اللَّوحة (قصة قصيرة)

د . إياس الخطيب | سوريا 

كانَ يوماً معتدلاً لطيفاً, ترسمُ الشَّمسُ أخيلةَ المارِّين في شارعٍ بلاطُهُ حجارةٌ قديمة, أشخاصٌ يرتدونَ شورتاتٍ قصيرة, وقبَّعاتٍ من القش, يحملونَ كاميراتٍ في أيديهم, وجوههم بيضاء, شعرُهم ذهبي, عيونُهُم ملوَّنة, يضحكون.. وليسَ منَ الصَّعبِ في النِّهاية إدراكُ أنَّهُم سُـيَّاح, أخذوا يلتقطونَ صُوراً تذكاريَّة بالقربِ من معلَمٍ أثري.. كثيرونَ هُمُ المارُّون في الشَّارع, برفقةِ أسرابٍ مِنَ الحمامِ تُظلِّلُ ساحاتِ المدينةِ المُحيطة.. هذا ما لحظَهُ عبَّاس وهوَ يجولُ ويصولُ في ذلكَ الشَّارع..

تابعَ عبَّاسُ المسير, وعيونُهُ تلحظُ كُلَّ ذلك, لحينِ ما وقَعَتْ على رجُلٍ بدا في السِّتينِ من عمره, أو أكثر قليلاً, يجلسُ على كُرسيٍّ خشبيٍّ عتيق, تتوسَّطُ القبَّعةُ رأسَهُ, تنسابُ بعضُ قطراتِ العرق على جبينه, يفرشُ أقلامَهُ وألوانَهُ أمامَهُ, آخذاً بالرَّسْم برفقةِ لوحاتِهِ التي قامَ بتعليقِها على سُّورٍ إسمنتي, اقتربَ عبَّاس منه, نظرَ إليه نظرةَ إعجابٍ قائلاً: هل لَكَ أن ترسمَني؟

الرَّجل: ولمَ لا..  هذهِ هيَ مهنتي أصلاً.. 400 ليرة.. نصف ساعة, وينتهي كُلُّ شيء.. إذا وافقت, فلنبدأ..

عبَّاس: سأعطيك 250 ليرة, لا تقل بخيل, فلدي من المال الكثير, لكن أعتقدُ أنَّ هذا المبلغ يفي بالغرضِ تماماً, لا أحبُّ أن أستغَل من أحد, والطَّامعونَ بي كُثر, اتفقنا أم..؟

الرَّجل: ولكن..

قاطعَهُ عبَّاس: وهل ستلتقي كُلَّ يومٍ بشابٍ وسيمٍ مثلي, المكسب معك صدِّقني.. 

الرَّجل: لا بأس.. اتفقنا.. اجلس أمامي على ذلكَ الكُرسي (وأشارَ بإصبعه إلى الكرسي) وحاولْ ألا تتحرَّك حتَّى أتِمَّ عملي..

جلسَ عبَّاس قبالتَهُ, بينما أمسكَ الرَّجلُ السِّتيني بريشتِه وبدأ الرَّسم, مرَّتِ الدَّقائقُ, وكُلٌّ منهما على وضعيَّتِه, الرَّسام يجولُ بألوانِه على قطعةِ القماشِ البيضاءِ, والرَّجل يجلسُ ساكناً, يحاولُ الحفاظَ على هدوئِه, لحينِ ما مزَّقَ هذا الهدوء صوتُ عبَّاس: وهل ستطولُ الحكايةُ يا صديقي؟

الرَّجل: شارفْتُ على الانتهاء, اصبرْ قليلاً, ولا تتحرَّك..

لم يطُلِ الوقت, عندما أفصحَ الرَّجل بعدَ تنهيدةٍ طويلة: لقد انتهيت..

