تجليات التجربة الصوفية في “أزهار تقلدني في السقوط” لـ”علَّية الإدريسي”

حميد عقبي | اليمن

 استفهمات وأهازيج تنحت في دهاليز الحلم

ظلال ومطر ونوافذ وأبواب، نوارس وعصافير وفراشات، سموات تنثر النجوم وأراضي تحتضن الأحزان، مع ذلك يظل الحلم قاربا للأمل ينجيه من صخب أجنحة العواصف وركض الأمواج التي قد تفقد سيقانها في زمن الحروب والأوبئة، عالم الشاعرة اللمغربية علية الادريسي البوزيدي الذي تصوره وترسمه في قصائدها يطل بنا على ضفة الدهشة وهي تغرينا بالحلم لنركض إليه حفاة عراة من كل شوائبنا، تسكب في قصيدة تكتبها هواجسها الداخلية واستفهمات وأسئلة مربكة وشائكة تأتي من عمق امرأة أو بالأصح طفلة تترعرع في غابات السحر وتقطف لنا ملذات بلاغية خالية من المبالغات والصناعة لآنها خلقا إبداعيا، تصبح القصيدة نورسا بسبعة أجنحة أو براقا يمطرنا بعطر الشعر.

في ديوانها الأخير “أزهار تقلدني في السقوط” منشورات دار التوحيدي، 2018، سنتوقف على بعض المشاهد المشحونة بسينمائية ولمسات تجريدية، تستدعي فيه شاعرتنا الأماكن والشخوص والأزمنة وهي أيضا علية الحاضرة تحمل بيدها اليمنى فرشاة وفي اليسرى أزميرا لينحت ويرسم ما لا يمكن أن يُرسم أو يُنحت، فالحلم ليس له ثيابا والألوان شهية وثمة هواجس وإستدعاء للامرئي. في قصيدتها (ظلال تخصني) تقول :ــ

ظلال تخصني

(…)لَيْسَ غَرِيبَا

اللَّقْلَق الَّذِي رَأَيْتَهُ

فِي مَحَطَّة الْقِطَار وَحِيدًا

يُشْبِه أَيَّامِي الَّتِي بَعْثَرْتهَا

مُذْ كَانَ قَلْبِي مِظَلَّة

عَلَيهَا يَمُر سَاعِي الْبَريدِ

وَلَا رِسَالَة …..خَلْفَ الْبَاب .

السَّرِير الَّذِي فِي أقْصَى الْغُرْفَةِ

أَدِين لَهُ بِقَيْلُولَة

غَيْرَ أَنّي كَالْعادَةِ أَنْسَى أخْذَ صُوَر

لَا تَثِقُ بِأحَد

أَحْتَاجُ مَعْزُوفَة

يَسْمَعُهَا صَدِيقِي التِّمْثَال

صَدِيقي الَّذِي يُحَدِّقُ فِي شَامِتِي

وَلَا يَتَوَسَّلُ أَلْوَانِي الَّتِي

تَسْقُطُ

فِي عَيني شَجَرَة .

لِأَصْبَحَ سَاقِيَة

أُرِيدُكَ أَنْ تَنْتَظِرَ فِي الْخَارِجِ

بِربطةِ عنقٍ وَمِعْطَفٍ

قَدْ يَتَكَدَّسَ الْمَاءُ فِي جَنَازَة وردةٍ

غَيْرَ أَنّي لَا أَسْخَر مِنْ كُرَةِ طَفَل

لَا يَسْعُلُ كَقَبْرِهِ الْقَصِيرِ

دَائِمَا

عَلَى الْجِدارِ الْبَارِدِ

رغمَ اللَّوْنِ الْأحْمَر

يَجْلِسُ بِرَأْسٍ مُسْتَدِير

هَذَا الْمَوْت الَّذِي

لَيْسَ باستطاعتي أُن أَقتلَه . (…).

نتلمس أن شيئا ما غير قابل للتصريح به يكون كبداية وخاتمة للقصيدة، تقوسه الشاعره كأنها لقطة تحتفظ بها الشاعرة لنفسها أو ضجيجا صاخبا يفوق ضوئه وسعيره ما تعجز عن قذفه براكين الوجع بقاع الجحيم، تصفه أنه لَيْسَ غَرِيبَا، يظهر اللَّقْلَق بالشاشة هي وحدها من يراه “فِي مَحَطَّة الْقِطَار وَحِيدًا”، سرعان ما نجد تفاعلات مفجعة ما بين الخارجي والداخلي، المادي والشعور الداخلي، كما يوجد تشابهات خاصة حيث تختار الادريسي أنواعا من الطيور لها دلالات تجنح إلى الأسطوري والميتافيزيقي لها نكهة شعرية خالدة قادرة على جعل خيالنا الطفولي يرقص بعفوية وقد يتمادى أبعد من ذلك، ثم سرعان ما تفصح الشاعرة عن انتظاراتها وخصوصيات خاصة جدا حيث تبوح بها بلكنة طفولية، ثم نحن مع المرأة التي لها القدرة بأن لا ترتمي ضعيفة بحضن الرغبة، تثق في صديقها التمثال وهنا مرواغات بلاغية وسرعان ما تنعطف الأحداث لترسم جَنَازَة وردةٍ/ كُرَةِ طَفَل/ لا يَسْعُلُ كَقَبْرِهِ الْقَصِيرِ، بديناميكية درامية نصل لنهاية يظهر فيها الموت :ـ

عَلَى الْجِدارِ الْبَارِدِ

رغمَ اللَّوْنِ الْأحْمَر

يَجْلِسُ بِرَأْسٍ مُسْتَدِير

هَذَا الْمَوْت الَّذِي

لَيْسَ باستطاعتي أُن أَقتلَه . (…)

دهشة شعرية تضع المخفي والغير مرئي على مسرح الظاهر، تخلق لها شكلا وهيئة ولونا ورائحة وتفصح عن رغبتها وعجزها، القصيدة ككل يصعب تشريج جزئياتها فهي تموجات بلورية لا يمكن أن نفصل الضجيج عن الأضواء والألوان ورائحة التدمير، هي تشاهد من شرفتها وكذلك تركض في الأماكن.

تحتوي داوين علية الأدريسي على قصائد قصيرة جدا، تمتلك قوة الإختزال والحدف ويظل التأثير قوية، قد تكون همسة في لحظة رغبة أو صرخة في موقف الرفض، شاعرتنا أنثى تنتصر لأنوثتها ولا يهزمها الضعف، قادرة أن تقول لا بصوت ضخم ويبدو أنها تستقرى الواقع بما يحمله من خيبات وعنف ضد النساء وضد الجمال الإنساني، تبتعد عن الحشو وتراهات المعاني، تعتمد في خلق قصائدها على الدهشة في تجليات داخلية وتصريحات روحية.

محاولة

(…) بِطَرِيقَةِ مَا

سَأَدق هَذَا الْبَاب

أُقْنِعَهُ أَلاً يَفْتَح … (…)

هذا النموذج من ديوانها الذي نحاول أن نغوص فيه بتأملات سريعة، نجد هنا بحثا وسؤالا أيضا، المرأة ذكية وقادرة ومع ذلك فقد تقلق وتحزن وتنكسر بسبب مناخات الواقع وما يحمله من أعاصير مخيفة، نحن هنا مع رغبة تتجسد في فعل، الباب هنا أكبر من رمز للمجهول أو للواقع، هنا ميتافور له هيبته وحضوره وملمسه ويمكن أن تدق عليه الشاعرة لكنه أيضا هو الحاجز أو المنفذ بين عالمين رغبة وخوف، لذة وتشظي، يقين وشك، فرح وحزن، تريده ألا يفتح، رغبة داخلية تعاند لحظات الضعف، مشهدية تربكنا وتزج بنا إلى إستفهامات وتحافظ شاعرتنا في بداية ونهاية القصيدة تخفي كلمة أو بالأدق صورة ما مما يدعونا للانتباه لهذه المؤامرة الخطرة.

لدى شاعرتنا قناعة يقنية أن الشعر ليس صناعة ولا وظيفة وهو أقرب من اللهو الطفولي، ضربا من جنون امرأة تنتصر لذاتها، تعرف الموت وتحاوره بل تشاكسه وتزيل أقنعته المزيفة تمتلك الشجاعة لولوج إلى دهاليز اللذة تقتطف تفاحتها وتمتطي معاريج الخيال، تهذي لتكشف القبح الخارجي والزيف الذي يكبر بظل ثقافة هشة تصفق لكل ما سخيف وساذج.

نختم تأملاتنا مع قصيدة في نهاية ديوانها نسكتشف ما يشبه الهدير الجارف ورغبة بالبكاء والقهقة لتنحت وجها وروحا أنثويا لا يقبل الهزيمة.

لن أخون عاصفة

(…) بِطَرِيقَةٍ مُحْرَجَة

أَنظر إِلَى الْمَوْت

مند أَنْ حَلَّ الْعِيد

لا أُرِيدُ أَنْ أَبْتَسِم

أَنَا لَسْتُ تُفَّاحَة

سَألَتهم يَدي الَّتِي تَفَكر

فِي الْكِتَابَة إلْيك

لَوْلا الْجِدار لَكنت تَأَمَّلت وَجْهي الَّذِي

فِي وَجْهكَ

قُلْتُ لَكَ

لَسْتُ جَائِعَة

كَيْ أَغير اِسْمي

يُمْكِنُنِي الانعطاف يَسَارًا

كَنَهْر لا يَصب

فَالْحزن يَسْتَعِدُّ مُنْذُ فترة

. لِمُهَاجمَتِي

الْهَوَاء لَيْسَ مَيتا

لِينْقذَنِي مِنْ فَشلي

لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِيدي

لَكنت صَدقت الْبَرد الْقَارِس

ثَمَّة جُثَّة

لَمْ تَفْقِدْنِي أَيُّهَا الْمَوْت

وَجَدت طَرِيقًا

لا يَمْشِي

كَوَقْتٍ قصير(…)

تنفي شاعرتنا وترفض أن تكون مجرد لذة له (أَنَا لَسْتُ تُفَّاحَة)، أو حتى أسطورة تقدسه، هو قاصر وأقل خيالا بينما هي منبع الأحلام وملهمة ربات الشعر والسحر وآلهة الجمال والعشق.

قُلْتُ لَكَ

لَسْتُ جَائِعَة

تنأى بنفسها عن الجوع والشهوة لمجرد أن تكون متعة، تحمل مواصفات روحية تصفع كل ما هو مادي، عذبة وصريحة، ثورة داخلية تشتعل لتصهر كل النواقص، تمتاز علية بوزيدي ببراعة لشخصنة شخصيتها، تشخص لنا في كل قصيدة امرأة من نوع مختلف، تمتلك سمات درامية وهنالك أفعال تحدث وصراعات مما يجعل القصيدة توحي بحكاية لكنها ليست نثرا ولا حكاية فهي أقرب للوحة تشكيلية ذات تعرجات تجريدية يمكنها أن تلهم الفنان التشكيلي أو السينمائي لما تتدفق به من جماليات تستحق القراءة من منظورات متعددة وتستحق إبداعات علية الادريسي التوقف معها نقديا وأكاديميا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى