد الدستور الجديد
يرد ناصر بهدوء نفسي:
أوقفوه محاولة لتهدئة الأوضاع وعقد صلح بينهم وبين من درسوا خارج الوطن وفضلوا البقاء في بلاد المهجر، أحد أبنائنا ـ يرحمه الله ـ كان من بينهم ..صاروا قوة علمية ومالية ، وأصحاب مشاريع فكرية واختراعات أثارت الانتباه ، مقربين من سلطة القرارفي صندوق النقد الدولي والمنظمات المالية، بنوا عليها مدارج المستقبل ومحاولة التوسع في افريقيا …
تتدخل نادية :هل تعلم من هو بطل اللوحة في المعرض أستاذ أحمد ؟ ..تقولها وغصة حزن تعتليها ..
يحرك راْسه بالنفي فتتابع : هو ابننا عدنان ،قتلوه عند زيارة لفرنسا ، وهو من كان يتحدث عنه زوجي ..
تنفجر صرة غيم من عيونها ،يحرك ناصر الكرسي الى جوارها ،يشدها اليه :
ـ ضريبة النضال والفكر نادية حبيبتي ، يطرح الله البركة في ميمون الصغير فهو لا يقل طموحا وقدرة وذكاء عن عدنان ..
يطبع قبلة على خدها فتلتصق به كأنها كانت تترقبها ..
يتطلع أحمد الى ساعته وكأنه يستعجل الذهاب، فقد أذهلته احداث ما سمع ..
وطن يرزح في الرجعية والانحطاط العلمي والخصاص في الكفاءات والأطر؟
وأبناؤه ما أنصفهم تعليمه فهاجروا باقل المعدلات ،وبها صنعوا عبقريتهم عند غيرهم ..فأين الداء ؟
يزفر زفرة يحس حرقتها في صدره : متى توقعين كتابك ؟
ترد :
أمامنا يوم آخر.. عزرا سيسافر الليلة ويلزم الا اترك حبيبي بلا سهرة ،وغدا اذا احببت نلتقي في نفس موعد اليوم..
يقوم مودعا، يشد عزرا على يده ويقول : أستاذ أحمد لا اريد ان يعرف احد بوجودي هنا، ولا علم لك بناصر زوج صديقتك نادية ،فقد الحق بعدنان ابني قبل ان أغادر !..يتبسم ثم يتابع : لاثقة في أصحاب اللحى ولو طال بهم زمن ..
يضم أحمد يديه على يد عزرا ويقول :
انت فخر لكل وطن ،لكن من تعود الحفرحتما يخشى انوار النهار ،اطمئن يكفي اني ادركت سر نبوغ صديقتي ،فأنت في مأمن وبيتي لك وجاء متى اردت ..
في سيارته وقبل ان تدور لها عجلة
كان يردد مع نفسه :
اي رسالة سماوية تسمح بان تقضم عقول غبية حقيقة الدين ويسره فتغير مساره وجوهره الأصلي ؟
يا لآيامنا السود حين تنقشع غشاوة عن العيون !!.