نهضَ عبَّاس عن الكُرسي بلهفة, أمسكَ الصُّورة, تأمَّلهَا قليلاً, قبلَ أن تتغيَّرَ ملامِحُ وجهِه, احمرَّتْ وجنتاه, اتسعتْ حدقتاه, ارتسمَ الغضبُ على مُحيَّاه, قبلَ أن يصرخ بوجهِ الرَّسام: أيُعقل ما فعلتَه يا هذا؟ تبَّاً لما صنعتْهُ يداك, ما هذا؟ إنَّهما لا يمتَّانِ لشاربيَّ بصلة, أمعنِ النَّظر.. أهذا أنا؟ شارباي صغيران, أمَّا في اللوحة, فالأمورُ تغيَّرت, وكأنَّهما شاربا (أبو عنتر), وهل طلبْتُ منكَ فعلَ ذلك أيُّها..

قاطعَهُ الرَّجل: هدِّئ من روعِك يا هذا, نحنُ الفنَّانين نتمتَّعُ بحسٍّ إبداعيٍّ عالٍ, ورأيْتُ بأنَّك ستبدو كذلكَ أكثرَ وقاراً, ثُمَّ..

عبَّاس: (بلا حس فنِّي.. بلا بطِّيخ), وهل رجوتُكَ أن تفعلَ بشاربي ما فعلتَهُ, لو أردْتُ ذلك, لقلْتُ لك, وهل سأخجل من حضرتك, آهٍ منك.. تكسَّرتْ أطرافي وأنا جالسٌ بحالٍ واحدة على كُرسيِّكَ المُهترئ كحالكَ أيُّها الهرم, كي تفعلَ بي ذلكَ في النِّهاية, أنا الأبله لأنَّني رضيْتُ أن أُرسَمَ على يدِ رجُلٍ أحمقٍ مثلك, كانَ باستطاعتي أن أجلبَ أعظمَ فناني البلد كي يرسموني, لكنِّي.. وماذا سأقول, وهل ينفعُ الكلامُ بعدَ كُلِّ ذلك؟

الرَّجل: لكن..

قاطعَهُ عبَّاس: لا أريدُ سماعَك, ولن تأخذَ منِّي ولو قرشاً واحداً, أمَّا اللوحة فباستطاعتِكَ أن (تنقعها وتشرب ميتها)..

الرَّجل: أرجوك يا سيِّدي, فقط ثمنُ الألوان التي سكبْتُها على اللوحة, ولا أريدُ شيئاً آخر.. استمرَّ الرَّسام يرجوه, بينما سارَ عبَّاس غيرَ آبهٍ بتوسُّلاتِ الرَّجل, وآهاتِه, وحسراتِه..

كانتْ صدمةً كبيرةً للرَّجُلِ الَّذي انتظرَ أجرةَ عملِه, لكنَّهُ لم يجنِ في النِّهايةِ إلا التوبيخَ والتأنيب..

مرَّتِ الأيَّامُ على حالها, إلى أن أتى يومٌ عادَ فيهِ عبَّاس ليمُرَّ بنفسِ الشَّارع, وما أن اقتربَ من المكانِ المشؤوم, حتَّى وقعتْ عيناهُ على تجمُّعٍ كبيرٍ من الأشخاص, والأصواتُ ترتفع وتـنـثـُـرُ تمتماتٍ لم يستطعْ عبَّاس إدراكَها بدايةً, حتى اقتربَ من الحشد, ولم يكُن غيرُه, الرَّجلُ الهرم نفسه, كرسيُّه المهترئ ذاته, وقد قامَ بعرضِ لوحاته على الجدار المتموضع على أحدِ جانبيِّ الشَّارع, تتباهى بغنجِها ودلالِها, أمَّا ذلكَ الصُّراخ, فكانَ لسببٍ واحد.. المُزاحمة على شراءِ اللوحة الأجمل من بين كُلِّ تلكَ اللوحات الأخرى, اندسَّ عبَّاس بينَ الجموع, اجتازَ الأول.. فالثَّاني.. فالثَّالث, فالَّذي يليه, واستطاعَ في النِّهايةِ التحققَ من الأمر, نعم.. إنَّها صورتي.. إنَّهما شارباي.. هذا أنا.. قالَ ذلك, والتفتَ يجولُ بنظرِهِ على الحاضرين..

كانت صورةُ عبَّاس قد جذبتِ الأنظار, وشدَّت المتفرِّجين, فوجئ عبَّاس لما يجري, قابلَتْ عيناهُ عينيَّ الرَّسامِ الذي بدا على بُعدِ خطواتٍ من خطفِ أضواءِ الشُّهرة بسببِ تلكَ اللوحة.. آه, سيكسبُ الشُّهرةَ بسببي أنا, لكن لا.. لن أسمحَ بذلك, قالَها في سرِّه, واستمرَّ بمزاحمةِ الحاضرين.. الأصواتُ تتعالى: مئة.. مئة وخمسةٌ وعشرونَ ألفاً.. وخمسونَ ألفاً.. اقتربَ عبَّاس من الرَّسام وهمسَ في أذنِه: سأعطيكَ النُّقودَ التي طلبْتَها منِّي حينَ رسمتني وينتهي الأمر, بل وسأعطيك الأربعمائة ليرة كلَّها.. هذهِ اللوحة من حقِّي..

أخفى الرَّجلُ ضحكةً عالية في صدرِه, وقالَ مُستهزئاً: وتتكلَّمُ برشدِك أيَّها العنجهي, أنسيْتَ ما فعلْتَهُ ذلكَ اليوم, أتحبُّ أنْ أذكِّرَكَ أيُّها..

عبَّاس: لا تذكِّرْني, ولا أذكِّرُك.. هذهِ صورتي, وهذا أنا مَنْ في اللوحة, أتستطيعُ إنكارَ ذلك؟!

الرَّسام: والشَّاربان, أهما لك..؟!

عبَّاس: آه..

الرَّسام: أرجوك ابتعد.. إنَّها لوحتي, وإذا استطعْتَ إثباتَ عكسَ ذلك, فافعلْ..

عبَّاس: سأعطيكَ ألفاً..

هذهِ المرَّة لم يستطعْ الرَّسام إلا أن يضحك, قائلاً: ألفٌ أيُّها الأبله, وتحسبُني مُغفَّلاً, ألا ترى كم يُدفعُ فيها مِن ثمن, أم أنَّكَ أصِبْتَ بالطَّرش؟! لم أفتتحِ المعرض إلا منذُ قليل وقد وصلَ المبلغُ إلى مئةٍ وخمسينَ ألفاً, ألا تسمَعُ بأذنِك؟!

وفي هذهِ اللحظة بالذات انطلقَ صوتٌ يقول:مئةٌ وخمسةٌ وسبعون..

الرَّسام: (كملت معك يا عبَّاس)..

عبَّاس: سأدفعُ لكَ مئةً وخمسةً وسبعين ألفاً, مقابلَ تنازلِكَ عنِ اللوحة..

الرَّسام: 250 ألفاً ولن أرضى بغيرِها..

عبَّاس: هيَ لك.. أخرجَ دفترَ الشِّيكات من جيبه ودوَّنَ المبلغ, وقَّعهُ وأعطاه للرَّجل..

وبدأ بعدَها عبَّاس يصيح: من يزيد؟ إنَّها من أفضلِ اللوحات, وأكثرِها فنيَّة, وتدفعونَ هذهِ المبالغ الضَّئيلة.. من سيزيد..؟

ازدادَ الحاضرونَ ومعظمُهم من السُّيَّاح حماساً, وانطلقتِ الأصوات: مئتان وخمسونَ ألفاً, مئتان وخمسٌ وسبعون, ثلاثمائة ألف..

زادَ عبَّاس من ضخِّ الزَّبائن بشحناتِ الترغيب, بينما أخذتِ المبالغ تزدادُ ارتفاعاً.. عندها تنطَّحَ عبَّاس وقال بعزيمة: وهناكَ ما هوَ أهم أيُّها الحاضرون الكرام, سأقولُها لكم.. إنَّها المُفاجئة أيُّها الذَّواقون للفن, ستدفعونَ ضعفَ هذهِ المبالغ عندما تعلمونَ أن..

كانتِ أصواتُ الزبائنِ ترتفع, والحماسة تسوِّرُ المكان عندما أكمل: إنَّ من في الصُّورة هو أنا..

استمرِّتِ الضَّجةُ لحظاتٍ قليلة, قبلَ أن يُخيَّمَ على المكان صمتٌ مُطبق, ارتسمتِ الدَّهشةُ على الوجوه, لحينِ ما كسرَ هذا الصَّمت صوتُ أحدِهم, وقد اقتربَ من عبَّاس: قُلْ أنَّك تمزح.. أيُعقلُ أنَّ من في الصُّورة هوَ نفسك أنت..!

عبَّاس: أقسِمُ لكَ أنَّهُ أنا..

الزَّبون: يا إلهي.. غير معقول, لكن شاربي الشَّخص المُجسَّمينِ في اللوحة مختلفانِ تماماً عن شاربيكَ الصَّغيرين..

ضحكَ عبَّاس: أوه.. هذهِ قصَّة طويلة, لا يهم, المهم أنَّ من في اللوحة هوَ أنا..

الزَّبون: وكيفَ لا يهم؟! خذلتني يا رجل, افترضْ أنَّني اقتنيْتُ هذهِ اللوحة, فكيفَ سأنظرُ إليها بعدَ اليوم, في كُلِّ لحظة سأنظرُ فيها إلى هذهِ اللوحة, سأتذكَّرُ أنَّ هذين الشَّاربين هما لرجلٍ مثلك, صغير الشَّاربين, لا يشبهانِ من في الصُّورة, لا من قريبٍ, ولا من بعيد.. لا.. لا.. لن أستطيعَ شراءَها..

عمَّ الصَّخبُ بينَ الجموع, وتعالتِ الأصوات: إنَّها مزوَّرة, مزيَّفة, هذانِ شاربان!! وما رُسِمَ في اللوحةِ شاربان؟! لا يُعقلُ ذلك..

انفضَّتْ الجموعُ ورحلَتْ رافضةً شراءَ اللوحة, بينما نظرَ عبَّاس إلى الرَّسام الذي كانَ يُمعِنُ النَّظرَ في الشِّيك, وقبلَ أن يذهب عبَّاس, صرخَ لهُ الرَّسام: إذا أردت, فلا مانعَ عندي من شرائِها منك, فأبقى أنا من رسمتُها, وأقدِّرُ الفنَّ أكثرَ منك.. سأدفع مائتين وخمسين..

عبَّاس: ألفاً..

الرَّسام: بل مائتين وخمسين ليرة..

عبَّاس: لكن..

الرَّجُل مُقاطِعاً: يبدو أنَّكَ لن توافق, وإذا ظنَنْتَ أنَّكَ ستستطيعُ بيعها فإنَّكَ واهم, قصَّتُكَ فُضِحَتْ, ثُمَّ أنَّ مرتادي هذهِ المعارض هُم.. هم في كُلِّ مكان, لا سبيلَ أمامَك سوى أن تحتفظَ بهذهِ اللوحة المشؤومة, إن استطعْتَ ذلك, أو بيعها لشخص يشفقُ عليك, ومن غيري أنا..؟ والتفتَ ذاهباً, لكنَّ عباس ناداهُ قائلاً: موافق.. أفضل من أن أمزِّقها, فلم أعدْ أطيْقُ النَّظرَ إليها, يكفي أنَّ أصابعَ رجلٍ انتهازيٍّ مثلِكَ هي من رسمتْها, خذها..

مدَّ الرَّسامُ السِّتيني يدَهُ إلى جيبه وأخرج 250 ليرة وأعطاها لعبَّاس المسكين, وما أن همَّ عبَّاسُ بالذهاب حتى سمعَ صوتاً يُناديه, اقتربَ منه أحدُهُم قائلاً: بصراحة, أنا لا يُهمُّني إن كُنْتَ أنتَ من في اللوحة أم لا, اللوحة أعجبتني وكفى, هل لي بها, وبالسِّعرِ الذي تُريد..؟

حدَّقَ عبَّاس بالزبون مذهُولاً, بينما أشارَ الرَّسامُ الهرم للزَّبون قائلاً: (لعندي حبيبي.. لعندي..)..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى