مخاطر التطبيع الثقافي العربي الإسرائيلي
محمد عبد السلام منصور| كاتب يمني
علينا منذ البداية أن نجري نظرة تحليلية لدلالة كل مفردة من مفردات “التطبيع الثقافي العربي الإسرائيلي” التي تضمنها عنوان هذه الورقة، ثم نُعيد النظر في الدلالات ذاتها، مركبة في هذه الجملة التي تبدو ذات مقصد إنساني بريئ ينشد إحلال السلام، بين العرب ودولة إسرائيل؛ حينئذ ستبين لنا طبيعة السياقات الذاتية والموضوعية التي تريد إسرائيل، بالتطبيع الثقافي، إحداثها، أولا في واقع ضمير الأمة العربية الجمعي، وتاليا على المستويات السياسية والإجتماعية والاقتصادية، ولتحقيق هذا الهدف، سوف نلقي نظرة سريعة على معني التطبيع والمكونات الجوهرية لأطرافه وسنمر بهذه النظرة السريعة على المفردات التالية:
ـ التطبيع
ـ طرفي التطبيع
ـ الهوية الثقافية لكل طرف
ـ الثقافة المستهدفة
– مقاصد استهدافها.
إننا بتتبع معاني ومكونات هذه المفردات سنجد أنفسنا أمام حقائق تاريخية تكشف لنا كيف تمت تلك التغييرات الجيو سياسية والديموغرافية التي خططت لها الحركة الصهيونية بإتقان، وسعت إلى إحداثها بدأب، هروبا من كراهية، ومضايقات المجتمعات الإوروبية لليهود، واستغلالا لضعف الرجل المريض ـ الدولة العثمانية ـ أواخر القرن التاسع عشر، حين بدأ زعماء الحركة الصهيونية بخطوات ممنهجة لإحداث تلك التغييرات، على أرض فلسطين العربية، وسوف تتكشف لنا تباعا من هي القوى التي هيأت لها إمكانية احتلال الأرض، ثم تلك التي شاركتها في متابعة مسيرتها الاستيطانية، بثبات إجرامي في عمليات الدفع بهجرات اليهود، من جنسيات شعوب مختلفة، إلى أرض الشعب العربي الفلسطيني، لينتظموا في عصابات صهيونية مزودة بالمال والسلاح، متقنة التدريب، على إرهاب ومضايقة المجتمع الفلسطيني، فأوغلت في أرضهم الفساد تقتيلا وتهجيرا لأصحاب الأرض، كي تحتلها موجات اليهود الآتية من كل آفاق الأرض، المتدفقة على أرض العرب الفلسطينيين؛ حتى هيأ لها الاستعمار الغربي بقيادة أمريكا عام١٩٤٨ أقامة دولة إسرائيل، على الأرض العربية المغتصبة، بقوة سلاح المستعمرين ودعمهم، وموافقة صنائعه من الحكام العرب.
التطبيع
إن الحديث عن موضوع التطبيع يقتضينا البدء بتحديد معرفة دلالته اللغوية أولا ثم نحاول، من خلال سياقاته في الواقع السياسي العربي الراهن، تلمس دلالته الإصطلاحية المناسبة.
أما المعاني اللغوي لـلجذر الثلاثي لكلمة “طَبَعَ” فمتعددة، أهمها معنيان:
أولهما الدال على لوازم طبع الإنسان الخَلْقِي التي لا تفارق كينونة وجوده، وتشتمل على مكونات ووظائف الإنسان الجسدية، وقدراته العقلية، التي تميز بها عن سائر الحيوانات. أما المعنى الثاني الذي تريد الورقة نقاشه، فهو الدال على لوازم طبع الإنسان الخُلُقِي الذي اكتسبه، من بىئته المجتمعيه، عبر مراحل تنشئته الاجتماعية، التربوية، والفكرية، وتشتمل على ثقافته المادية والروحية وقيمه المكونة لرؤيته الإنسانية، وسلوكه العملي والروحي في العالم من حوله، والــ“ـتطبيع” بصيغة الــ”ـتَّفعيل. لا يتصور وروده إلا في إطار المعنى الثاني الدال على لوازم طبع الإنسان “الخُلُقي” الذي سبق بيان اشتماله على مكونات ثقافته وحضارته المادية منها والروحية، وفي حيز هذا المعنى سيكون المقصود به: إما تفعيل طابع الإنسان الثقافي، المادي منه والروحي، وإما محو طابعه الثقافي الأصيل، وإكسابه طابعا ثقافيا مغايرا للطابع الذي اكتسبه من بيئة مجتمعه الإنساني عبر التاريخ، لتصير رؤيته تعبيرا عن ثقافة غيره، ومواقفه السلوكية تجسيدا لمصالح الغير الذي تتطبع بطبعه.
هذه الدلالة اللغوية المجردة، عن الإطار الذي ورد فيه الــ”التطبيع” جاءت؛ لتهيئ لنا إكتشاف المعنى الإصطلاحي، المقصود من التطبيع، في إطار السياقات السياسية لواقعنا العربي الراهن، وبصيغته الجديدة التالية:
التطبيع الثقافي مع إسرائيل” علينا هنا تحديدا الالتفات إلى ملاحظتين؛
أولاهما أن هذه الصيغة المتكاملة هي الصيغة التي تم تحديثها أخيرا، لتكون هي البديل لصيغة “التطبيع السياسي مع العدو الإسرائيل”، الذي تم بين النظامين السياسيين للدولتين المصرية والأردنية، بعد أن قاوم المجتمعان العربيان في مصر والأردن هذا التطبيع السياسي، بدعم من جماهير الشعب العربي المحصنة بثقافة وجوب المقاومة، واسترداد الأرض الفلسطينية، الأمر الذي أفشل الهدف الذي أراد قادة إسرائيل وحلفاؤهم الوصول إليه، وهو أن يكون التطبيع السياسي مع الأنظمة العربية الحاكمة، جسرا لعبور التطبيع الاقتصادي، الاجتماعي؛ بكونهما، في حساباتهم، حاضنة التنشئة الصامته لتطبيع ثقافي يطغى فيه الأقوى.
الملاحظة الثانية أن الصيغة الجديدة تعمدت حذف كلمة العدو الإسرائيلي، التي تضمنتها الصيغة الأولى، وكانت تتردد على كل الألسنة العربية كما أدخلت كلمة التطبيع الثقافي، فجاءت صيغة التطبيع الجديدة، مبرأة من كلمة العدو، مع أن تطبيع العلاقات لايتم عادة إلا أثناء عداوة قائمة، لكنها، أقصد الصيغة الجديدة جاءت تستهدف الثقافة وهنا لابد أن نجد أنفسنا أمام أهم الإسئلة حول هذا التطبيع بعينه، ويقتضي بالضرورة الإجابة عليه إستنادا إلى مجريات الواقع، ومنطق العقل، هذا السؤال هو أي الثقافتين العربية أم الإسرائيلية؟ هي المستهدِفة (بكسر الدال)، وأيهما المستهدَفة (بفتح الدال)، في هذا التطبيع الثقافي الذي تروِّج له أجهزة الإعلام الإسرائيلية، الاستعمارية وحلفائهما.
لا أريد أن أفاجئ القارئ بإجابة هذا السؤال البديهية بل سأتركه يحددها بنفسه بعد أن نجري مقارنة سريعة بين طرفي التطبيع والهوية الثقافية لكل منهما.
أولا: الشعب العربي، لا أظن أنَّا بحاجة إلى تبيين البين، فهو هذا الشعب الذي عاش منذ بداية التاريخ ومازال يعيش حتى الآن في هذه الأرض المعروفة لكل سكان الأرض باسم الوطن العربي ذي الجغرافية الممتدة بين قارتي أسيا وأفريقيا، وارَّث حضارات متنوعة حامل رسالة الإسلام إلى الناس كافة، كُتِبت عن تاريخه القديم والوسيط والحديث آلاف الكتب بكل اللغات العالمية، كانت هذه الحضارات المتنوعة ينابيع هويته الثقافية وقيمه الأخلاقية، التي أتى الإسلام ليتمم مكارمها، وأنتج للإنسانية الحضارة الإسلامية بفنونها المتعددة وثقافاتها المتنوعة، إن هذا الثراء الحضاري، الثقافي، الجغرافي، والقيم الأخلاقية الراقية في إنسانيتها، بقدر ما أثْرَت الإنسانية كلها، أثارت من حوله الأطماع، وكانت الصراعات السياسية بين حكامه هي الثغرة التي نفذ منها الطامعون، لينتزعوا السلطة السياسية من حكامه المتناحرين، فأذلوا علماءه ومفكريه وقاداته، ثم أحالوه شعبا فقيرا جاهلا، كان آخر هؤلاء الطامعين الدول الغربية التي سطت على كثير من أراضيه، أثناء الدولة العثمانية، ولم تكتف باستعماره، وتكريس تخلفه بل قسمت أراضيه بين حكام اختارتهم من بين المتنافسين على سلطة الحكم، ثم أقامت على جزء من شاطئه الشمالي في أرض العرب الفلسطينيين دولة إسرائيل.
ثانيا: دولة إسرائيل: سبق أن رأينا كيف خططت قيادة الحركة الصهيونية للحصول على وطن قومي لليهود وسعت بخطى ممنهجة كان أولها عام١٨٨٧ لدى السلطان العثماني عبد الحميد، الذي أصدر فرمانا بتشكيل متصرفية في القدس التي حوّلت إلى كيان إداري مستقل عن ولاية سوريا يرتبط حكامها مباشرة بالسلطان، وكانت نسبة اليهود إلى ذلك التاريخ ما بين ٢ إلى ٣ ٪ بالرغم أن هجرة اليهود إلى فلسطين قد بدأت عام ١٨٦٩ حينما صدر فرمان الإمتيازات التي منحت للأجانب في الإمبراطورية العثمانية.
تزايدت الهجرات اليهودية إلى الأراضي العثمانية وبخاصة إلى فلسطين بسبب العداء الأوربي المتصاعد ضدهم، حتى ١٩١٧ حين صدر وعد بلفور البريطاني، الذي كثرت الكتابة عنه، وعن الدعم البريطاني الأمريكي الكامل، للمهاجرين الإسرائيليين إلى فلسطين، تسليحا وتدريبا وتنظيما، فترة الإنتداب البريطاني التي استمرت من ١٩٢٢ إلى ١٩٤٧ حتى مكّنوهم من إقامة دولة إسرائيل، واستمرت رعاية ودعم الدول الغربية لهذه الدولة المصطنعة على أرض فلسطين العربية، حتى صارت هي الدولة النووية الوحيدة الأقوى، عسكريا واقتصاديا وتكنلوجيا، من كل الدول العربية، بما مكّنها من توسع احتلالها للأراضي العربية الفلسطينية والمصرية والسورية والأردنية وفرضها واقعا أقوى من أن تستطيع هذه الدول مجتمعة تحرير أراضيها المغتصبة لديها، وحين حشدت هذه الدول كل إمكانياتها، وبدعم من الدول العربية، من أجل معركة تحرير أراضيها في أكتور ١٩٧٣، كادت هذه الدول أن تحرر أراضيها بعد عبور القوات المصرية قناة السويس، غير أن القوات الأمريكية سارعت إلى دعم إسرائيل دعما عسكريا مباشرا، فضلا عن دعمها السياسي ودعم الدول الغربية دائمة العضوية في مجلس الأمن، واستخدامها حق النقض لكل القرارات الصادرة منه ضد إسرائيل. استمر دعم إسرائيل السياسي والإقتصادي والعسكري الغربي والأمريكي، من قبْل وأثناء وبعد مفواضات السلام حتى صارت إسرائيل، هي أكثر الولايات الأمريكية المحظية برعاية حكومتها الفيدرالية واهتمامها، وصارت في نظر حكام العرب المنهزم، هي الأسطورة المعاصرة التي لا تقبل الهزيمة، بما جعل النظام المصري والأردني يوافقان ـ تحت الضغط الأمريكي وحلفائه من الحكام العرب ـ على الاعتراف بدولة إسرائيل وتوقيع اتفاقية السلام معها، والبدئ في خطوات التطبيع السياسيي، الذي أفشلته كما رأينا الجماهير العربية، فتدافع حلفاء أمريكا من الحكام العرب ليعلنوا أولااعترافهم بإسرائيل الذي ظل متخفيا، وثانيا الانظمام إلى أمريكا في الدعوة إلى ضرورة التطبيع الثقافي العربي معها.
مخاطر التطبيع:
إن شعوب الأمم العظيمة صانعة الحضارات والثقافات الإنسانية الخالدة، حينما تتعرض عبر مسيرتها التاريخية للاعتداءات الظالمة، تحتمي بهويتها الحضارية والثقافية وتجعلها المترس الأخير الذي تقاوم منه هجمات أعدائها الذين يسعون إلى هزيمتها والإستيلاء على مقدراتها. تحتمي بهويتها، حتى تتمكن من صنع أسباب النهوض مجددا واستئناف أدوارها في مسيرة تطور الحضارة والثقافة الإنسانيتين، الداعيتين إلى قيم العدل والكرامة؛ فتكون الشعوب بهذا الاحتماء الاستراتيجي هي أذكى من الأنظمة السياسية الآنية ذات الذكاء التكتيكي الذي يتركها تلوذ بقوة الأعداء لحمايتها من غضبات الشعوب الرافضة للهزيمة والاستعباد. تقاوم الشعوب من مترسها الأخير فتبقى حتى تنهض وتستعيد حقوقها، وتمّحي الأنظمة السياسية الرخوة، بيد صناعها.
وهاهو شعبنا العربي مايزال محتميا يقاوم الأعداء مستندا إلى مترسه الأخير هويته الحضارية والثقافية الإنسانيتين التي سبق أن أشرنا إلى مكوناتهما إشارة موجزة، وسجلت وقائع التاريخ إنسانيتهما الداعية إلى مبدأي العدالة والكرامة لكل البشرية، بما فيهم أصحاب الديانة اليهودية الذين عانوا أشد أنواع الاضدهاد من جميع الشعوب الأوربية، فتماهوا معهم منطويين على هوية ثقافة عنصرية تدّعي أفضليتهم على غيرهم من البشر نّمت لديهم هذه العنصرية، كراهية الآخرين، وشراهة استعبادهم، وسفك دمائهم، عنصرية كتبت عليهم الذلة والمسكنة للقوي، ودفعتهم إلى خدمته استقواء به، على تحقيق مدّعياتهم الباطلة.
لهذا نستطيع القول: إن الدعوات الملحة للتطبيع الثقافي مع العدو الإسرائيلي ـ في هذا الظرف التاريخي منعدم التكافؤ ـ مابين الشعب العربي والعنصرية الإسرائيلية المدعومة من القوى الإستعمارية الغربية، تهدف إلى محو الهوية الحضارية الثقافية العربية، التي تتضمن واجب المقاومة واسترداد حقوق الشعب العربي الفلسطيني كاملة، كما تهدف إلى فرض استسلامنا لعنصريتهم، وتنازلنا عن حقوق الشعب الفلسطيني التي أقرها المجتمع الإنساني ومنظماته الدولية المتعددة.
إن هويتنا العربية بما تتضمنه من حضارة وثقافة إنسانية، وواجب مقاومة العدو واسترداد الحقوق المغتصبة، هي مترسنا الأخير في مقاومتنا لهذا الواقع الزمني الظالم، استعدادا لتجاوزه واستعادة حقوقنا المشروعة.
وهنا نتساءل هل ثمت أخطر وأبلغ من هذا الخطر؟ وهو يستهدف محو هويتنا الثقافة الحاملة لمكونات إسهاماتنا في الحضارة والثقافة الإنسانيتين، فضلا عن كونها حاضنة لكل عناصر إصرارنا على تغيير واقعنا، من أجل صنع مستقبلنا المتكافئ مع مسيرة الحضارة الإنسانية المعاصرة؟