مكامن التأثير والجمال في شعر فائزة القادري / دراسة أسلوبية (1)
ثناء حاج صالح | سوريا . ألمانيا
الشاعرة السورية فائزة القادري من أجمل الأصوات الإبداعية المعاصرة في جوقة الشعر. تشتغل على نصوصها التي تعكس ملامح شخصية شعرية تنبئ بوعي فني وجمالي مرهف ذي خبرة ابتكارية خاصة، تتعامل بها مع اللغة الشعرية، وتطبِّقها عليها .
وتحتكم فائزة إلى ذلك الوعي الجمالي، لتضبط به نتاج لاوعيها وإرهاصاته وتظاهراته، وهي تكتب الشعر.
أهم ما يمكن توصيف شخصيتها الشعرية به ، هو: أنها تربأ بنفسها عن الظهور بمظاهر النمطيّة والتكرار، التي يعلق بها معظم ناظمي الشعر، عندما يعيدون ويكرّرون صياغة ما علق مسبقا في محفوظاتهم، من أنساق شعرية مستهلكة ، سواء على مستوى التراكيب اللغوية، أو على مستوى الأفكار، أوالدلالات، أو الصور الشعرية.
في هذه الدراسة سنقوم بتسليط الضوء على مكامن التأثير والجمال في شعرها العمودي، بالاعتماد على منهج الأسلوبية، وسيلة للتحليل والاستقراء. وذلك عبر محاولة تحليل الخطاب أو(البنى اللغوية) بيانياً، وبلاغياً ،ودلالياً في بعض نصوصها.
أولا: تقنية المفارقة
في مطلع قصيدتها (شمس المطالع ) مثلا، تقول فائزة :
أرِدُ المطالعَ أستميح ضلوعي
فلربما لم ألتفت لرجوعي
وتلفت نظر القارئ المفارقة الرائعة في هذا البيت، إذ أن الشاعرة تؤدي مع نفسها دور المراقب الخارجي ، وتراها هنا ترتب نفسها شعريا في مرحلتين زمنيتين متعاقبتين : أولاهما مرحلة ممارسة فعل الرجوع، والأخرى مرحلة ممارسة فعل الاستماحة من الضلوع، أو طلب العذر لنفسها من نفسها. وسبب طلب العذر أنها تشكّك في أمر الرجوع الذي يُحتمَل أنها مارسته. وهنا يكمن جوهر المفارقة، التي تصيغها عبر التشكيك بما لا ينبغي التشكيك فيه؛ لأن من يمارس الرجوع حركيا يمارسه بإرادته ووعيه، فكيف يمكنها أن تشكّك بكونها التفتت لرجوعها، أو لم تلتف له ؟
تحليل تقنية المفارقة هذه يفضي بنا إلى ضرورة تلمس آفاق الانزياح الدلالي في كلمة (الرجوع)، والذي سيفضي إلى ممارسة الرجوع بمعنى النكوص والتقهقر النفسي، والذي يمكن للشاعرة أن تكون قد ارتكبته دون قصد أو دون وعي. لأنه في الحقيقة ألطف وأخفى من أن يثير انتباهها عند حدوثه .
وإذا شكَّت بنفسها مجرد شك أنها قد ارتكبت ذلك الرجوع، كان عليها أن تستميح ضلوعها العذر لفعلها هذا؛ ما يعني أنه ثمة قرار مسبق اتخذته الشاعرة، وعاهدت نفسه عليه، في أن لا ترتكب الرجوع .
أرى صياغة هذه المفارقة التي اختزلتها عبارة الاعتذار ( فلربما لم أنتبه لرجوعي ) بما عبرت عنه من صراع نفسي مديد، ورقابة ذاتية عنيفة ، أراها صياغة دقيقة وعميقة ومكثفة جداً في الوقت نفسه؛ لأن العبارة حوَّلت كل ذلك إلى بارقة شعرية مجازية، التقطتها الشاعرة وقدمتها في بيتها ابتكارا جميلا غير مسبوق شعريا.
كذلك نقرأ في قصيدتها (قربان ) قولها :
يريدون مني أن أكون قطيفةَ
حريرٌ كلامي والحنان سفائن
أنا غيمةٌ ظمأى وبحرٌ بقلبها
شتاء يبكّيها وصيفٌ يهادن
وتقوم المفارقة هنا على التناقض بين الصفة والموصوف، بين المتوَقَع أو المأمول من جهة والواقع الحقيقي من جهة.
فالطبيعة المراد من الشاعرة أن تمثلها تختلف عن ماهيتها الأصلية وعن طبيعتها الحقيقية ، وكأنها تقول لنا بعبارة أخرى: ( فاقد الشيء لا يعطيه ). هم يطالبونها بتمثيل النعومة القصوى، التي يعبر عنها البيت الأول، من خلال تراكيب ذات ألفاظ تنتمي لحقول النعومة والارتياح ( قطيفة / حرير كلامي / الحنان سفائني) :
يريدون مني أن أكون قطيفةَ
حريرٌ كلامي والحنان سفائن
وكي تكون الشاعرة قطيفة، والحرير كلامها (كما هو مطلوب من كل أنثى ) لا بد أن يخلو محتوى كلامها ومقتضاه مما يجرح أو يخدش أو يؤلم أو يزعج، وكي يكون حنانها سفائن مبحرة ، لا بد أن يكون ثمة بحر من الارتياح العاطفي، ليحمل هذه السفائن، وليقوم بإيصالها إلى حيث جهاتها المرغوبة دون معيقات.
فهل طبيعتها الواقعية متطابقة مع ما هو يراد منها أو لها ؟ تقول :
أنا غيمةٌ ظمأى وبحرٌ بقلبها
شتاء يبكّيها وصيفٌ يهادن
غيمة وظمأى في آن واحد؟ !
هذا أمر غريب؛ لأن الغيمة هي مصدر الماء، وسبب الارتواء، فكيف تكون ظمأى ؟
كان ذلك جوابها ردّا على ما هو مطلوب منها.
هي غيمة تحمل البحر بقلبها، لأنها قد تكون نشأت أصلا من البحر. فما هو مطلوب منها تمثيله كبحر ليس بالأمر المستحيل نظريا ( كما قد يتصور القارئ) بل هو أمر ممكن وقابل للتحقق. ولكنها في الوقت ذاته غير قادرة على تحقيق ذلك الممكن وتحويله إلى واقع؛ لأنها في الحقيقة ذات طبيعة متحوِلة، وغير مستمرة ، وهي غير قادرة على تمثيل نمط واحد من الانفعالات. فكيف يمكنها أن تكون دائمة النعومة كنسيج القطيفة ؟
الشاعرة تتعرض لتأثيرات عوامل طقسية خارجية، مع تغير الفصول والأحوال، فالشتاء يبكِّيها لأنه فصل باكٍ، والصيف يهادنها ويعطيها فرصة للهدوء والتريث لأنه فصل ساكن مهادن يخلو من التقلبات . وهذه الانفعالات التي تتغير مع الفصول المتناقضة تغيِر مزاج الشاعرة الخاص وتؤثر فيه ، وتمنعها من أن تكون نسيجا حريريا على الدوام، كما هي دلالة لفظة (قطيفة) ، فيتضح أن تمثيل طبيعة النسيج الثابتة أمر غير وارد، مع تناقضات الشاعرة النفسية، التي اختزلتها جملة ( غيمة ظمأى)؛ لأنها يجب أن تروي سواها وهي نفسها ظمأى.
ومرة أخرى نجد في صياغة هذه المفارقة، التي عرضت مشهدا تمثيليا، انطلق من داخل الذات الشاعرة، إلى خارجها الأوسع، في علاقتها الانفعالية التبادلية مع الوسط المحيط بها ( تأثيرات مجتمعية ) . وعكسَ تفاعلات وانفعالات أنثوية وإنسانية عميقة جدا، وليس من السهل تأطيرها ، وليست مما هو مطروق من أفكار الشعراء عادة ، عبر حوار ذاتي اتكأ على التشبيهات، والكنايات بأنواعها المختلفة، ليرسم صورة بيانية مشهدية عريضة، وتزخر بالتفاصيل المعنوية وإن كانت قليلة الألفاظ . وهي براعة تُحسَب للشاعرة ولتجربتها الابتكارية ولا شك .
يتبع إن شاء الله