صرخة روح
حسان علي | سورية
مازلت أذكر أن الدمع ملح الجرح، يكوي همسات الروح بنار الاحتراق والاشتعال.
في تلك اللحظة من التذكر وأنا أمعن النظر في صورتها تأتيني ذكراها من المدن البعيدة، ألمحها، أندمل في ثناياها، تكبر الصرخة في أعماقي اللاهبة، أشدّ الرحال نحوها وأهيم إلى مدن لا حدود لها، مدن ترفض دخول غمائم الفرح إلى حدودها، تصادرها وتحيلها الى حمائم حزن تهدل بالأشواق والأغاني الحزينة، أغيب في شوارعها التي طرقت بأصابعي الخشنة أبوابها الموصدة غير مرة وبحثت في مدن أخرى لعلّها تغريني بالانغماس في بحر هديرها البشري، أصارع زحمته وأقف بمواجهة عواصفه الهائجة بوابل من الحسرة والمرارة، وأقفل ككل مرة أجرّ أذيال الخيبة الذاوية.. وعلى غفلة من أفكاري يناديني صوتك:
أيها التائه بجسده النحيل على ضفاف الأنهار، أما تعلمت كيف تنثر أحزانك على الوجوه المعفّرة بالحزن والكآبة والآه، تكفكف كعادتك دموع أطفال المخيم الذين كبروا قبل أوانهم بمنديل قلبك، تمسّد بيديك الراجفة على رؤوسهم المشتعلة بالشيب، تذوب في أوردتهم كظلّ ذاوٍ، تشدّ من أزرهم، ويشدّون على خاصرتك بزنار من وجع وجرح مغمّس بملح وبهارات بطعم الدفلى والحنظل، تصرخ بملء روحها المتوسلة:
أيها المعمّد بالحزن والكآبة، أما آن لك أن ترحل عبر مواويل الفرح الآتي من ضفاف الأنهار التي اغتسلت من دمعك وغفت في ثنايا ضفائر شمسك الدافئة،
إلاَم تبقى حرفاً في مكنون العبارة، في أبجدية الحزن، أما زالت أبجدية الحزن تحمل اسمك وتحتّل قلوب الذين يشرعونها لشمسك ويحنّون أياديهم من ألوان فرشاتك الزاهية، ويتسلقون أصابعك الخشنة ويندملون في شقوقها بإيقاع حفيف رموشك وحركات أهدابك المهدّلة مثل عجوز هرم يجرجر عكازه من شارع في نهاية المخيم، من صوب بيتك المخربش بخربشات الأطفال حبن كتبت بالطبشور على جدرانه المتهالكة “أحبك يا وطني”، ورحلت؟!
كنت هناك في المدن البعيدة، الغريبة، وحيداً على أرصفة طرقاتها يتبخّر دمعك غيمّاً تستظلّ وجوه الغرباء بأفيائه، كم غفت هذه المقاعد الخشبية على جسدك، كنت مشحوناً بالخوف والقلق، مسكوناً برغبة الرحيل والوداع ومن خوفك قلت للجميع وداعاً ،ولوّحت لهم بمنديلك المخضّب بالدمع على أمل لقياهم الذي بدّده الحنين.
..يتوقف صوتها، فجأة، أناديها، أستدعيها في ذاكرتي ، إذ تسكنني رعشتها، تلتحف جسدي وأطلب منكم يا من هناك أنتم في المخيم أن اقبلوها مثلكم ودعوها تمارس حزنها الخمري في بيتها المبني من غيم وفضاء وحياة، وزوروها في بيتها الذي تصدّح فيه ترنيمة العشق للوطن وللعصافير الخجلى التي تحطّ على حبّات القمح المتبقية من مواسم الحصاد القديمة، دعوها هناك، هنا في بيتها تغفو إغفاءتها المسائية على الأكتاف الصلبة، الشامخة كقمم الجبال الشمّاء وتستمع إلى عويل الأمهات الثكالى وجوع المحرومين، هي ذي أراها تمدّ يديها على أمل أن أمد ّلها بدي، هي ذي تلوّح بمنديلها وأمدّ لها ذراعي سارية تعلّق عليها راية العودة لأيام طفولتها المسلوبة، هي ذي تنسفح دموعها، فأفتح لها قلبي خزاناً لا ينضب ومدينة لا توصد أبوابها إلاّّ في وجه الريح الغريبة، ووجه العاصفة العاتية..
..وفيما تداهمني الذكريات صدى صمت تلاه صراخ يحثّني أن أنهض وأفق من صحوتك وامض نحو هدفك.. هالني ما رأيت، إذ وجدت صورتي تحدّثني، استدرت حولي كمن يبحث عن ضالة فقدها.. أحاول أن أقنع نفسي ألا أحد سواي في الغرفة ،غير أن الشكوك والظنون ساورتني مرة أخرى حين أتاني صوتها يحثّني أن انهض وأن لاتدعَ الأوهام والتردد آن تسطو عليك.
ومن جديد تتقاذفني الحيرة قبل أن أدرك تماماً ان من كان يحادثني إنمّا هي نفسي، صورتي الماثلة أمامي في المرآة.