الأنا والآخر.. قراءة في قصيدة: “وجع قلب” لـ”مبارك السلطي”
د. جمال فودة | عضو الاتحاد العالمي للغة العربية – كاتب وناقد من مصر
أولا : النص الشعري
هذا أنا
وقلبي الذي قد أوجعك
جئت إليك لأسمعك
جئت إليك على يدي
تكوي كفوفي أدمعك
بئسا لهذا الفقد لك
رفقا بهذا القلب لك
أرخِ الدماء بأضلعك
ولا تقل ..ما أرجعك
من حبّ فيك بدايةً
لا شك حبّ فواصلك
أحببتني أو كنت لا
أنا هنا لا مناص لك
من ذا الذي قد قال لك
وعلى فِطامي أرضعك
وأنا الذي قد قلت لك
عش هاهنا. لن أمنعك
صار النهار.. ساحتي
أجري بها علّي أراك
والليل أمسى حرقتي
جفني أواك ولم أرك
نبضي هنا في أضلعي
والقلب يهوى أضلعك
رفقا بقلبٍ صار لك
إن جاد لك أو جادلك
رفقا أقول وأدمعي
وادٍ بخدي قد سلك
رفقا بعينٍ موجعة
رفقا بجفنٍ قد هلك
للوهلة الأولى يبدو أن ضمير المتكلم “أنا” هو المعبر الملازم لخطاب الأنا أي للمونولوج الداخلي؛ فالشاعر يتحدث عن نفسه ومع نفسه بضمير المتكلم، وهذا يجعلنا نتفق مع دوستوفيسكي، الذي يقول: ” إن الوعي لا يكتفي أبداً بنفسه، وإنما هو دائماً على علاقة يقظة ومشدودة مع وعي آخر”، فكل أحاسيس وأفكار الشاعر تتجلى في حوارية داخلية، ملونة بالجدلية، مليئة بالانكسار.
ومن ثم يأتي رصد المونولوج الذي يفترش مساحة النص باعتباره أكثر الدلالات إيحاء بما يفضي ببوح الشاعر إلى مداه، وهو أحياناً ظاهر في مواجهة الأحداث، وأخرى يطل من خلف الأبنية اللغوية والصرفية (كتاء الفاعل وضمير المتكلمين أو الفعل الماضي المتصل بياء المتكلم)، مرات ثالثة يتباطأ، وفي أخرى يتسارع، في أحيان يقف على مطلع الفقرة، في أخرى ينطوي وسطها، ليظل في كل أحواله عاملاً على إطلاق التعبير وتحريره، وممارساً لعبة البوح والاعتراف.
في هذه القصيدة تكرر ضمير المتكلم أربعاً وعشرين مرة، جاء ظاهراً تسع عشرة مرة، وجاء مستتراً خمس مرات، وظهرت معه تقنية البناء السردي من خلال الحوار؛ حيث ينفتح النص على صورة (القلب) الذي يحمل في ثناياه أبعاداً نفسية تحمل آلام الماضي والحاضر. فمع استهلال (السلطي) قصيدته بقوله:
هذا أنا
وقلبي الذي قد أوجعك
جئت إليك لأسمعك
جئت إليك على يدي
تكوي كفوفي أدمعك
ينتقل إلى تفصيل بعد إجمال، فيبدأ الأحداث بضمير المتكلم على هيئة استفهام مخاطباً نفسه في مونولوج داخلي لا ينتظر جواباً من أحد:
من ذا الذي قد قال لك؟
وعلى فِطامي أرضعك
وثمة إشارة إلى دور المونولوج الداخلي والسرد من خلال ضمير المتكلم في ترابط الدلالة على مستوى النص، خاصة عند الانتقال من التكلم إلى الخطاب، وهذا الانتقال يمثل نوعاً من الالتفات يثرى ذهن المتلقي ويقوى صلته بالدلالة، فضلاً عن الحوارية التي تزيد المعنى ثراءً ونماءً.
ومع أن الشاعر احتال على النص من خلال عملية التجريد فراح يحاور الآخر، لكن صوت الآخر سيندمج مع صوت الشاعر لينتهي المونولوج في رسم معالم الخطاب الشعري من خلال عناية الخطاب بزمن الحضور، إذ هو مصدر هموم الذات الخاصة والعامة فالمؤشرات الصياغية ” أمنعك، أجري، أرك، أقول” تتردد في هذه الدفقة الشعورية لتعمل على تعلق الدلالة الشعرية بزمن الحضور في السلب والإيجاب، وأهمية الضمير تتمثل في إتاحة الفرصة للمشاركة في صنع الأحداث والسمو بها من منطقة الواقع إلى منطقة الحلم.
إن بنية الدلالة تتنامى لتخلق على مستوى التركيب تقابلاً يتخطى ظاهر اللفظ إلى باطنه، وبنزع هذا الغلاف الخارجي نصل إلى جوهر الدلالة، فيظهر لنا هذا التقابل (على فِطامي، أرضعك)،( النهار ساحتي، والليل حرقتي ) ( جفني أواك، ولم أرك)، فتاتي المقابلة في هذا السياق لتثري الحركة المطروحة على مستوى النص ؛ حيث تصبح لهذه البنية البلاغية دلالتها المادية والنفسية والرمزية في آن واحد، إذ تسهم في تأكيد شاعرية الصياغة بتحويلها من المباشرة إلى غير المباشرة، الأمر الذي يتيح لنا ضرباً من تكثير الواقع وتنويع منظورات التجربة.