النص الغائب من خلال ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب لـمحمد بنيس
د. الغزيوي بوعلي | فاس المغرب
إن النص الشعري بنية لغوية متميزة، لا يعني أن هذا النص ينسج تميزه من خلال تركيبه الداخلي، منفصلا في ذلك عن كل علاقة الخارجية بالنصوص الأخرى، وإنما القصد من هذا التحديد هو اعتبار النص كشبكة تلتقي فيها عدة نصوص لذا استطاع الشاعر أن يجعل منها كنزه الشعري وذاكرته الشعرية، وهي نصوص لا تقف عند حد النص الشعري بالضرورة، لأنها حصيلة نصوص يصعب تحديدها، إذ يختلط فيها الحديث من بالقديم والعلمي بالأدبي واليومي بالخاص، مما يجعل القراءة نصا شعريا بعيدة كل البعد عن النظرة الأحادية التي تتعامل معه بوعي ساذج لا يقدر على الكشف عن خبايا النص، كعامل متكامل، ومتاهة لا نهائية، ترقد تحت صمته الوهمي علاقات وقوانين ونصوص يصعب معها ادعاء القبض عليها كاملة في المرحلة الراهنة من البحث العلمي والتطور التقني على الأقل(1).
إن النص الشعري هو مجموعة من النصوص، أو كما تقول “جوليا كريستيفا”: “كل النص هو امتصاص أو تحويل لوفرة من النصوص الأخرى”O.Ducrot, T.Todorov, Dictionnaire encgclopédique des sciences du langage ,sseuil,paris,1972.P446
والنص حسب هذا المعيار النقدي، استمرار وانقطاع في آن معا للنصوص الأخرى ضمن السلسلة الأدبية الخاصة بنوع من الأداء اللغوي.
فالنص، عندما يرتبط بالنصوص أخرى يعتمد قوانين متعددة ومعقدة في تعامله معها كما أن هي الأخرى خاضعة للمستويات من الشروط التي يصعب معها التعيين والتحديد النهائي.
لقد أصبحت القراءة المحدثة، والبنيوية على الخصوص تحذر من السقوط في الأخطاء نفسها التي سقط فيها النقد القديم، وفي هذا الصدد يقول تودوروف “ثمة خطأ فادح يمكن في اعتبار النص المعارض (بكسر الراء) تقابل للتعويض بالنص المعارض (بفتح الراء). فنحن ننسى أن العلاقة بين النصين ليست من النوع التكافؤ البسيط. ولكنها تعرف تحولا كبيرا، خاصة وأن اللعب بالنص الآخر، لا يمكن أن يطمس في جميع الحالات” T. Todoroo, Poétique. P: 43.
وهذه الملاحظة تنبهنا إلى ضرورة إعادة النظر في نظام قراءتنا للنص، سواء أكان قديما، أم حديثا، أو معاصرا، غير أن المعاصر يحفل بقراءة النصوص الأخرى، هي بالتأكيد أكثر تعقيدا مما هو معروف في النص القديم.
وسنستعمل في بحثنا عن نوعية قراءة شعرائنا للنص الغائب في نصوصهم الشعرية كمعايير ثلاثة تتخذ صبغة قوانين، وهي الاجترار، والامتصاص، والحوار، وهذه القوانين هي تحديد لطبيعة الوعي المصاحب لكل قراءة للنص الغائب، لأن تعدد قوانين القراءة هو في أصله انعكاس لمستويات الوعي التي تتحكم في قراءة كل شاعر لنص من النصوص الغائبة. لذا سادا الاجترار في عصور الانحطاط على الأخص، حيث تعامل الشعراء مع النص الغائب بوعي سكوني لا قدرة له على اعتبار النص إبداعا لا نهائيا، فساد بذلك تمجيد بعض المظاهر الشكلية الخارجية في انفصالها عن البنية العامة للنص كحركة وسيرورة، وكانت النتيجة أن أصبح النص الغائب نموذجا جامدا، تضمحل حيويته مع كل إعادة كتابة له بوعي سكوني، لأن مرحلة الإبداع هي عبارة عن امتصاص مرحلة أعلى من قراءة النص الغائب وهو القانون الذي ينطلق أساسا من الإقرار بأهمية هذا النص وقداسته، فيتعامل وإياه كحركة وتحول، لا ينفيان الأصل، بل يساهمان في استمراره كجوهر قابل للتجدد، ومعنى هذا أن الامتصاص لا يجمد النص الغائب ولا ينقذه بأنه يعيد صوغه فقط وفق متطلبات تاريخية، ولم يكن يعيشها في المرحلة التي كتب فيها، وبذلك يستمر النص الغائب غير ممحور ويحيا بدل أن يموت.
أما الحوار فهو أعلى مرحلة من قراءة النص الغائب، إذ يعتمد النقد المؤسس على أرضية عملية صلبة، تحطم مظاهر الاستلاب، مهما كان نوعه وشكله وحجمه. فلا مجال لتقديس كل النصوص الغائبة مع الحوار.
فالشاعر أو الكاتب، لا يتأمل هذا النص، وإنما يغيره، يغير فيه القديم بأسسه اللاهوتية ليجرى في الحديث حول قناعاته التبريرية والمثالية، وبذلك يكون الحوار قراءة نقدية علمية، لا علاقة لها بالنقد كمفهوم عقلاني خالص أو كنزعة فوضوية أو عدمية.
تحديد عام للنص الغائب داخل المتن:
إن الشاعر المغربي المعاصر اتجه بعقله ووجدانه نحو العلوم الإنسانية قديمها وحديثها، مع اعتبار تشعباتها في ميادين التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة، ثم بالفنون غير الأدبية، من تشكيل ومعمار وسينما ورقص ومسرح، بالإضافة إلى العلوم السياسية والاقتصادية والقانونية، بل يصل الأمر في بعض الحالات إلى العلوم الرياضية والتجريبية، ص: 253.
وقد انعكست هذه الاهتمامات في مجتمعة في كتابة النص الشعري، بحيث أصبح من الصعب قراءة نص شعري، دون الاصطدام بهذا العالم الغريب من التركيب الكيميائي لمصادر الثقافة الإنسانية، الخاضع حتما للسلم من إمكانات الاستيعاب والتمثل.
أهم أنواع المحتوى التي انعكست في المتن الشعري المعاصر بالمغرب:
1- المتن الشعري العربي المعاصر:
إن أسبق متن شعري مارس قراءته الشعراء المعاصرين في المغرب هو متن التجربة الشعرية العربية المعاصرة، وبخاصة من خلال روادها الذين قامت هذه التجربة على أكتافهم. وهؤلاء هم بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وأحمد عبد المعطي حجاري، وخليل حاوي، وصلاح عبد الصبور، وأدونيس، ثم فيما بعد شعراء المقاومة الفلسطينية وفي طليعتهم محمود درويش وسميح القاسم. وقد تجلت هذه القراءة في انعكاس جل القوانين القصيدة العربية المعاصرة في المتن الشعري المغربي المعاصر، وهي قوانين الزمان والمكان أولا، ثم قوانين متتاليات المتن ثانيا، وقوانين بلاغة الغموض ثالثا. وقد خضعت هذه القراءة لحتميات معقدة التحديد، إلا أن هناك ظاهرة أساسية، وهي عدم اعتماد كل النصوص المتن الشعري المعاصر بالمغرب على مجموع نصوص المتن الشعري العربي المعاصر.
2- المتن الشعري العربي القديم:
كان خروج الشعر العربي المعاصر على قوانين المتن الشعري العربي القديم يتضمن في الأساس استخلاص العناصر المحركة لهذا المتن وتطويرها وفق تقنيات عصرية فرضها التحول الذي يشهد عالم القرن العشرين على الصعيد الحساسية الشعرية، ثم الواقع الاجتماعي على المستوى العالم العربي، وهذا المفهوم الواعي قاد الشعراء العرب المعاصرين، في الشرق والمغرب معا، إلى قراءة الموروث الشعري بعين متجددة وقلب متفاعل مع وقائع العصر، وإذن تحاول استعاب دينامية التغير في مجال الإيقاع.
وفي طليعة اللذين نقرأ في نصوصهم أصداء المتن القديم نلتقي بالمجاطي، والخمار (الكنوني)، والسرغيني، والطبال، والميموني، أما الآخرون فهم أقل احتكاكا بهذا الموروث وربما أكثر نفورا منه.
3- المتن الشعري الأوروبي:
ولعل الحديث عن قراءة وإعادة كتابة شعرائنا المعاصرين لهذا المتن المحفوف بالمخاطر لأن القنوات التي توصل خلالها الشعراء المغاربة المعاصرون إلى قراءة وإعادة كتابة هذا المتن في نصوصهم الشعرية ربما كانت محدودة من ناحية، وخاضعة للمصادفة لدى بعضهم من ناحية ثانية.
4- المتن الشعري المغربي:
يضم جملة من المتون الجزيئية يرجع بعضها إلى ما قبل الإسلام بالمغرب، وبعضها يلتزم اللهجات المحلية، ويبقى المكتوب باللغة العربية واحدا من بينها ولا نعثر بصفة عامة على أثر لهذه المتون الجزيئية المؤلفة للمتن الشعري المغربي باستثناء قلة من النصوص التي آمنت بطريقة أو بأخرى بضرورة الاستفادة من الشعر الشعبي المكتوب بالعربية الدارجة، وربما أكثر امتزاجا بالشعر الشعبي، وتشمل صبري والجوماري على الخصوص، وفقر تأثير المتن الشعري المغربي المعاصر، له دلالات مهمة تعكس قبل كل شيء، الرغبة التي يحن إلى تحقيقها الشاعر المغربي المعاصر، فهو يطمح لكتابة قصيدة معاصرة بالمفهوم الأوروبي لهذا المصطلح، أكثر مما يهمه تركيب قوانين خاصة بالقصيدة العربية المعاصرة بالمغرب دون إهمال لما يمكن أن يمنحه النص الشعري الأوروبي المعاصر من إمكانات تضيء له طريق تركيب نص شعري متميز.
II– الحضارة العربية:
تلتحم الذاكرة الشعرية بمجمل وجوه الحضارة العربية في المتن الذي ندرسه لغة، وأدبا، وتاريخا، وعلوما، وفلسفة، وفنا. والشاعر المغربي المعاصر مغرم بتوسيع مداركه الحضارية وإعادة كتابتها في نصه الشعري، وقد لا تصادفنا صعوبة في إدراك ملامح الاهتمام الشاعر المغربي المعاصر بمختلف العطاء الحضاري الذي أنتجه العالم العربي، منذ العصر الجاهلي، حتى مرحلة اكتمال تألقه في ميدان الإبداع والابتكار والإضافة داخل الحضارة الإنسانية.
III– وجوه الحضارة المغربية:
إن ما يميز الشعر المغربي المعاصر هو تركيزه على قراءة النص المغربي الموروث، في جميع المجالات الحضارية التي يحبل بها الواقع العام الذي نعيشه، وهذه الخاصية لا يلتقي فيها مع أي متن شعري معاصر آخر في العالم العربي، فهي التي توجد له بعضا من خصوصيته وتمنح خطا من خطوط هويته.
IV– الثقافة الأوروبية:
يتشعب النص الأوروبي في النص الشعري المغربي المعاصر، لأن مقروءات شعراءنا غير محددة بحكم تعددهم، وتنوع اهتماماتهم الثقافية.
وإذا كانت مصادر الثقافة الأوروبية متعددة ومتنوعة، فإن من الصواب القول أن شعراءنا لم يهتموا بالأسطورة اليونانية إلا نادرا، وهي التي شكلت رصيدا ثقافيا خصبا بالنسبة للشعراء المعاصرين بالمشرق العربي، ومن ثم فإن الشعراء المعاصرين بالمغرب لم يستجيبوا لكل المظاهر الفكرية والحضارية التي تفاعل معها الشعراء العرب المعاصرون، وهذه الملاحظة تجنبنا بعض الأخطاء التي يسقط فيها بعض الدارسين الذين يعممون الأحكام دون مراجعة المتن المدروس بدقة وعناية كافيتين.
– تحولات النص الغائب:
نهدف في هذه المرحلة من القراءة إلى التعرض للتحولات الطارئة على النص الغائب بعد إعادة كتابته في المتن الشعري المغربي المعاصر، من خلال بعض النماذج الدالة، وحسب مراتب ثلاث وهي: المجال الشعري، والمجال الثقافي، ثم مجال الكلام اليومي. والأساسي بالنسبة لنا من هذا العمل هو محاولة الكشف عن القوانين التي تتحكم في قراءة الشاعر المغربي المعاصر للنص الغائب.
أ- المجال الشعري:
انكب الشاعر المغربي المعاصر على قراءة وإعادة كتابة المتون الشعرية التي أصبحت متداولة في الحركة الشعرية العربية، قديمها وحديثها، شرقيها وغربيها، ورافق هذا الانكباب المختلف القيمة استيعاب متفاوت وتعامل غير متجانس أيضا.
– الشعر العربي المعاصر:
وهو النص الغائب الأول الذي أدمن الشعراء المعاصرون بالمغرب قراءته وإعادة كتابته، لأن الصلب الذي انحدرت منه هذه الظاهرة الشعرية التي تحاول قراءتها وقد تمت مرحلة القراءة وإعادة الكتابة، لهذا المتن، على عدة مستويات معقدة.
– الشعر العربي القديم:
الشاعر المغربي المعاصر قرأ المتن الشعري العربي القديم بمستويات متعددة، وأعاد كتابته بأساليب تتنوع من حيث الوعي والإدراك، فقد أراد حسن الطريبق غير مرة اللجوء إلى مثل هذا التحليل ليثبت حقيقة باطلة، وهي أن المجاطي لم يفعل غير إعادة ما قاله القدماء.
ب- الثقافة العربية:
تظل الثقافة العربية، بمختلف اهتماماتها حاضرة في المتن الذي جعلنا منه مجالا لبحثنا، تتبعنا لها في مجمل المتن يكون جولة في التراث العربي، لا ينفذ معينه، نظرا لما يحمله هذا المتن من قراءة متشعبة لم يستطيع الشاعر الكلاسيكي الجديد أو الشاعر الرومانسي توفيرها لنفسه وشعره، وهذه الفضيلة ترد على كل المدعين القائلين إن الشعر العربي المعاصر، ومنه المغربي مهمل للتراث ومحتقر له.
– القرآن:
وهو يسيطر على شعرائنا، ويطلع من بين أصابعهم في كل دقة شعرية يمتصونه ويعيدون كتابته، ولكنهم يخافون محاورته. إن القرآن يظل دائما خاصا مقدسا عند الشاعر المغربي المعاصر، يتعلم منه، ويحلم به فهو منتهى البلاغة ومستقبل الكتابة، مهما كان نوعها وتاريخها.
– التاريخ:
نفذ التاريخ العربي، كأحداث وشخصيات وقوى متصارعة، إلى الشعر المغربي المعاصر، فحدثت رجة في هذا التاريخ نفسه، بعدما تمكن الشعراء المغاربة المعاصرون من إعادة كتابة التاريخ العربي، أدبيا وسياسيا واجتماعيا، في نصهم الشعري، ليجعلوا منه قناعا فنيا آنا، ووصلا للماضي بالحاضر والمستقبل آنا آخر.
ج- الكلام اليومي:
يقول د. محمد النويهي في مقدمته لكتابه عن “قضية الشعر الجديد”: (…. محاولين أن نثبت أن الخصائص الأساسية للشعر الجديد، حتى إذا تطورت فبلغت ما نتوقعه من تغيير النظام التقليدي للإيقاع الشعري، ليست إلا استكشاف المقدرات في اللغة لم تستغل، وتنميته لبذور لم تستثمر، وليست إلا عودة بالشعر إلى سر حيويته، وهو الاقتراب من اللغة الكلام التي ينطق بها أبناء الأمة” (محمد النويهي: قضية الشعر الجديد، ص:6).
إن الكلام اليومي يمثل بالنسبة للشعر المعاصر عند العرب جميعا، نصا غائبا، لا تقل أهميته عن المتون الأخرى الذي سبق لنا التعرض لها.
لذا عمل جيل تكسير البنية وتجديد الرؤيا بتوظيف العديد من الأساطير والرموز كقناع من أجل خلق شرعية جديدة، وهذا ما نراه عند شاعرنا محمد بنيس الذي نور الشعر وجعله أرضية التي من خلالها يحاكم العالم، والوجود والقيم، لأن أشعاره المبثوثة في كتبه والمجلات، كالثقافة الجديد، وبعض الملاحق الوطنية جعلتني أعيد الذكريات عندما كنت طالبا باحثا بكلية الآداب بالرباط، وقد كنت أسمعه وهو يطير بنا إلى عوالم عدة، منها الألمانية، والفرنسية والإسبانية، فأحببت فيه هذه المغامرة شأنه شأن الأستاذ المرحوم أحمد المجاطي، وكذا الأستاذ أحمد الطريس أعراب، رغم أنني لا أنتمي إلى شعبة “الشعر” لذا كنت أتصيد لعنات الشعر والفلسفة لأعرف سر هذا الوجود بما هو موجود، ولأكتشف سر السؤال “من أين تأتي المعرفة هل من الممارسة؟ أم من السؤال؟ أم من التلاقح بين المعرفة الإنسانية، هكذا كنت أستحضر دوما باشلار – ورودونسون، وهو من بابا وفوكو ودريدا، وسارتر، وابن سينا، وابن رشد … كل هذا من أجل مواجهة الوجود.
الهوامش:
(1)- ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب (مقاربة بنيوية تكوينية)، محمد بنيس، الطبيعة الثانية، 1985، دار التنوير للطباعة والنشر، ص – ب 6499-113 بيروت، المركز الثقافي العربي، ص، ب 4006، الدار البيضاء.