بقلم: عماد خالد رحمة ــ برلين
بول فالرين ذلك الموسيقيُّ الذي كان يُرقِص كل الكائنات على أنغامه فيُسكِرُها، كل من سمع موسيقاه كان يَسْكَرْ بما فيها الحيوانات، وهو الذي هَبَطَ إلى الجحيم، متمثلاً بنزول الربة عشتار إلى العالم السفلي لإنقاذ زوجها الإله تموز من عالم الظلمات، فهو البطل الذي يعيش في حالة الغصص، والذي يتوسَّط القطبين التاليين: صعوبة الكيان،واستحالة الكيان، إنه امتدادٌ لأحد الإسطارات الكبرى (mythe) التي عاشت البشرية عليها والتي لا زالت رابضة ً عند مفترق الوعي في كل إنسان، كأنما الرجل ُ، كلُّ رجلٍ، حيوان إسطاري. فقد تأبَّطَ شيطانه الذي أيقظه من سبات العتمة والعفونة، وأطلقه لأنه يملك كل أشكال القوة من أجل الخراب. وهو الذي هتف لبودلير شيطانه يوماً من محاسن الشِّعر فقال: (إنها تشبه نعنعةَ الماءِ، لا يفَضِّلُ بعضُها بعضاً، تنفث السحر كالفجر، وتغدق السلوى كالليل، نَفَسها يتصاعد موسيقى، وصوتها طيباً يتضوّع ) في هذا يقول الراوي : ما سمعتُ قولاً يوافق شعر بول فرلين إلى حد الاختلاط والتماثل كقول الهاتف هذا، وكأنه تنبأ.
شعَّ نورٌ من ثنايا ثغر بول فرلين عندما أضاء ثنايا روح (ماركو ) من خلال قصيدته- رائعته الشعرية ( ماركو )، وترانا نلتقط شعاع فرلين وهو ينظِم لؤلؤة في عقد الرمزية ؟؟؟ ولمَ لا ؟؟ غناؤه الطري الذي يغَنِّنُ الروض، عودته إلى الألحان البدائية التي رافقت الإنسان منذ أن كان نِقفاً،انتقاله إلى هذه الفردوسات الاصطناعية التي تحدّث عنها بودلير، وموسيقاهُ هذه التي تؤلِّف بينَ التفاصيل والأشتات، فتنهض بها هيكلاً مشيقاً، ألا وهي معزوفةً عظمى تلفُّ الكون على واحدٍ من أوتارها وتطير في الكون… لما كانت الماركو تغني…
هذا هو بول فرلين المولود في (ميس) عام 1844 – وهو الذي درس في المدن التي تنقَّل والده فيها، وانتهى إلى باريس،وحصَلَ على البكالوريا عام 1862، مات والده عام 1865، استسلم لشهواته ونزواته وشبقه، وكانت علاقته عاصفةً برامبو الذي زار برفقته انكلترا وبلجيكا،ولحدّة طبعه، ونزقه المفرط، تطوَّرَ الخلاف بينه وبين رامبو، إلى حد أنه أطلق عليه رصاصتن في بروكسل في تموز من العام 1873، سُجِنَ على إثرها مدة سنتين في (مون).. ثم ارتدَّ إلى الدين ليصبح مسيحياً محتدماً،وكتب ديواناً في السجن، وتسكَّعَ في أزقّة باريس ومقاهيها ومستشفياتها،عمل في مكاتب ( دار البلدية ) في باريس، كما عمل في فوج الدرك لحفظ الأمن،تزوج بول فرلين في العام 1870 الذي وصلته قرار الطلاق بعد ثلاث سنوات وهو في السجن.وفي نهاية حياته مرض وأوهنه الإفراط، فأُدخِلَ مرارا إلى المشفى قبل أنْ يموت ميتةُ بائسة في العام 1896
أنتج العديد من الأعمال الشعرية منها:
المجموعة الأولى: (قصائد إلى زحل) عام 1866 الذي يجاهر فيها أولاً بلا آلميَّة البارناسيّين، ويَظهَر على حقيقته بشبقه ورقَتِهِ وكآبته. من قصائده (المشاهد الحزينة) يستذكر فيها حُبَّهُ الزائل (لن يكرر أبداً) و المرأة المُثلى (حلمي المألوف)، كما يضيف إلى تقلبات مخيلته سحر مشهد غَسَقي (شموس في المَغيبْ) ويُسمِعْ صدى خافتاً للقلق الرومانسي (أنشودة الخريف).
مجموعته الثانية جاءت بعنوان: (الحفلات الأنيقة) عام 1869، حيث نجد فرلين قسّيساً أنيقاً، ماركيزاً، يضع شَعراً مُستَعاراً، بعضُ السيدات وقد تنكّرنَ بهيئة راعيات، غيرَ أنَّ ظِلّاً من الكآبة يختلط بوصف ذلك الفرح.
أما مجموعته الثالثة (الأُنشودة الجيِّدة) عام 1870 والتي تعبِّر عن أعماق ذاته وهواجسه الداخلية ، ففيها ينشد الشاعر بول فرلين اتفاق رومين إذ كان خَطَبَ من فترةٍ وجيزةٍ (ماتيلد موتيية) فيَصِف أفراحهُ الخالصة وحَمِيَّته كعاشق، ويتخيَّل السعادة الزوجية الهادئة، لقد اكتسب لبعض الوقت التوازن والهدوء، وهو الذي كان فيما مضى قَلِقاً لا يَعرِفَ الاستقرار.
يقول في قصيدته (ماركو تغني):
وماركو عندما كانت تنــــامُ
بـحقِّكَ ! أيُّ عطرٍ لا يُشامُ
مزيجَ عنابرٍ وطريِّ لحــــمٍ
لفـرط الفرح غرفتها تضامُ
ومن تحت الشراشف كيف كان
النديُّ الشكلُ والغاوي القوامُ
يموجُ وكيف في فيئٍ ظلـــيلٍ
من الأستار هدهدها الهيامُ
وكانت دفقة الأنفاس تــــعلو
خـفيفاتٍ يوقِّعها انتظامُ
هنا تتجلّى الرمزية أكثر من الانطباعية عند بول فلرين ،حيث الانطباعية تعكس الانفعالات العابرة، في حين أنَّ الرمزية تغلغل في مطاوي الوجود، تتنقَّلُ الأولى كفراشةٍ على زهرة، وتطفر الثانية ( كغُفر الأَيلة على جبال الأطياب ). وبول فلرين لديه أطيابٌ خاصة لها حكايةُ الحكاياتْ. وأطيبها ما يتنفَّس به الجسد، حتى لتنام الغرفة من خدر حوالي جسٍ طريٍّ ينام، حتى لتتململ الأشياء المبهمة ُ الغفلاءَ في الخزانة وعلى الرَفّ. إلّا أنَّ بول فالرين بالرغم من عطوره العابقة، ومن أفيائه التي تمسحُ الصارخ من اللون، ليس تلميذاً أميناً لمدرسة، ولو هي الرمزية العظمى، نسيجٌ وحدهُ هو، كما يقول الراوي، ونسيجُ اهتزازةٍ في النفس، تختار لها مطرحاً في الباطن النامي لا يصل العقل إليه، ولو مداورةً واحتيالاً ومواربة.
في قصيدته استعارة يُقَدِّمُ لنا بول فلرين نفسه بأنه بارناسياً أصيلاً، قافزاً على أغنائياته التي عرفناها والتي بثَّها برمزيَّةٍ عالية في مُدَلَّلَتِهِ (ماركو)، وبدورنا عرفناه فيها كيف يجمع بين رومانسية النبرة اللامارتينية وبين قشابة بودلير، أما في قصيدته (الاستعارة) فسنعرفه بارسياً أصيلاً، يقول:
طاغٍٍ هو الصيف،موفورٌ تثاقلُه
مُغيَّبُ الَّلون من أشباهه مَلِكُ
حمُّ التخنثِ، كسلانٌ،بحضرتِهِ
نَزْعُ الضحيةِ، إذ ينتابُها الهلَكُِ
ينباعُ في الأبيضِ الوهَّجِ من جَلَدٍ
مُواطئٍ ثم يستشري تثاؤبُهُ
وها هو المرء يغفو تاركاً عملاً
يقتاتُ منهُ فلا كانت متاعِبُهُ
هو الصباحُ فما غنتْهُ قُبَّرَةٌ
جميعها علِقَتْ في قبضةِ الجَهَدِ
ما من نسيمٍ وما من غيمةٍ خَطَرَََتْ
لا شيء جَعَّدَ أو ثنَّى من الجَلَدِ
وجهاً تبَسَّطَ لم تهدأ ملاستُه
ولم تُسكَّن على الإرهاقِ في المَلَسِ
حيثُ السكينةُ في غليِّ مَراجلُها
وسْطَ الجُمُود العديم الحِسِّ والنفسِ
هذه المقطوعة هي بارناسيةٌ إلى أبعد المطاوي النفسية الداخلية، وهي غارقة في مطاوي الوجدان، كما لو أنها كانت (لتيوفيل غوتييه) أو (لتيودور دي بانفيل ) أو (الكونتدي ليل)، أليست بمجملها تُرَتَّلْ في هيكل الجمال المطلق؟ أليست تتجاهل النفعية والمصلحة الشخصية ؟؟ أليست تتأنّق وتتدلَّل في التنقية اللفظية ؟ بعيداُ عن كل عاطفة وحس. لعلَّ ما يتبقَّى في ذهننا من جوّها المُصَفّى إنما هو الوجوم، أو ما يشبه الوجوم ، ثِقَلٌ يعكس وطأة الصيف في الهاجرة فيستكنُّ كلُّ شيئ في خلوة وكأنه قد هاجر. فهي وصفية إذاُ، لا انطباعية، وهي ريشةٌ ترسم، لا حسٌ يرهف ويهتزّ ويتململُ في بوح ، ويتخذ القلب فماُ ونياط القلب أوتاراُ ترافق بنغماتها هذا البوح.
بول فرلين هذا قال في قصيدته (المعُ في قلبي):(مشاهد الطبيعة الكئيبة هي البيضة التي ينقفها رفٌّ كاملٌ من الأبيات الشعرية المغناة، من الأبيات المُهَمة التخوم، والمحددة المعالم في آنٍ واحد، وقد لا أزال وحدي أوَّلَ قانصٍ لها عبرَ التاريخ ) لذلك كان فرلين كلما غنّى إلى حد الكآبة، فهو يَتَنَفَّس بالشِعر ولم يُغَنِّ ؟ كان الحمام الهادل، يَعمقُ الفرحُ فيه إلى حدّ الكآبة، وتعمقُ الكآبةُ فيه إلى حدّ الفرح. أي إنَّهُ ينقر الوتر الأحَمَّ في النَفْسِ فيشْجو، بمعنى أنَّهُ معاً يُحزِنُ ويُطرِبْ. يقول في قصيدته (الدمعُ في قلبي):
الدمع في قلبي
مثلَ المدينةِ في المطرْ
ما شأنُهُ هذا الخَدَر
ينسابُ في قلبي ؟
يا حُسْنَ دندنةِ الشتاءْ
فوق السطوح، على الثرى !
للقلبِ،إنْ سأَمٌ عرا
يا نِعم أُغنية الشتاءْ
تجري الدموعُ بلا سَبَبْ
في قلبي القرف الحزينْ
ماذا !! أما خِلِّ يَخونْ
هذا الحِدادُ بلا سَبَبْ
وأَمَرُّ أنواع المرارةْ
أنْ نستمرَّ على السؤالْ
لِمَ دونَ صَدٍّ أو وِصالْ
قلبي يُغَلَِّفُ بالمرارةْ؟
هذا هو بول فلرين الذي مات معدماً عام 1895 تاركاً لنا شِعراً مجَدَّداُ، فهو شاعرٌ مُجَدِّدٌ، سواء في قصيدته (الزجلية) أو في قصائده الراقصة الأخرى (كأغنية الخريف) مثلا،شاعرٌ مجددٌ هو ، ولكن من خلال تَلَمٍ طويلٍ ينتصب عند أوائله (بودلير) وعند ممن عايشه في نهاية حياته (بريفير). ويبقى التجديد والتقليد يلتقيان في أكثر من السجع، فمن هو البحّاثة الذي سيخططُ لنا، نهائياُ معالم التجديد والتقليد، ويقوِّم الفوارق لامعةُ قاطعة كحدّ السيف ؟ أليست (ماركو) نفسها ليماً لقصيدةٍ عنوانها (مينيون) نشرها (جول تارديو ) في مجموعته (ورود الميلاد) عام 1860؟
بول فلرين هو أكثر من عثرة. والعَثْرةُ عنده تبلُغُ درجة الهول. فكأنما هي غرامةُ العبقرية، وكأنما هي حافزٌ جديدٌ لتشديد مخالع الرُّكبِ والقفزِ إلى القمم المنيفة التي تُنزِّه أصابعنا على ضفائر النجوم. ونُحلِّقُ معه إلى رمزيةٍ طاغية ملوَّنة بانطباعية شفَّافة.