وقفات مع القرآن في رمضان (2)

عبد الله جمعة | شاعر وناقد مصري يقيم في الإسكندرية

الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)[البقرة]

و أنا أعكف هذه الأيام على تأليف كتابي الجديد (مكامن الإبداع) ج٣ “تطبيقات لسانية على نصوص قرآنية و شعرية” و بعد أن جمعتُ ما أحتاجه من أدوات ذلك العلم – علم اللسانيات – تحت يدي سواءً أكان ذلك مادة مرجعية أم رؤية استنباطية و شرعتُ في المرحلة التطبيقية ، و كما اعتدتُ في كل قراءاتي و تحليلاتي للنصوص أن أبحث عن تطبيق لكل تنظير تدور صورته في عقلي حتى أثبت لنفسي أولاً صدق ما أدعيه من تنظير ، فإنني أجمع أمامي النصوص مقلبًا فيها بغية العثور على مركب ما في نص ما يساعدني في التطبيق و بالقطع فإن النص القرآني يكون في الصدارة ، فما خذلني يومًا فكلما دار بعقلي تنظير أفتح القرآن فلا أخرج منه إلا و قد عثرت على مغنمتي …

و ما أسعدني حين أخلو لآية من آيه أهمس إليها فتردُّ عليَّ و يدور بيننا أحاديث و حواريات لا تضنُّ و لا تتمنع فتجيبني عن كل سؤلٍ أهمس لها به ليتأكد لي يومًا بعد يومٍ أن هذا النسج ما هو من إحكام بشر … و أن ذلك التحدي الذي ظل صامدًا لألف و أربعمائة سنة عجز خلالها البشر أن يأتوا بسورة من مثله أو آية أو حتى حرف ” وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23)” [البقرة] .

 

(الم) :

إن مطلع سورة البقرة هذا شغلني و أخذني كلَّ مأخذٍ و أنا أنظر لتلك الحروف المقطعة أولاً و من البداهة قبل أن أتأمل فيها أن أنظر فيما سبق من تآويلَ لها و معظمها يدور في عدة مدارات ؛ فبعضهم ذهبَ إلى أنها سِرُّ الله في القرآن و هي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه و من غير الجائز أن يُتَكَلَّمَ فيه و بعضهم ذهب إلى أنها تُكَوِّنُ اسم الله الأعظم مستندين على رواية لابن عباس و فريق ثالثٌ ذهب بها إلى أنها قَسَمٌ أقسم الله بها لشرفها و فضلها و هي من أسمائه و من البُحَّاث من بحث في اللغة السريانية فأوجد لها من المعاني ما يجعلها ولوجًا لما بعدها ؛ إذ قال إن (الم) إنما هي لفظ سرياني بمعنى “اصمتْ” .

و لأنني اؤمن بأن هذا النص المقدس حَمَّال أوجه يقبل التأويل و يحمل فيه من الأسرار و المكامن ما لا يعد و لا يحصىٰ من المعاني المُتَّكئة على الدليل النقلي و العقلي فأومن بكل تلك التآويل ، فكلام الله لا حدَّ له يحدُّ معناه و لا ضمور في مبناه القابل لاحتمالات لا انقطاع لها …

لقد وقفت على هذه الأحرف الثلاثة من حيث مخارجها محاولا إيجاد علاقة بين تلك المخارج و مدلولها الذي أراد الله أن يوصله لنا لنؤمن أن هذا النص لا يأتيه الباطل من بين يديه …

بعد طول تأمل و تدقيق وجدت تلك الأحرف تأخذني إلى الآتي :

 

الأخذ الأول :

– الهمزة : التي تتمثل في صوت “الألف” (ءَ) ذكرها (الخليل) في كتابه “العين” بأنها تخرج من أقصىٰ الحلق و هي مهتوية مضغوطة و أما إذا رُفِّهَ عنها فإنها تلينُ و تصير ياءً أو واوًا أو ألفًا.

– اللام : ذلقة مبدؤها من ذلق اللسان فهي ذلقية تخرج من ذلق اللسان من طرف غار الفم .

و يشير (الليث) في موضع أنها انحرفت عن ظهر اللسان و أن اللسان لا ينطق إلا بالراء و اللام و النون

و هناك رواية أخرى لليث في (التذكرة) يقول : “و الحيز الآخر حيز اللام فيه ثلاثة أحرف الراء و اللام و النون مخارجها من مدرجة واحدة من أسلة اللسان و بين مقدم الغار الأعلى” .

– الميم : أورد (الخليل) في “العين” أن الميم جاءت في الحيز الأخير و هي شفوية أو شفهية لأن مبدأها من الشفة . و في “التذكرة” يقول (الأخفش) نقلا عن الخليل “ثم الباء و الميم و الواو من الشفتين” . أ.هـ

 

الأخذُ الثاني

لم أكتفِ بهذا و ذهبت للأصوات اللغوية عند (إبراهيم أنيس) فأخبرني بأن حركة الوترين الصوتيين ينتج عنهما الصفتان التاليتان :

(١) النطق مع وجود ذبذبة في الوترين الصوتيين فيولِّدُ صفة الجهر و الأصوات العربية التي تتصف بهذه الصفة هي (ب – م – ج – د – ذ – ر – ز – ض – ظ – ع – غ – ل – ن – و – ي)

(٢) النطق مع عدم وجود ذبذبة في الوترين الصوتيين و يولِّدُ صفة الهمس و الأصوات المهموسة (ف – ث – س – ص – ت – ط – ش – ك – خ – ق – ح – هـ – الهمزة)

و برغم أن عدد كل من الأصوات المجهورة و المهموسة يكاد يساوي الآخر ، فإن نسبة ورود كل منهما في الكلام ليست كذلك ؛ لأن الكثرة الغالبة من الأصوات اللغوية في كل كلام مجهورة على حين أن الأصوات المهموسة لا يكاد يزيد شيوعُها في الكلام على عشرين أو خمس و عشرين في المائة … (إبراهيم أنيس – الأصوات اللغوية ص٢١) . أ.هـ

 

بعد هذا البحث عدتُ إلى الأحرف الثلاثة أتأملها و أسألها ؛ أيُّ سِرٍّ فيكِ ستعطينيه يا كلام الله …

و الله ثم و الله ما هالني إلا أن وجدتها تفغر لي فاهًا قائلة انظر للمكان الذي أخرج منه ستجد سؤلك ؛ الهمزة تخرج من الحلق أول جهاز النطق من الداخل و اللام من الغار أوسط جهاز النطق و الميم من الشفتين آخر جهاز النطق من الخارج ..

لقد أخبرتني أن الله ينبئ بها بأن ذلك الكتاب لا ريب فيه ؛ لأنه يأتي من كل أعضاء النطق لا يستثني عضوًا فمنطوقه صحيح قويم لا انحراف فيه و لا اعوجاج و كنتُ في بحثٍ لي سابق قد كشفتُ سِرًّا من أسرارِ “إنَّا سَنُلْقِي عليكَ قولاً ثَقِيلاً” حيث اكتشفتُ أن القرآن قد نزل على اللسان العربي ؛ لأنه أقومُ الألسن و الأوحد القادر على استخدام كل عضلات النطق في لغته… أتريد تلك الأحرف أن تخبرني أن انتفاء الريب في ذلك القرآن أحد أسبابه أنه يتقلب على كل أعضاء و عضلات جهاز النطق أولها و أوسطها و آخرها ؟ .. سبحانك اللهم .

ثم عدت أنظر إليها مرة أخرى بعد استطلاع ما ذكره إبراهيم أنيس فوجدتُ ما يؤكد ما كشفته لي تلك الأحرف المُعْجِزَة ؛ إن الهمزة مهموسة و ذبذبتها ٩١١٩ و اللام و الميم مجهورتان و ذبذبة اللام ٣٨١٩١ و الميم ٢٦٧٣٥ وفقًا لمعيار تلاوة القرآن الكريم و كأن الأحرف الثلاثة ترسم لي منحنىً صوتيًّا يبدأ من أسفل لأعلى ثم الهبوط التدريجي مرة أخرى …

أتريد تلك الأحرف أن تنبئني أن ذلك الكتاب عند تلاوته يتنوع صوته من أدنى الذبذبات حتى يبلغ أقصاها ثم يهبط مرة أخرى و كأنه يعلن أنه قادرٌ على التلوين الصوتي بكل تنويعاته ؟

عدت أستمع إلى تلاوة القرآن عن قُرَّائه ؛ الطبلاوي و محمد رفعت و المنشاوي و الحصري و عبد الباسط و مصطفى إسماعيل و أعدت تلاوة كل واحد من هؤلاء لتلك الأحرف الثلاثة وجدتهم جميعاً ينتقلون في التلاوة من نطق الألف و اللام و الميم من أدنىٰ إلى قمة الهرم الصوتي عند اللام ثم الانحدار إلى الميم بنفس مستويات الصوت برغمٍ من اختلاف أدائهم جميعاً …

الآن بدأت أذوق طعم تلك الأحرف حقًّا لا مجازًا على لساني لأنني بدأتُ أرددها جيئةً و ذهابًا كلما غدوت هنا و هناك محاولا إسماع نفسي صوتها العذب المُقَشْعِر .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى