خوابي أبي حيدر.. ما أكثر الكتب، وما أقل الزبدة
توفيق أبو شومر
ما أكثر الكتب التي يُصدرها السياسيون والمثقفون، وقادة الرأي والفكر!! وما أقل الزبدة التي يمكن أن يحصل عليها القارئ بعد قراءته لكثيرٍ منها! ويعود سببُ ذلك إلى أن أكثر هؤلاء الكتاب يقومون بتفصيل كتبهم كبراويز لوجوههم، لدرجة أن هذه البراويز تطغى على الحقائق، فبدلا من أن يضعوا صورهم داخل البرواز الوطني الكبير، فإنهم يضعون الوطن بأسره داخل بروايزهم الشخصية، فيصبحُ التاريخُ برمته لونا من ألوان صورهم الشخصية!
لذا فإنني كثيرا ما أُنهي تصفحي لتلك الكتب من صفحاتها الأولى، وأعتقلها في مخزن كتبي جُثثا محنطة! غير أن كتابا أسرني، وجعلني أتصفحه حرفا حرفا، واعتقلني بين صفحاته ساعاتٍ، على الرغم من ضغط الحروف وحجم الصفحات الكبير!
هو كتاب تاريخ، وليس بتاريخ، وهو سيرة ذاتية، ولكنه لا يُصنَّف ضمن السيرة الذاتية ،وفق التصنيف الأدبي الأكاديمي، وهو أيضا كتابُ حزبي، ولكنه لم يضع الوطنَ كله في الحزب، بل وضع الحزب في تضاريس الوطن السياسية!
لقد أحسستُ بأن كاتب الكتاب يكتبُ سيرتي الشخصية، على الرغم من أنني لم أكن أنتمي إلى أي حزبٍ من الأحزاب، ولم أكن أعرف كاتبه معرفة شخصية، لأن كاتبه من جيل أساتذتي.
إنه كتاب [من فيض الذاكرة] للأخ عبد الرحمن عوض الله،وهو الكتاب الذي وضعَ له عنوانا فلسطينيا تراثيا ثانيا: “فتح الخوابي الضائعة”؛ الكتاب مسطور بحروف ملونه، مزيجٌ من السيرة الذاتية القصصية، ومزيج الأشعار العامية والفصيحة، وفيه أيضا وجباتُ دسمة من مراحل النضال الفلسطيني التي ظلت في (خوابي) الذاكرة لأنها تشكل خطرا على أعدائنا، فهي تبعث الحمية في نفوس الشباب، وتجعلهم يعتزون بتاريخ آبائهم النضالي، فهي تُخرج غزةّ من كونها منفىً صغيرا، وجسما إرهابيا، كما اعتاد الإعلام أن يسوقها ، إلى غزة المليئة بأريج النضال، وعبق الفكر والإصرار، فهي صغيرة المساحة الجغرافية، ولكنها كانت كبيرة بأفكار روادها، وحجم نضالها الكبير، كانت منتجة للأفكار والثقافات، وكان مدرسو مدارسها منتجو فكرٍ نضاليٍ، ليسوا موظفين، بل روادٌ وقادة فكر، وزعماء وطنيون أفذاذ، يقودون مسيرة المجتمع النضالية!
والكتاب يصف أيضا رحلة السجن والعذاب التي مارستها الأنظمةُ العربية في حق الوطنيين الفلسطينيين، لتثنيهم عن الثورة، أو تجعل ثوراتهم تمرُّ عبر القصبة الهوائية للأنظمة العربية يقول أبو حيدر: “أربع سنوات من العذاب،من شهر إبريل 1959 إلى إبريل 1963 أربع سنوات من المرض والحرمان والجوع والموت البطيء، كل يوم من هذه الأيام يعادل سنة بكاملها، فالمناضلون مصلوبون على هيكل عروسة، تنهال على أجسادهم الكرابيج ليلا نهارا”
إنه كتابٌ مميزٌ لا لأنه يسرد الوقائع والأحداث، ويحدد الأسماء الحقيقية، ولكن لأنه كتابٌ يعيد إلى مائدة شبابنا الفلسطينيين التاريخ النضالي لآبائهم وأجدادهم، ليدحض النظرية الإسرائيلية القائلة: الآباء يموتون، والأبناء ينسون!
كما أن مؤلف الكتاب لم ينسَ أن يربط بين الأحزاب والتيارات العربية والعالمية، فهو ليس سردا لمواقف الحزب الشيوعي الفلسطيني، ولكنه يربط بين هذا الحزب ونظيره المصري والعربي،كما أنه لم يُغفل على الإطلاق دور بقية الأحزاب والتيارات الوطنية الفلسطينية!