نسمة هوا
يكتبها: محمد فيض خالد
ارتعشت الابتسامةُ خَجلة على شَفتيهِ السُّمر، اَمسكَ ” المدراة” في يدهِ يُقلِّبها في خُيلاءٍ، بَدت كَالعَروسِ المَجلوة ساعة زفافها، في زفرةٍ موجعة نَفَثَ الدُّخان كثيفا، حَكّ أنفه في عنفٍ، كمن ينتشل نفسه من أحضانِ الذِّكرى، ألقى ببصره يمرح قليلا في سكونِ الفضاء الملتهب بحرقةِ الشّمس، هزّ رأسه مُتَعجِّبا ،قَطَبَ حَاجبيهِ وزَامَ قائلا:” رحمك الله يا أبي!”، عَرِفت أقدام ” عليوة” طريقها للحقولِ تَابِعا صَغيرا لوالدهِ الرَّيس ” عزازي” أشهر “مقرقر” أجران قي الزِّمامِ، مُبكِّرا افترشَ أديمَ الأرض والتحَفَ السَّماء، تشبّعت روحهُ بندى الصَّباح الفتَّان ، يعلو سهمه زمن حصاد القمح ، بقُدرَةِ قَادرٍ تَدبّ الأُلفَة بَينهُ وبَينَ طوب الأرض ؛ إذّ لابُدّ لصاحبنا أن يَضع خاتمه فوقَ الأجرانِ؛ إِيذانا بفصلِ الغَلّة عن التبنِ، تتلاعب مدراته الزّان برشاقةٍ في تلالِ الهشيم ، فتزيحها عن مكانها ، ريثما تصفيها تصفية خبير ، تندلِق على وجههِ ضحكة ساذجة ، يُحكِم طاقيته فوقَ رأسهِ ، مُردِّدا في ثقةٍ:” صنعتنا هذه صنعة العُمد ، ورثناها عن أسلافنا ، كاَنَ جدّي المرحوم مرزوق بطل ، أصلنا من ديروط ، جئنا للعملِ في دائرةِ خشبة ثم استوطنا العزبة “، عَلّمتهُ مهنته كَيْفَ يكونُ جلدا صَبورا، يحمل نفسه على ما تَكره، حتّى تتَخلى الحُقولُ عن آخرِ حَبَّة من التَّبن.
يعودُ سيرته الأولى فَوقَ المَصطبةِ؛ مُصبِحَا مُمسيا يَجدلُ حبال اللّيف، تلقي عليه الأيام ظلالا ثقيلة من النّسيانِ ، فلا ينال بعد حظوةٍ إلّا سلاما باهتا ، يتوارى ريثما يعَودُ مُنتَفضا مع انبساطِ عيدانِ القمح ، وسنابلها التي مُدّت شواربها الشُّهب مُتَحدّية، تنتظرُ أن تلثمَ المَناجل خدودها النَّاضجة ، يَعتَرِف ” عليوة ” مُتّكئا على طرفِ ” المدراة” ، يُطالِعُ أمامه الجُرن في زهوٍ؛ بأنّه لم يذق لذّة الحياة إلّا في ليالي الصَّيفِ المُقمرة، ينتظر لفحة هواء بحرية تُداعِب حبات التّبن ، من بعدهِ اسندَ إليهِ والده المهمة بعدما داهمت العلّة بصره ، لا ينكر سعادته ؛ فيجد في نفسهِ دهشا لذيذا ، وراحة تلفه وهو يتسَمّع كلمات التَّودّد تُسَايره، يقول ” مخيمر ” السَّمكري :” أيام الجرن يصبح عليوة أبو صفارة زعيما ينتظر الهتاف ، إنّه أشهر من أحمد أفندي العمدة ، سبحان العاطي !”، تعرِفه ” الملقة” عاشقا للسّهرِ، مُتيّما يهوى أصوات اللّيل ، يفكّ سلاسلَ الظّلام ، وكأنّه يطلِقُ الأشباحَ من مكمنها ، يقيضُ حفنةً من ” التبنِ” يضربُ بها وجه الهواء في أناةٍ وتدبّر ، ثم يعودُ فيتربّعُ أمام براد الشّاي مأخوذًا ، سريعا يعودُ مُنتَفضا ؛ فيأخُذَ في هدِّ الرُّكام أمامه هَدَّا لا يعرف الهوادة ، يمسح طرف شاربه المَسنون في ابتهاجٍ هاتفا :” ساعة منهُ ترضي ، الهوا الليلة للصبح”، يَظلّ على حالهِ ، يَشقُّ نَغم صوته المشروخ ثيابَ الليل ، حتّى يسفر الصَّباح وقد تبدّدت بنات اللّيل مُتوارية بين حشايا الظّلام المنهزم ، لحظتها يلقي جانبا ” المدراة ” ، وقد بَلَغَ منه الجهد مبلغه، يَضع يدهُ قوقَ حاجبيهِ، يُطالِعُ قرص الشّّمس الوليد في ارتياح ، يحدج صاحب الجرن في اطمئنانٍ ، قائلا :” باقي رفه ونخلص ، أنا في البيت اعود سريعا مع هواء العصاري “، يعودُ منزله ، تتلقاه زوجته لقاء مودّة ، يزيح عن جَسدهِ أثقال السّهر وغبار الجُرن، في أحيانٍ كثيرة يجد نفسه منقادة نحوَ تمردها ، يرفعُ راية عصيانه مؤدِّبا بعض أولئكَ الذين بالغوا في تجاهلهِ، يلتمع الخُيلاء في عينيهِ، تكسو وجهه النّحاسي جهامة غليظة ، يغيبُ مُفتَعلا بينَ سُحبِ دخانهِ الكثيف مُجيِبا في حَنقٍ :” دورك لسه بدري عليه ، أنا لحم ودم الصّبر جميل “، لا تخمد حزازات نفسه المُلتَهبة غيرَ زوجته ؛ بلطفٍ تُعيِدهُ إلى صَوابهِ حينَ يملأها القلق ، فصغارها بحاجةٍ لكُلّ حبة قمح ، تراه وسط الحقولِ وقد أغمضَ عينيه، فاتحا ذراعيه ، يَجذبُ ياقة جلبابه يتَلقّى تيار الهواء في رحابةٍ غريبة ، يبدو مَرِحا كما الزّهرة التي تفتّحت لنُضرة النَّدى ، تستقبلُ إشراقة الصُّبح المُنعش ، يتحسّس بيده الفضاء وكأنّما يُدَاعبُ خيوط الهواء المنسابة من حولهِ ، يطلق صيحة مدوية :” الحمد لله “..
ها هي الحياة وقد ائتمرت بهِ، كما ائتمرت بغيرهِ من أهلِ الصّنعة ، بعدما غزت ” آلات الدريس” الحقول ، تطحن في سَاعاتٍ جِبالَ القشّ، استيقظَ صاحبنا ليجدَ نفسه وقد أُزيحَ ومدراتهِ عن السَّاحةِ ، صفرت يديه من كُلّ شيء ، أخَذَ نفسه بالصَّمتِ، تضطرِمُ في جَوفهِ غلّة الحقد ونار الكُره، مرّت الأيامُ عليهِ ثقيلة نائما فَوقَ المَصطبةِ ، رويدا تلاشى ذكره ، فلم يعد لسيرتهِ مَن باقية، نفضَ يده من النّاسِ ، اللهم إلّا نسمات الهواء يرتجف لها قلبه طَرَبا ، تعزفُ في روَعهِ نشيدَ الحَياة