أسرة آل مدَّاد وعطاؤها العلمي والأدبي

 شيخة الفجرية | كاتبة من سلطنة عُمان
في جميع الأدبيات الاجتماعية، تمثّل الأسرة العلمية نواة التاريخ والعلم والأدب وطيّبِ الخصال، لأنها تعمل على تمثيل المجتمع بما هو عليه من قيم ومبادئ ومرتكزات. والأسر التي تحوز على جميع الصفات القيادية علمًا وأخلاقًا، هي من تتولى الصدَّارة في المجتمعات، كذلك تحوز على أبرز المهن المتصلة بالعلمِ والقيادة، مثل القضاء وتقلّد الوزارة والسلطة الحاكمة في أحيانٍ كثيرة؛ وهو ما يحدث في عُمان منذ أسرة آل الجلندى التي برعت في مجال الحرب والسياسة والحكم في الجاهلية.

   ثم أتت من بعدهم أسر عديدة أسست الدول العمانية المتعاقبة، بما هي عليه من علمٍ؛ مثل: أسرة النباهنة، واليعاربة؛ والبوسعيد؛ و”أسرة موسى بن علي، وبنو مدّاد، وآل مفرّج، وآل الرحيل”. وإذا كان العلم إفاضة إلهية، فالعلماء منحة ربانية، وتجلَّى ذلك المفهوم في قوله صلى الله عليه وسلم: ” إن العلماء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر”.
ومعنى الأسرة العلمية: هي الأسرة التي يُوهَب أو يُرزَق كل أو بعض أفرادها علمًا واحدًا أو عدة علوم يبحثون فيها بما توفر لديهم من أدوات علمية ويستنبطون منها ما ينفع الناس. ويروى عن الإمام أحمد أنه قال:” إنما العلم مواهب يؤتيه الله من أحب من خلقه وليس يناله أحد بالحسب ولو كان لعلة الحسب لكان أولى به أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
وعُرِفَ العلم عن أهلِ عُمان، فقد كانوا يبسطونه في أسواقهم ومدارسهم في الجاهلية وصدر الإسلام، شعرًا ونثرًا، لينهل منه الشعراء والعلماء والأدباء والفقهاء، ويؤمها العطشى للعلم وكان منهم أبو سعيد السيرافي، ويغادرها الملأى به، وكان منهم الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ لينشره في بقاع الدنيا.
وقد أحصى الشيخ سيف بن حمود بن حامد البطاشي، المتوفى عام 1420ه ـ 1999م، في كتابه: ” إتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء عُمان” موسوعة تراجم أعلام عُمان، التي شرع المؤلف في تصنيفها قبل سنة1410هـ، الموافق 1990م، إلى سنة1418ه الموافق 1998م، فأخرج منها ثلاثة أجزاء؛ أُصدرت كالآتي:
ـ الجزء الأول في عام 1992م (علماء القرن الأول حتى أواخر القرن الثامن الهجري).
ـ الجزء الثاني في عام 1994م (علماء القرنين التاسع والعاشر الهجريين، وعلماء آخرين عددهم 37 عالمًا لم ترد في المصادر أخباراً وافيه عنهم).
ـ الجزء الثالث في عام 2001م (علماء منتصف القرن الثالث عشر الهجري، وعددهم 241).
كان هذا الإحصاء للعلماءِ أفرادًا وأسر، ومن هذه الأسر العلمية في نزوى أسرة المشايخ آل مدَّاد وهم من قبيلة النعب، فقد أفرد عنواناً مستقلاً سمَّاه “المشائخ من آل مداد”، ثم كتب عنهم الآتي في افتتاحية الباب: “لقد تسلسل من هذا البيت، ابتداء من أول القرن الثامن الهجري إلى آخر القرن الثاني عشر الهجري، علماءُ كثيرون، شُهروا بالعلم والمعرفة، فكان منهم: الفقهاء، والقضاة، والأطباء”.

    ويواصل الشيخ المؤرخ الفقيه سيف بن حمود البطاشي في إتحاف الأعيان قوله:” لا يكاد يخلو منهم زمن إلا ومنهم علماء أجلّة، يتصدّرون في الفتوى، ويتقلّدون مناصب للقضاء، حتى أنّ بعضًا منهم يُنْعَتُ بالفيلسوف لمعرفته بالطبِّ وعلم الأسرار، مما يدل على أن لهم دوراً كبيراً في الأمور الدينية والسياسية”.

     وقد استعان الأئمة اليعاربة بهم في إدارة القضاء والأحكام في نزوى، جاء ذلك في رسالة “قيد الأرض” الإمام سيف بن سلطان الثاني (حكم بين عامي 1711-1718)، التي وجهها إلى الشيخ العلاَّمة الصبحي، يطلب منه فيها بإقامة الشيخ سليمان بن ناصر بن محمد بن مدَّاد النزوي حاكما في نزوى. فقال: “بسم الله الرحمن الرحيم من إمام المسلمين سيف بن سلطان بن سيف اليعربي للشيخ المحبّ الثقة الوليّ الفقيه الورع الزاهد قدوة المذهب الإباضي الرضيّ الوالد العزيز سعيد بن بشير بن محمد الصبحي، نحن بخير وأنت كذلك إن شاء الله، وبعد شيخنا إنا تدبّرنا وأطلنا الفكر، فيمن نجعله حاكما ببلدكم نزوى، فرأينا سيّدنا ومولانا إمام المسلمين ناصر بن مرشد ومن بعده من أئمّة المسلمين من أجدادنا وآبائنا اختصّوا من رأوه أهلا للحكم من المشايخ بني مدّاد، فاقتدينا بهؤلاء الأئمّة المذكورين فرأينا إقامة الشيخ المحبّ سليمان بن ناصر بن محمد بن مدّاد المدّادي النزوي حاكما بنزوى “.

 وكانت بعض الأسماء العلمية في هذه الأسرة ذات عطاء غزير؛ وهم كالآتي:
 ـ الشيخ فضالة بن سند أو فضالة بن مدَّاد بن سند الناعبي (له أجوبة في بيان الشرع)، ولكن يقال: إن هذه الأجوبة من زيادات النساخ، فالشيخ فضالة من فقهاء القرن الثامن الهجري والشيخ صاحب بيان الشرع من فقهاء القرن الخامس الهجري.
ـ العلَّامة مدَّاد بن فضالة (له فتاوى في الأثر).
ـ العلَّامة محمد بن مدَّاد بن محمد (له ديوان شعري طبعته مكتبة محمد بن أحمد البوسعيدي وذكر الشيخ المؤرخ البطاشي شيئا من قصائده في كتابه إتحاف الأعيان الجزء الثاني).
ـ العلَّامة محمد بن عبدالله بن مدَّاد بن محمد بن مدَّاد بن فضالة (ألَّف رسالة في مفردات اللغة، وله كتاب اللآل في أبنية الأفعال في الصرف، يقول في مقدمته: بعد الحمد والثناء” أمَّا بعد… فإن الذي ألهم العقول النورانية وحدانيته، ألهمني أن أؤلف مختصرًا شافيًا في أبنية الأفعال الثلاثية، مشتملًا على الحركات الثلاث، الضم والفتح والكسر”، وله أراء فقهية تفرد بها وله أجوبة كثيرة في منهاج العدل وكتاب الايجاز للسيجاني).
ـ العلامة أحمد بن مدَّاد بن عبدالله بن مدَّاد بن محمد بن مدَّاد بن فضالة “وله كتاب خزانة الأجواد -لا يزال مخطوطا-، وله سيرة نقد فيها الإمام محمد بن إسماعيل المعقود له سنة 906 من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وعاب عليه أحداثا، خلع الإمام بركات بن محمد بن إسماعيل، وعقد الإمامة لعمر بن القاسم الفضيلي سنة 964 هجرية. ثم اعتزل الفضيلي عن منصب الإمامة، فنصب الشيخ أحمد بن مدَّاد الإمام عبدالله بن محمد القرن المنحي سنة 967 هجرية. ثم إن الإمام القرن عزل نفسه فقام الشيخ أحمد بن مدَّاد بنصب عامر بن راشد بن محمد بن سعيد إماماً ثالثًا في 976هجرية”.
ـ العلامة قاضي القضاة محمد بن عمر بن أحمد بن مدَّاد بن عبدالله بن مدَّاد بن محمد بن مدَّاد بن فضالة (قاضي الإمام ناصر بن مرشد في نزوى/ له فتاوى كثيرة في التبيان للشيخ درويش بن جمعه المحروقي).
ـ العلامة سليمان بن محمد بن مدَّاد بن أحمد بن مدَّاد العقري (كان قاضيا للإمام سلطان بن سيف بن مالك على نزوى/ له جوابات في الأثر).
ـ الوالي عبدالله بن محمد بن بشير بن مدَّاد الناعبي النزوي والي نزوى والقائم على عقد الإمامة لمحمد بن ناصر الغافري (ألَّف رسالة في علم التجويد، والرسالة مطبوعة بتحقيق الشيخ سلطان الشيباني).
وعليه، فقد أقام النادي الثقافي ندوة أسرة آل مدَّاد وعطاؤها العلمي والأدبي، وكانت الندوة بين افتراضية وقائمة في مبنى النادي الثقافي في مسقط، أدارت الدكتورة بدرية بنت محمد النبهاني جلسة هذه الندوة الأولى، بينما كانت إدارة الجلسة الثانية للدكتور ناصر بن سيف السعدي، وكان المتحدث في المحور الأول، وهو التعريف بنسب آل مدَّاد؛ الأستاذ سند بن حمد المحرزي.
والمحور الثاني كان بعنوان: الظروف الاجتماعية والسياسية التي نشأت فيها أسرة آل مدَّاد، تحدَّث فيه الدكتور سلطان بن خميس الناعبي؛ قائلًا:” جمعت أسرة آل مدَّاد الكثير من الصفات الحميدة والخصال الزاكية، وهي مثال للأسر العلمية الممتدة في التاريخ العماني لقرون عديدة، وكان لها جهوداً كبيرة في نصرة الحق وخدمة المجتمع، وإصلاح الفرد والجماعة؛ وتركت بصمة ظاهرة منذ نشأتها.
ويأتي هذا البحث ليكشف اللثام عن جانب مهم من حياة هذه الأسرة المباركة، ويبين دورها الريادي في المجتمع”، ويواصل قائلًا: “ونستنتج من النطاق الزماني الذي وجدت فيه هذه الأسرة، أنها أدركت ثلاث دول عمانية هي، النبهانية واليعربية والبوسعيدية، حيث عاصر علماءُ آل مدَّاد دولة النباهنة ودولة اليعاربة، وامتد وجودهم إلى الدولة  البوسعيدية، والمستقرئ  لتاريخ أسرة آل مداد يجد أنها ارتبطت أكثر ما يكون بدولة اليعاربة، فكانت لأئمة الدولة اليعربية اليد اليمنى، والظهير القوي، والسند المتين، فكان منهم القضاة، والولاة، والعلماء، والأطباء، والمفتين، والمستشارين، وأهل الحل والعقد، وقد قاموا بدور ريادي كبير، واضطلعوا بواجبهم الديني في نصرة الحق وأهله”.
وأمَّا المحور الثالث فقد جاء بعنوان: امتداد وجود الأسرة المدَّادية ودورها الإصلاحي ونتاجها العلمي تصدى له الشيخ سعيد بن ناصر الناعبي، الذي قال: إنَّ ” أسرة آل مدَّاد أسرة ذات مجد شامخ وقدم راسخ في العلم والورع والعمل، وكان لها الأثر الكبير في الدور الإصلاحي والسياسي والاجتماعي. كان أول ظهورهم في أواخر القرن السابع الهجري وامتد عطاؤهم العلمي والإصلاحي إلى القرن الثاني عشر الهجري، فأولهم جدهم الشيخ فضالة بن مدَّاد الناعبي، له فتاوى في كتب الاثر”، و” وكان بعض علماء هذه الأسرة يلقب بالطبيب ومنهم من لقب بالفيلسوف ومنهم بقاضي القضاة، وقد استمر عطاء هذه الأسرة المباركة ممدودا إلى منتصف القرن الثاني عشر الهجري”. والمحور الرابع كان عنوانه: الأسرة المدَّادية ودورها في العقد والحل والقضاء؛ والمتحدث فيه الشيخ الدكتور عبدالله بن راشد السيابي. أمَّا المحور الخامس بعنوان: الأسرة المدادية ودورها الأدبي، (الشيخ محمد بن مداد الناعبي أنموذجا) للدكتور هلال بن محمود البريدي.
وقد أشارت هذه الندوة عبر متحدثيها عن وجود بعض المخطوطات التي لم تحقق بعد لعلماء هذه الأسرة العريقة، لذا وجب على الجهات المختصة بأن يتم تحقيقها وطبعها في كتبٍ توزع على المكتبات العمانية وغير العمانية. ففي هذه المآثر مساهمة واقعية لامست الحياة وأمدتها بالدفق، في التعليم والقضاء والفقه وبقية العلوم، ومنها الشعر، الذي هو علم العرب كما قال سيدنا الفاروق عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى