مذكرات [في] قصة للأطفال

خالد جمعة | فلسطين

ستعتقدون للحظة أن من يتكلم معكم هو إنسان مثلكم، أو في حالةٍ أخرى حيوان منزلي أو شيء من هذا القبيل، ولـهذا السبب سوف أعرّفكم بـنفسي: أنا حرف الجر [في] وقد نصحتني صديقاتي الكلمات [وخصوصاً عائلتي أحرف الجر] أن أكتب مذكراتي نتيجة لـمواقفي الغريبة التي مررت بها، وطبعاً لم أوافق في البداية لكنهم أقنعوني أن الأطفال يحبونني ويريدون أن يعرفوا شيئاً عن حياتي.
إننا معشر الحروف لا نحيا حياة عادية مثل حياة البشر أو الحيوانات، لكن لنا حياة خاصة تختلف في أحيان كثيرة، فمنا من يعيش في صحيفة أو قاموس، ومنا من يسكن في كتاب أو يتردد في أغنية أو قصيدة، وهناك من يعيش متنقلاً على ألسنة الناس ليعبر عن رغباتهم ويصف أفعالهم، وهناك من يجلس فوق لوحة تحمل إسم شيء ما مثل محل أو مكتبة أو فندق، في النهاية نحن نعيش في جو الكلمات، نربطها بـبعضها البعض ونجعل لـها معنى في حين أنها بـدوننا تصبح لا قيمة لـها [عفواً: هذا ما يقوله الذين يعملون في اللغة ولستُ أنا] وعلى سبيل المثال، كنتُ مرة مريضاً ولم أستطع أن أقوم بـواجبي، وحدث أن رجلاً قال: [هناك لصٌّ البيت] ولم يفهم الناس وصاروا يضحكون عليه، لكنني تحاملتُ على نفسي رغم المرض وذهبتُ وجلستُ بين اللص والبيت فصارت الجملة [هناك لصٌّ في البيت] واستطاع الناس أن يفهموا قصد الرجل وذهبوا وقبضوا على اللص، هذا قليل من الكثير الذي أستطيع أن أفعله، فتخيلوا إذن لو أنني لم أكن موجوداً في اللغة العربية، ماذا يمكن أن يحدث… سأروي لـكم:
في قديم الزمان كان هناك عالِمٌ في اللغة يبحث في موضوعٍ مهم ولأنه نسي أن يضعني في مكاني المناسب فقد غضبت على اللغة وعلى أهلها وقررت أن أنسحب منـها فلا يراني أحد، والذي حدث أن اللغة صارت لا تدلُّ على معنى كلما جاءت جملة من المفروض أن أكون فيـها، وعمت الفوضى الجمل، فكنتم [لوعشتم في ذلك الزمن] تجدون جُملاً مثل ـ يدي سيف ـ بدلاً من ـ في يدي سيف ـ، وجملاً أخرى مثل ـ الحصان الشارع ـ بدلاً من ـ الحصان في الشارع ـ وهكذا، إلا أن الناس صاروا يتوسلون إليّ، وبعد أن وعدوني أن يمحو كلمات هذا الرجل من التاريخ كله قررت أن أعود وعادت الجمل مثلما كانت.
ورغم صغري أنا وأخوتي إلا أننا نستطيع أن نحول مسار اللغة إذا انتقلنا من مكان إلى آخر، أو جلـس أحدنا محل الآخر في جملةٍ من الجمل، لذلك فإن عائلتي [اللام والكاف والباء والإلى والعلى والمن والعن] دائماً يحفظون مواقعهم ويعرفون كيف ومتى يأتون في الجمل.
إن حكاياتي طويلة وكثيرة أنا وأخوتي الحروف، لكنني لن أحكيها كلها، والسبب الوحيد الذي جعلني أتكلم اليوم معكم أنني أردت أن أخبركم أن الشيء مهما كان صغيراً يستطيع أن يصنع العجائب، وأن الطول والضخامة لا تساوي شيئاً إذا لم يستطع صاحبها أن يفكر بـعقله، وها أنا مَثَلٌ أمامكم، فرغم صغري وحروفي الاثنين فإنني أستطيع أن أغير معالم لغةٍ بأكملها وأحولها إلى شيءٍ لا معنى له إذا أردتُ ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى