استشهاد شيرين أبو عاقلة حياة لقضيَّةٍ خالدة

محمد أسامة | الولايات المتحدة الأمريكية

هناك أشخاصٌ يموتون، وعن هذه الدنيا يرحلون، نودِّعهم وداعًا محزنًا لمغادر عنَّا بغير رجعة، وراحلٍ انصرف عنَّا بلا عودة، يموتون بأجسادهم ولكن تبقى أرواحهم حية شاهدة، ويسطِّرون على صفحات التاريخ فكرة خالدة، يموتون ولكن يتركون في نفوس غيرهم من الأحياء أثرًا عظيما، وعملا خالدًا، يسطِّره التاريخ ولا يغادر الذاكرة، ويستقر في وجدان الناس وقلوبهم، وتبقى أعمالهم شاهدة لهم، ويظل نضالهم وأثرهم الحسن يرافقنا وإن غادرونا، فالكاتب يرحل ويترك مؤلفاته بعده تؤدي عنه رسالته، والعالِم يموت ويترك علمه ينتفع به غيره، والحاكم العادل يموت ويترك دولةً مستقرَّةً شاع فيها العدل، وعمَّها الأمن، والمُدرِّس يرحل بعدما يخلِّف أجيالًا تتلمذت على يديه.
ها قد استشهدت شيرين أبو عاقلة، وقد غادرت الدنيا برصاصة غدرٍ فاجرة، وبفعل أيد آثمة، قدفت بها إلى دار الحق فغادرت دنيانا، ورحلت عن عالمنا، تاركة قلبًا يتفجَّع على فراقها، وروحًا تتألم من وداعها، فبكى من عرفها وتعامل معها، ووقر الحزن في قلب لم يعرفها ولكنَّه شهد عملها عن بعد، وتتبع تقاريرها عن كثب.
لم تكن شيرين مناضلة في صفوف المجاهدين، ولم تكن من ضمن هؤلاء المقاتلين، الذين يدافعون عن وطنهم، ويجاهدون من أجل الذود عن بلادهم، فلم ترفع سلاحًا، ولم تقاتل عدوًّا، ولكنها اختارت أن تقف عن قرب من موقع الحدث، فتنقل أخبار المجاهدين، وتسجل جرائم الصهاينة المجرمين، فتصوِّر جرائمهم، وتنقل أفعالهم، وتفضح آثامهم، فتظهر الحقيقة التي قد تكون غائبة عن العيون، وتستيقظ الهمم التي تكون غافيةً بين الصدور، فتعلو الهمَّة، وتلوح النخوة، ويتذكَّر الناس اسم “فلسطين” وهذا في حد ذاته جهادٌ عظيم في سبيل الله، ونضال جليل من أجل الأمة، فالوقوف على الحياد كثيرًا ما يكون نافعًا في أجل قضيَّتنا، ومساندًا في سبيل رسالتنا، إذا كان حيادًا إيجابيًّا لأنه يتيح لصاحبه نظرة أكثر دقة، وتأمُّلًا أعظم نفعًا، فتنكشف الحقيقة، وتُفتضح الجريمة، ويتميَّز الحق من الباطل، ويظهر الواقع أمام العالم. فلا يقلِّل أحد من عمل شيرين ونضالها، إذ أن مجرَّد وقوفها هذا الموقف يُغيظ العدو، ويغضب المحتل، لأنه يكشف عن جرائمه، ويظهر خبث نواياه، ويرفع الستار عن باطله، لهذا فإن العدو المغتصب يكره من يقف على الحياد، ويأبى إبقاءه على هذه الحال، فكان موقفها هذا موقفًا يُغيظ الكفار، لهذا أطلقوا عليها رصاصة قضت على حياتها، وأزاحتها عن موقعها، حتى يتخلصوا ممَّا كانت تسبِّبه لهم من ازعاج، وما كانت توقعهم فيه من إحراج، وما من مجاهد يطأ موطئًا يغيظ الكفار إلا كتب له به حسنة، وعُدَّ له عند الله أجرًا.
من منَّا لم تستقر شيرين في وجدانه، وتستوطن بعضًا من أعماقه، فقد كانت قضية فلسطين دومًا قلب الأمة النابض، وعقلها الحي، وشغلها الشاغل، وجنَّتها التي يحاصرها الجحيم، وصباح حلمها الذي يتهدده الظلام، وشروق أملٍ لا ينتهي إلى غروب. منذ كنَّا أطفالا ونحن نشاهد تقاريرها، ونستمع إلى حوارها، وتراقب مواقفها وتغطياتها، وهي تنقل لنا جو الاشتباكات والمعارك، وتختلط بالأرواح التي تتأرجح بين الصعود والهبوط، وتتردَّد بين الموت والحياة، ونحن دومًا نردِّدُ اسم قضية فلسطين كونها قضية وطنية وقومية ودينية. وستظل قضية فلسطين وإن تغافل عنها البعض ممن انعدمت نخوته، وتهتَّك إيمانه، ونسى عروبته، قضية كل مؤمن، ورسالة كل عربي، والجرح الغائر الذي تئنُّ منه الأمة، ولا ينتهي حتى ينقشع الوهم وتنجلي الغُمَّة.
أبت شيرين أن تغادر الدنيا، وتذوق طعم الموت، إلا بعد أن تروي بدمها الطاهر أرضًا سقيمة معبَّأةً بأدران المحتل وجرائمه، وتئن جزعًا من أفعاله وآثامه، ماتت لتترك لنا مثلًا نفتخر به، ودرسًا نتعلَّم منه، ماتت لتبقى رسالتها حيَّة ينهل من منبعها كل من كان في قلبه مثقال ذرة من نخوة، ومن كان في وجدانه بصيصٌ من الضمير، وأنَّا لرصاصة غدر وان اخترقت جسدها أن تمحو ذكرها يومًا من أذهاننا، أو أن تنهي رسالتها التي عاشت من أجلها، وتُطفئ تلك الشمعة المضيئة التي كانت تعبِّر عن آلام الأمَّة بإخلاص، وتتحدَّث عن أوجاعها وأحلامها بعقيدة وإيمان. فالأجساد تفنى ولكن الفكرة لا تموت.
إنَّ رسالة الحق دائمًا لابد أن يُدفع ثمنها، ويُبذل الغالي من أجلها (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ ۗ أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ) فلا يقل أحد منا لماذا يُقتل من يمضي على الحق، ولماذا دائمًا ينتصر الباطل، فلنعلم أن الحق لا ينتصر إلا بعد أن يُبذل في سبيله الغالي، ويضحَّى من أجله بالثمين، ولا تأتي المنحة إلا بعد استغلاظ المحنة، مثلما لا يطلع الصبح حتى يظلم الليل، كذلك الفرج لا يأتي إلا بعد أن يُستحكم الضيق. والحكمة من هذا حتى إذا حلَّت لحظة النصر، وتحقق الموعود والأجر، سيدرك حينها المناضل قيمة النصر الذي حققه، والفوز الذي أحرزه، فهو لن يقدِّر ظفره، ولن يذوق مذاق نصره، إلا بعد أن يكون بذل من أجله الغالي، وبذل في سبيله النفيس، فيدرك أهمية نصره بقدر ما بذل فيه، وتلك هي العبرة من موت شيرين، إذ كان لابدَّ أن تدفع حياتها ثمنًا لنضالها، ومقابلًا لإيصال رسالتها، حتى يتعلَّم غيرها الدرس ويأخذ العبرة، وتستيقظ في عروقه النخوة، وسيعقبها آخر ثم آخر ثم آخر، حتى يأتي من يتعلَّم من نضالهم، فيقدِّر أرواحهم، و يمضي على خطاهم، ويتم ما بدؤوه من رسالتهم، فيتحقق بعد ذلك النصر، وينبلج الصبح بعد بذل الصبر.
إنه ليس من خلائقنا الحديث عن آخرة شيرين، وكيف سيحاسبها ربها، وأين سيكون جزاؤها ومستقر روحها، فتلك أمور بيد الله وقد أفضت روحها إلى بارئها، وجزاؤها بيد خالقها، فلا يليق بنا إلا إن نكرِّم الروح التي كرَّمها ربُّها، ونُعظِّمَ ذكرها ونخلِّدَها، ولنحمل بعدها اللواء التي حملته، فنتم جهادها، ونواصل عنها نضالها، ونتخذ من موتها عبرةً ومثلًا، وحكمةً وموعظةً، ونجعل من موتها حياة لقضيَّةٍ خالدة في أذهاننا، باقية في عقولنا، فكان علينا أن نذكرها دومًا، ولا ننسى لخظة موتها أبدًا، ونكتب اسمها على شوارعها وميادينها، تخليدًا لذكرها ونضالها، حتى لا ينساها التاريخ، أو تطوي صفحتها الأيام.