سيكولوجية الحاكم.. النفعية والوطنية والمنطق!
د. محمد السيد السّكي| استشاري تحاليل طبية وكاتب وروائي مصري
ترتكز دائماً معادلة التفاعل ما بين الحاكم والشعوب على مادتين للتفاعل لا ثالث لهما وهما (النفعية والوطنية) وطالما تواجدا وتفاعلا؛ وإن الناتج هو تقدم الشعوب.
ربما تكتنف فلسفتي تلك غنوصية ورمزية ولكن عند التمعن في طرفي معادلة الأوطان السعيدة وبمراعاة سيكولوجية المواطن والحاكم فإنه من السهل الوصول إلى ناصية منطق تتساقط أمطار أمله على كل أرضٍ محرومة حزينة.
كل إنسان يسعى إلي مصلحته كمبدأ وجودي نفسي والحاكم هو إنسان يحاول تحقيق منفعته وكما تصطدم منفعة الفرد مع الآخرين فإن منفعة الحاكم أيضاً تتصارع أحياناً مع الوطنية ونتيجة الصراع كمد يصيب صدر الوطن ويخنقه ويجعله يتخلف عن الأمم.
وعلى الدوام فإن إحداث التوازن الذي يضمن تحقيق المنفعة للجميع حاكماً ومحكوماً هو مبغى المجتمع الراشد، وعند النظر لجميع المجتمعات المتقدمة نجد تحقق هذا التوازن؛ حيث ذوبان مفهوم الانتفاع مع الوطنية تنتج عنه مخرجات النفعية الوطنية أوالوطنية النفعية.
إني أؤمن أنه لا يوجد حاكمٌ عميلٌ خائنٌ لأنه ببساطة حتى وإن كان نفعياً بحتاً وديكتاتورياً فإنه سيصبح الوطن له جزءاً من انتفاعه. فلو أن أي جاسوس أو عميل خائن أصبح حاكماً لوطن فإن استراتيجية انتفاعه ستتغير حتى وإن كانت مستندة على عقيدة والناتج وطن رخو هزيل؛ لا يقوى على الكلام ولكنه لن يكون سلوكه وتوجهه مثلما كان موظفاً برتبة جاسوس.
وعند النظر إلى التجربة المصرية الحديثة وتسلسل حكامها فإنني بتحليلي المتواضع أخلص إلي الآتي:
لقد كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر هو الشخص الوحيد الذي كان بمقدوره إحداث تحول ديمقراطي رشيد. لأنه كان يملك حضور الزعيم الملهم لسواد أعظم من الشعب؛ بل والمنطقة العربية. ولقد حاول -رحمه الله – أحداث نهضة ناصرية بالوطن إلا أنه تعثر في نفعيته المتمثلة في مجلس قيادة الثورة وبعض أصدقائه ونزواتهم وطغيانهم أحياناً ونفعيتهم مع علو صوت آمال زعامته المحمودة – في وجهة نظري – والنابعة ليست من آنانية وإنما من شهامة للأسف قد تمثل مناوأة طبقاً لمفهوم السياسة القذرة.
لا تنتظر من الحاكم أن يمنح الفرصة لأحد لكي يقتله وهو هنا يفعل ذلك كأي بشر يتوق للحياة. فإذا كان حال تجربة بلاده الديمقراطية الهشة ونفعيته المتزايدة سيتمخض عنه محاسبته وربما قتله فلا يجد مفراً أمامه سوي إرساء مبدأ استمراريته في الحكم. ولا أعني هنا بالنفعية كون الحاكم يريد الانتفاع الشخصي فقط وإنما يمتد المفهوم ليشمل حزبه ونظامه وقناعاته ومنطقه السياسي والاقتصادي.
يصطدم الحاكم مثلاً عندما يريد تطبيق منظومة عدالة اجتماعية في الأجور مع أجنحة كثيرة تمثل القوة الفعلية في البلاد وإذا أراد الانحياز إلي القطاع العريض من الشعب فإنه يصطدم مع سطوة رجال الأعمال ويسعى لإحداث التوازن بناء على نفعيته ووطنيته وسيكولوجيته وقد يجانبه منطق الحكم الرشيد.
تعلم الرئيس السادات – رحمه الله – من انتفاضة الخبز درساً لم ينعم بتطبيق ما تعلمه منه ولكن الرئيس مبارك- رحمه الله – هو من صار ذلك نصب عينيه؛ لقد حاول الرئيس السادات الخروج من عباءة ناصر القومي وما يستتبع زعامته من قرارات وحروب؛ رغم محاولة الرئيس مبارك الانحياز لمحدوي الدخل إلا أنه آفاق على توغل وفساد من يعتقد أنهم سنده وبزغت في الأفق صراعات نزاع النفعية والوطنية.
