أدب

الرَّايَة

 عزة أبو العز | القاهرة
ما إنْ عبَرَت البَوَّابة الحديديةَ للوصُول إلى نقطة (رَفَح) الحدودية حتى رأتها عالية، ترفرف في زَهْوٍ رائعٍ، على بُعْدِ أمْتَارٍ من الكيان الصهيوني البغيض.
كان الهواء حولها عليلًا، والسماء صافية، تراها في زُرْقَةِ بحر العريش الساحر، والجنود والضباط يحرسونها بحبٍّ ويقَظَةٍ تَامَّة، إنها (الراية) رمز العزة والحرية والفخار.
كانت الفتاة إحدى الصحفيات اللاتي رافقْنَ وفْدَ مجْلس الشورى المصري، الذي زار محافظة شمال سيناء للاحتفال بذكرى نصر أكتوبر المجيد.
غمرت السَّعَادةُ وجُوهَ الجميعِ لعِلْمِهم بمَدَى التّضْحيّات الكبيرة التي بذلها الجنود البواسل(حُرَّاس الوطن والدّين) في حرب العزّة والفخَار، أما هي فقد كادت تطِيرُ فَرَحًا؛ لأنّها تَسِيرُ على نفْسِ الأرضِ الطَّاهِرة التِي ارتوَتْ بدِمَاءِ الشّهَدَاءِ الزّكِيّة.
وفجْأةً شعرَتْ بمَنْ يمسك يدها اليمنى بقوة، قالت له: “مَنْ أنْتَ؟!”
فسمعت صوتًا جهوريًا ترَدَّدَ صَداهُ في فضَاء المكان:
“أنا محمد أفندي العباسي، أنا مَنْ دافَعْتُ – وزملائي- عن هذه الأرض المباركة منذ حرب الاستنزاف حتى أشرقَتْ علينا لحْظَةُ العُبُورِ الفَارِقَةِ، وجلَبَتْ لنَا النصر العظيم…”.
قاطعته الصحفية الشابة: “نعم نعم، واسمك كان – ولا يزال- محفورًا في ذاكرتي منذ صِغَرِي، أنتَ مَنْ قُمْتَ برَفْعِ الرّايَةِ الأعَز والأغلى في ملحمة العبور المجيدة (أكتوبر73)، ولكن كيف أتيْتَ إلَى هنا؟!”
ابتسمَ…: “تمَّتْ دعْوتي من رُوحِ شُهَدَاء الأرض التِي تسيرين عليها”.
هنا… انتبهت ليَدِ طفلةٍ صغيرةٍ تسْعَى للإمْسَاكِ بِيَدِهَا اليُسْرَى، تَعجّبَتْ… وقالت لها: “مَنْ أنْتِ؟!”
قفزت الطفلة من على الأرض فرحًا وابتهاجًا:
“أنَا هي تلك الطفلة الصّغِيرة، التلميذة بمدرسة النَّصر الابتدائية المُشتَرَكَة في قريتِكِ الطَّيِّبة، أنَا هي مَنْ كانت تشَرَئِب برأسِها عاليةً، وتهتفُ من قلبها صباح كل يوم وهي ناظرة للراية في فناءِ مدرستِنا الكَبِير، ونحن نلتفُّ في صفوف منتظمة حول الساري العالي المُنْتَصِبُ وسطَ الفِنَاءِ الْجَميل… أَلاَ تذَكُرِينَنِي؟!
أنا هي تلك التي لم تفترق عنك أبدًا، وكنت أقرأ في إذَاعتِنا المدرسيّة علَى مسامِع زملائي قصة هذا البطل الهمام ورفاقه الكرام، وَاصِفَةً قصص بسالتهم في ملحمة عبورنا العظيم، ألا تتذكَّرِينَ إذاعتَنا المدرسية، وأناشيدنا الوطنية، وحديثنا عن محمد أفندي رافع العلم… أيتها الصحفية التي كان عملها–الآني- حلمي منذ زمن الطفولة السحري”.
تعجَّبت وقالت لها: “ومَنْ دعاكِ؟”
ابتسمت الطفلة وقالت: “دَعَتْنِي روحُ طفولتِكِ الْقَابِعَةُ بيْنَ الضُّلُوعِ”.
قالت الصحفية الشابة: “ما أسعدني! الرّمْز في يَمِينِي، والذكْرَى في يساري، والراية المنتصرة أمامي…”
هنا خاطبتها روح محمد أفندي: “انظري بُنَيّتِي في الأفُقِ البَعيدِ وشاهدي مَنْ على يمين رايتنا، ومَنْ على يسَارِها”.
فتساءلت: “مَنْ أيها البطل الجسور؟”
قال: “كأني أرى على يمين رايتِنا الرايةَ التي كان يرفعُها سيدنا جعفر بن أبي طالب في (مُؤْتَة) ولم يفرّط فيها حتى نالَ الشهادة، وعلى يسَارِها الرايةَ التي كان يرفعُها سيدنا علي بن أبى طالب في (خَيْبَر)”.
قالت الفتاة: “ما أسعدَكَ بطلنا الجَسُور! سيظل اسمك بصحبة راية النصر مقرونًا”.
وقالت الطفلة: “وبفضلك كنتُ أفُوقُ زَميلاتي بالحديث عنك، وعن كُثر مثلك في معركة العبور (أكتوبر73)”.
انتبَهَت الصّحَفيّة الشّابّة على صوت ينادِي عليْها لتنْضَمَّ للوفْدِ لالتقاط صورة تذكارية، وقفت الفتاة شامخةً راسخةَ القدميْن على أغلى بُقْعَة من أرضِها المصْرية، ترفرف فوقها راية الوطن، وشعرت أنها تلوِّح بحنين كبيرٍ لروحِ تلميذةِ مدرسة النصر الابتدائية، ولرُوح محمد أفندي رافع العلم، ابن محافظة الشرقية، وقبلهما فكرت وصلَّت وسلَّمت بالقلب والروح معًا على صاحب راية العُقاب، معلم الإنسانية العظيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى