قراءة نقدية في رواية “نساء المجرة” للأديب العراقي جمال قيسي

وفاء كمال | ناقدة وإعلامية لبنانية

كل منَّا روائي بطريقة ما, لأن الرواية هي جزء من الحياة. لكن الحكم عليها يكون بما يملكه الكاتب من قدرة في التعبير عن تلك الحياة .التي تتحرك وتتغير باستمرار.والنقد هو جمالية متحركة على الحركة نفسها .فكيف إذا كان الناقد والروائي متعانقَيْن في نص واحد ؟لاشك أنهما قادران على جعل القارئ يستجيب للحياة بكل حواسه وجوارحه.

ففي رواية “نساء المجرة” يقدم لنا لروائي والناقد “جمال القيسي” فصولاً من طفولته التي تتحرك بين تجارب مجموعة من النساء ،تتفاوت أعمارهنَّ وأشكالهنَّ وبنياتهنَّ النفسية . لقبهنَّ الكاتب بنساء المجرة ،لشبههن بالكويكبات التي تدور حول أقمارها أو النيازك التي تحتوي الغبار الكوني والمادة المظلمة أو البقايا النجمية .

هؤلاء االنساء الذين كانوا كمجموعة أمهات للكاتب يمارسن معه دور الأمومة ويمنحنه السعادة والأمان والدلال والإقبال على الحياة. والمجرة الأكثر قربا وأكثر التحاماً بالكاتب وبماضيه السحيق, وأشد النساء سطوعاً في حياته .كانت زوجة عمه .

فقد وقع عليه الاختيار بين إخوته السبع لتربيه تلك المرأة  وتحسن تربيته وتعليمه وتوجيهه بحيث تمكَّنَ بعدها أن يعطي لذاته وجوده الكامل مقاوماً التفتت والتبعثر الكياني حيث يصعب على طفل يُنتزع من منزل أمه الحقيقية إلى منزل مربيته أن يحافظ على تماسكه، لولا أن البيئة الجديدة قد حملت له المزيد من المحبة والدلال.

فعالم الطفولة في منزل عمه كان ساحراً بالنسبة له .فهو الطفل المدلل الخالي من المسؤولية لدرجة جعلته يتساءل عن سر ذلك الدلال. حيث يبرز السؤال العملاق الذي يقض مضجع الكاتب . وهو لماذا خُلِقْنا؟

ويتعاطى مع هذا السؤال المؤرق خارج الإطار الديني الذي يسبب مشاكل فكرية للمتدينين، ويجعل العلميين يتشنجون.لأنهم يفسرون كل تلك الظواهر الكونية تفسيراً مادياً

ولأن السؤال يحتاج لتدبر يعود للعم نيتشة ذلك الذي يقول: ما من وقت ينقضي بين لحظة وعيك الأخيرة و أول شعاع لفجر حياتك الجديدة, ومثلما لمعة البرق سينزاح المكان, وذلك على الرغم من أن المخلوقات الحية تظن أنه انقضى مليارات السنين, ولا تستطيع حتى أن تعيدها , فاللَّازمان وإعادة الميلاد المباشر يتناغمان حينما ينحى العقل جانباً.

القيسي يحاول الإمساك بالرجع البعيد الجميل موقناً “إن العالم فيه من الشرور كثير، وربما هي الأصول الثابتة في مصارف التاريخ البشري غير أننا نرى العالم جميلاً لسذاجتنا ونحن غرُّ صغار وبمجرد أن نفقد براءتنا نرى الصورة البشعة، ولانملك إلا ان نجاريها أو نقاوم حتى تلتهمنا شرورها ” ص(9)

ليس بوسعنا ونحن نقرأ “نساء المجرة ” إلا أن ننتقل من جمال الصغير البريء إلى جمال الكاتب والمنظِّر والسارد المتميز، الذي يبرز ثراء في الوصف والسرد حين يفتح نصه على مجمل الخبرات والأحلام والهواجس ويدشن لنفسه هرماً جمالياً يمتلك خصوصية لايمكن هدمها.

ويضيف لُبْنات جديدة وتمثيلات جمالية للسردية العربية، من خلال بعض الهوامش التي سمعتُ أنها تؤرقه ويود حذفها في الطبعات القادمة. ناسياً قول كيتس: إن الروايات التي لانشعر بها على نبضاتنا لاتستحق طبعة ثانية. فقد جاءت تلك الإضافات كالسنة التي تفسر القرآن.

فالرواية تخبرنا الكثير عن الحياة وتجاربها من خلال نسائها وخاصة زوجة عم الكاتب وأمه التي شكلت جوهر رؤياه لكل أمر حياتي صادفه او تفاعل معه . بحيث بدا وهو صبي ممتلئاً حكمة وحيوية .انبثق من خلالهما إدراكه الجمالي والأخلاقي الذي ربما احتاج لعشرات الأعوام من الدراسة التقليدية ليكَوِّنه. لكنه كوَّنه وهو في الابتدائية . لم يكن يعشق المدرسة، لأنه لا يريد التعلم وفق رؤية المُدرِّسة القاسية وطرائقها. التي تحدد من شخصيته بمنظومتها التربوية العقيمة امام وعي امه المتنامي. فكانت طفولة القيسي مجموعة من الخبرات والخامات التي لم يكتب بها الكاتب نفسه فحسب، بل كتب تجارب المحيطين به وخفايا بيوت تنقل بينها .وصور شوارع سار بها .فتح الأبواب الموصدة للنساء رغم طفولته التي جعلت الأحداث طازجة خالية من التهجين والتجميل . فكتب الجانب المظلم لأسرته وأبيه الذي تخلى عنه لعمه. والجانب المضيء لأمه وزوجة عمه تاركاً مجالاً واسعاً للقارئ لبعض التأويلات.

حين تدرس جمال القيسي لاتعرف من أي اتجاه تدخل عالمه الجمالي .فهو ينقل مجريات الحياة بصدق بلا زخرفة .ثم يقوم بتحليلها مستنبطاً نظريات الكتَّاب والفلاسفة امثال نيتشة ،فرويد، ،هيدجر، دارون بافلوف ، هيجل وتوينبي.

دون ان يجري مسحاً سريعاً لمحيطه ،ملتقطاً إيقاع كل مايقع حوله بعينه ذات الطاقة الفعالة التي تجعل الصورة التي تنقلها حية على الورق ،فدقة الوصف عنده تجعل اللقطة تتحرك .وتجعلنا نرى ونسمع ونتذوق ونشم. كل جمادات الورق تصبح ذات طاقة عالية .. والأماكن تصبح ذات قيمة وثائقية حين يرسم سجلها الزمني الحافل بالأحداث  مهما تقادم عليها الزمن حيث تصبح مقروءة مرئية مسكونة . فمنطقة السباع التي أبصرت فيها عيناه النور. والتي أخذت اسمها من النصب الذي أقيم وسط الساحة, وصفها القيسي  في بداية روايته بدقة، وكذلك مراسيم مناسبة زكريا وبيوت بغداد القديمة التي تفوح منها رائحة الآس والعنبر والملا ناصر والبلابل وكلب البيت المعمر وزوجة العم التي تدير البيت كما تدير الملكات قصورهن بكل صرامة ورفاهية .الأسواق ذات التقسيمات السوريالية. الترومواي نساء الحي وغيرهن وشارع الكفاح وجامع الشيخ عبد القادر الكيلاني وحلقات الذكر كل شيء يصبح قي رواية القيسي أبعد من تخوم الذاكرة . حيث يحييه فيعود من جديد .باشكال ووثائق تاريخية للمخاطر التي حلت ببغداد بسبب المجندين من قبل البعث  حين أضيفت عليهم الشرعية بعدتشكيل ميليشيا الحرس القومي .ثم تصفية البعث من قبل عبد السلام محمد عارف واغتيال عبد الكريم قاسم. وتأسيس حزب البعث.

هذه الأحداث التي لعبت دوراً كبيراً في تشتت نساء المجرة وتباعدهم حيث دبت الخصومة بينهنَّ وصار ت كل واحدة منهن تنضوي لجناح .وحلت البغضاء مكان المحبة. وانفرط عقد المجرة ،وانتقلت كل منهن لضاحية  لكن ماأفسدته السياسة وفرقته الأحزاب ،لم يتمكن ان يمسح متعة التكوين الأولى عند القيسي .فظلت تسكن كيانه وظلت ذكريات بيته القديم بغرفه وشناشيلة ونوافذه وحيواناته وشجرة الياس والرمان .تدغدغ مشاعره بحيث يقول ” يمكنني  تجاهل كل شيء إلا نفسي  المسكونة بمن تحب…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى