رحلة إلى الجنوب اللبناني قامت بها: وفاء كمال (27)

 

قاع الدم الأول (27 )

بدا جوني وكأنه لم يسمع ناجيَّة، فقد أجابها وكأنه غير مكترث أو منوم مغناطيسياً:

ـ ونورهان .. ما أخبار نورهان؟ قولي لي يا أم بدر:

تفجَّرَ إحساس ناجية بالتلاشي, بنهاية كل شيء, وشحبت عيناها, من كومة الضمادات التي يغطس بداخلها جسد جوني.

كان الظلام قد جالس كل شيء، الأبنية والبيوت والأشجار وأيقظ الهواجس في أعماقها. ووجدت نفسها تسير باتجاه الباب غير آبهة بجوني  الذي خُيِّل إليها أنه بدأ يبكي، فالسؤال صار يصل إلى أذنيها رطباً ومبلولاً. وحين مدَّتْ يدها وأمسكت المزلاج, فكرتْ أن تلتفت إلى كومة الضمادات التي غرقت بالنزيز والصدى والقيح. تمنت أن تراه ضعيفاً أكثر منها. ولكنها عدلت عن الفكرة، وصفعت الباب خلفها دون أن تلتفت إليه أو إلى صوته المبلول الذي ظل يتابعها في الردهة مستجدياً.

هاهي الآن ممددة, الحذر يستوطن جسدها والتعب يصرخ فيه. لا تدري كيف نزلت الطوابق الثلاثة؟! كيف اجتازت الشوارع المضاءة!؟ . تملكتْها رغبة في رمي ثوبها الخارجي العريض ولفه تحت إبطها. كانت مهيأة في كل لحظة للموت .. ففي كل لحظة كانت تود أن تصرخ… أن تبكي … أن تقذف بنفسها في أعماق التلاشي والموت.

جوني .. نورهان .. حماتها زاهيَّة .. أطفالها ..زوجها الغائب. كل هؤلاء ماتوا بنظرها وسكنها إحساس بالموت. هي ميتة … ميتة… هكذا قالت في نفسها: تعرف تماماً أنهم سيأتون هذه الليلة بالذات, وسيصلون إليها. لن تصرخ.., لن تقاوم .., لن تحتَّج. فهي ميتة, والميت لايحتجّ ولايقاوم ولايصرخ. ربما تطلب منهم الإسراع, بل ربما تساعدهم وتقتل نفسها قبل أن يأتوا هم إليها. لكنها جبانة غير قادرة على اتخاذ مثل ذلك القرار. ولذلك ستنتظرهم. وتقلبت على السرير. تقلبت مراراً, واقتربت من النافذة. كل شيء ساكن ومتوتر. هي وحدها كانت باردة, كانت جامدة, كانت ميتة تنتظر دفنها.

وعادت إلى السرير, ودارت في خاطرها صور عديدة. استحضرت جوني مراراً بصوته المتحشرج .وبصقت, بصقت.. وانشق الجدار أمامها عن نورهان وأختها, فنما في داخلها حقد وغضب.. ودخل عليها زوجها مراراً من الباب.. وتفجرت عينا حماتها من الجدران . كانت تراقبها في كل شيء وتصمت خوفاً أن ينالوا من ابنها حين يعود من السفر.

لم تعرف إن كانت العجوز “زاهية ” تحبها أو تكرهها. لكن العجوز تكرهها بالتأكيد. فأحست أنها تغرق في بحر كبير ولايبدو لها في الأفق منجد.. كانت الحياة تمتد من كل جانب. واستغربت أنها تصرخ, ولم تقاوم.. ورغم معرفتها بالسباحة فهي لم تحاول أن تسبح, بل تركت نفسها تسقط, جسدها يغور في الماء والمياه تغمر رأسها وتسحبها إلى الأعماق. وتناهى إليها صوت أقدام . كانت جزمة مطَّاطية تدعس على الثّلج.. فعرفت أنهم قادمون وظلت في مكانها.. لم تتركه. لم توصد الباب بالمفتاح.. لم تغلق ستارة النافذة.. بل أطفأت الضوء وجلست تنتظر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى