قراءة في رواية “جسر عبدون” للكاتب قاسم توفيق
صباح بشير
يطلّ علينا الروائي الأردني قاسم توفيق في روايته “جسر عبدون” الصادرة عن دار الآن ناشرون وموزعون للعام (2021)، وتقع في ثلاث مئة واثنين وخمسين صفحة من الحجم المتوسط، وهي تقدّم للقارئ عوالم متعددة، وتكشف له حقيقة الواقع من حوله، تعلُّق الإنسان بالحياة وصراعه مع ما يحيط به من خير وشر، صلاح وفساد.
سبق لي أن قرأت للكاتب رواية “نشيد الرجل الطيب”، التي خرجت عن المألوف والمعروف في الشكل الكلاسيكي للرواية العربية، وخاضت جوانب عديدة في الحياة، من حيث الرؤية، الطرح والموضوع.
أما رواية “جسر عبدون” التي حضرت بلغة سردية سلسة شيّقة، متشابكة بمضمونها وتفاصيلها، فقد انسجمت مع الوصف والحوار بتدفق بالغ، تعددت فيها الأصوات ومستويات التعبير اللغويّ، ولامست الواقع بانفتاح وتنوع.
العنوان “جسر عبدون”، هو العتبة الأساسية التي ترهص بالمضمون وتحفّز القارئ لاستشراف عوالمه الدلالية، فمن المكان، كانت نقطة انطلاق الروائيّ والرواية، ليكون أرضية الفعل في تطور الحدث وبنائه، والعنصر الأهمّ الذي ربط أقسام العمل ببعضها البعض فتفاعل معها شخوص الرواية، لتكون المكون الإضافيّ الذي اجتمعت فيه النقائض، وتداخلت فيه الأصوات والمصائر.
حمّل الكاتب المكان دلالات متنوعة وعلاقات مختلفة، متخذا منه إطارا إبداعيا، جاعلا منه نقطة النفاذ إلى أعماق الشخصيات واستبطان مجراها النفسيّ، وتحت العنوان جاءت عبارة “أكثر من رواية” بخط صغير، إذ يبدو أن الكاتب تقصدّ الإشارة إلى طبيعة العمل، الذي يغوص في النّفس البشريّة، معادنها وتقلّباتها، من ثمّ عرج على إهداء روايته إلى والديه، فكتب من شغاف القلب:
“إلى أول الأبرياء الذين عرفتهم على الأرض، أمي وأبي”.
تناقش الرواية العبث والوجودية، والتحولات العصرية التي نعيشها في الأماكن التي تدور فيها الأحداث، البحث عن الذات المسلوبة، التشظي والانعزال والاغتراب، كذلك وتخوض في التابوهات والممنوعات، المتمثلة بالدين السياسة والجنس. وبما أن الكاتب هو ابن مجتمعه، فهو القادر إذن على اختراق المسكوت عنه وما يجري حوله في واقعه،يغذّيه بخياله ليحرّك ما يمكن تحريكه، ويصور ما يمكن تصويره، فمن عمّان إلى بيروت والقاهرة، الخليج وإيطاليا والولايات المتّحدة، هكذا حتى تصل الفكرة إلى القارئ المتلقي، فتعكس التعقيد الذي نعيشه في كل مكان.
وكأنّ الكاتب يقول: ما فتئت الذات العربية تعجّ بتناقضاتها، وتراوح مكانها بين أزمة الوعيّ إلى الوعي بالأزمة.
وظّف الكاتب أساليب متنوعة في بناء حبكته الروائية، فجعل منها رواية حداثيّة غير تقليديّة، مركبة جريئة، متعددة الشخصيات والعناوين، معتمدا طريقة “الفلاش باك” والاسترجاعالفنّيّ لتقديم الأحداث.
حضر الجزء الأول بعنوان “أوطان صغيرة”، أما الثاني فكان بعنوان “أوطان مهشمة”، ولعلّ الكاتب اختار هذه العناوين، للدلالة على المكان والتشتت والمعاناة، فالجرح ما انفك ينزف والأحداث تتوالى، والألم يغور أكثر وتتراكم الأزمات التي تقيّد الشخوص وتضيّق العيش عليها، وفي غمرة ذلك كلّه، نشعر بالأحداث كائنا نابضا، تنمو وتتطور عبر الوقائع وتأثيرها عليها.
لم تكن وظيفةالشخوص بنائيةفقط أو دلالية، فكلُّها قد لعبت دورها في تسلسل الرواية وتماسك الحبكة، كان بطل الرواية عادل سليمان يعيش أزمة التسلط الذي يفرضه عليه والده، بحث عن نفسه وعن حياة جديدة لا وجود فيها لسلطة الأب والعائلة، أما نوح آدم العكاوي صاحب المطبعة، فقد ولد في عمان وعاش فيها، لكن الوطن بقي حيّا في خياله، يداعب وجدانه.
رائف الساقي هو أحدشخوص الرواية أيضا، وهو الأصغر بين أخوته وشقيقاته، تغلغل الاكتئاب إلى نفسه، بحث عن السلام الداخليّ ولم يجده، وحين اعتقد أن كتابة الرواية ستعينه على تجاوز المشكلة وتخطيها، اكتشف بأنه قد ضاق ذرعا بالاكتئاب، وبعد أن عطّل اليأس عقله وقلبه، وقف على جسر عبدون، ونثر أوراقه في الهواء، وكأنه ينثر أحمالا أثقلته لسنوات.
وعن حضورِ المرأة في الرواية، فقد كانت العناصر الأنثوية نماذج بنّاءة، أكثرُ إشراقا أملا وفرحا، فسلافة مثلا، هي امرأة بجمال متواضع، تعاني المشاكل الأسرية، وتدير دار النشر الخاصة بنوح العكاوي، تحاصرها الصعوبات من كل جانب، تقاوم وتعلن انتصارا على الحياة بفضل اجتهادها ومثابرتها، أما سارة فوقفت إلى جانب حبيبها رائف، ولم تتركه رغم اضطرابه النفسيّ.
وهكذا تسير الرواية نحو طرح يدخل إلى عمق النفس البشرية، وكشف عالم الشخوص الاجتماعيّ والفكريّ، وعلاقتها بما يدور حولها.
ناقش الكاتب فلسفته الخاصة في البحث عن معنى الحياة، فكتب في الصفحة (224) على لسان أحد الشخوص:
“لطالما تساءلت: كيف يتنامى الحقد في الناس بسرعة صاروخيّة، في حين أنّ الحبّ، لا ينمو فيهم إلّا بصعوبة وبطء وتثاقل، لا أريد أن أصدق أنّ الحقد يولد معنا، لأنه إن كان كذلك فالحبّ يجب أن يولد معنا أيضا، القضية غير ذلك، إنها عملية منظمة، تمارس منذ بداية تشكّلنا لغرس بذور الكراهية بيننا، وإخماد أنفاس المحبة فينا.
وكتب أيضا: لن يحكمنا أحد ويسلب حريتنا، إلا عندما ينجح في زرع الكراهية فينا، ودون ذلك، يبقى عاجزا عن السيطرة والتحكم بنا، لنصبح عبيدا راضين قانعين، وكلما زاد جهلنا صرنا فرحين أكثر بعبوديتنا.
هي مؤامرة عمرها آلاف السنين، تحكاك ضد أنسنة الإنسان، سلاحها الأسطورة، الفلسفة والدين والعولمة.
أخيرا فهذه الرواية هي إضافة نوعية للكاتب لما قدمته من حوار في الكينونة الإنسانية وماهيتها، فمهما استقوت الشّرور واستشرت، يبقى الأمل منتصرا، وتبقى إنسانيّة الإنسان هي الأساس والجوهر، والبقية الباقية.
شكرا للكاتب قاسم توفيق، وإلى مزيد من التألق والعطاء.