لقد أفاق الرئيس السيسي على شمس متغير جديد هو بمثابة تهديد لما نسميه النفعية والوطنية معاً وهو الثورة والحراك الشعبي وما يتبعها من دمار وهزات اقتصادية وتناحر وتهديد للسلم الاجتماعي فصارت من أولوياته التصدي لها هي وجماعات الإسلام السياسي الذي يلبس عباءة التدين للوصول للحكم|؛ فصارت تلك التحديات حجر عثرة في السياسات والقرارات الاقتصادية التي يجب تفهمها من خلال توازنات الوطنية و النفعية.
إن الحراك الشعبى والثورات – من وجهة نظري – و-خاصة مع الشعوب المأزومة اقتصادياً- تمثل كارثة بكل المقاييس. كما أن التغيرات الديمراقراطية الرشيدة غالباً لم تنتج من ثورة شعبية وإنما من حراك فردي أيدته نفعية الجموع (الوطنية).
إذن قبل نقد سياسة الحاكم لابد أن تتفهم سيكولوجيته وتعطي له حلاً مريحاً لأشكال نزاع النفعية والوطنية وكفى التشدق بما لو كنت أنت أحد أطرافه لكان لك رأي وفعل آخر وكما نقول “الكراسي بتغير” و” اللي إيده في المية مش زي اللي في النار”.
إنّ الحديث والإسهاب عن صراع النفعية والوطنية ومنطق التلاقي وتطبيق التصور على مجريات السياسة المصرية عبر عقود سيحتاج إلي عشرات المقالات.
كذلك الأطروحات التي تتيح إيجاد حلٍ لذلك الإشكال العميق والذي أحياناً يكون ميراثاً ثقيلاً يفرض نفعية جديدة وأولويات متباينة لابد أن تكون هي الطريقة التي يطرحها المفكرون وأرباب العمل السياسي والاقتصادي بشفافية بعيدة عن المصلحة الشخصية والرغبة في اعتلاء الكراسي.
لقد كان الرئيسان عبد الناصر والسادات -رحمهما الله- من مواليد برج الجدي وهو الذي يعطي مواليده مزيداً من التفرد بالرأي مع الحنكة السياسية والصبر والبطء في اتخاذ القرارت المصيرية..
فلنستفد من تجربة حكم ترامب لأمريكا وكيفية خروج المنطق الجمعي الأمريكي من حادثة اقتحام مبنى الكونجرس من قبل أنصار ترامب بتحريض منه؛ فوجود استراتيجية الخروج الأمن للحاكم حتى مع شططه تمثل أولوية مهمة لبناء صرح الأوطان التي تتعافى وتصحح أوضاعها بعيداً عن الخيال وعدم المنطق.
طبيعة مواليد برج الثور التي تلمع ترابيته في نفسية الرئيس مبارك -رحمه الله- كانت عائقاً في جعله محباً للتغيير. فمواليد الثور يمتازون بالعند والجلد وكراهية التغيير وعدم التأقلم بسرعة مع الأحداث الطارئة مما يجعلهم يخسرون الكثير.
فهذا الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وقدس الله سره- انمحت فيه أمواج النفعية الدنيوية وعلت فيه أنوار النفعية الأخروية فرأينا منطق وفلسفة عمر التي لم تتكرر من وجهة نظري.
ولنكن على يقين أن الله الذى يدبر الأمور ويعرف خفايا الصدور ويحس بأنين المحروم ورعشة جسد المظلوم لهو القادر على تحقيق مراده في خلقه وإن تدخل تدخلاً لطيفاً لا تستوعبه عقول البلهاء إلا أنه يتدخل بالتدخل الصارخ إذا شاء.
التجربة الصينية والروسية بالرغم من كونهما تستندان على عصا تضرب إيادي الديموقراطية الغربية إلا أنها استطاعت بذكاءٍ الوصول إلي متفاعلات من النفعية الوطنية اثمرت تقدماً وازدهاراً؛ فالتجارب الديمقراطية الغربية أخذت سنيناً وعقوداً لكي يتبلور عنها منطق يجد فيه الحاكم منفعته ولا تتصادم مع منفعة الشعوب.
إن صناعة الأمم لا تقوم على النوايا ولا تترك لمراقبة الضمير ولكن تقوم على المنطق وإيجاد الحلول التوافقية التي يستريح لها الجميع بعيداً عن الدعوة إلى التطرف وتخوين الاخر. فقد تكون أحيانا نفعية الحاكم هي بمثابة الحياة والموت له وعندها تطأ قدمه كل شبر في منطقك لا ظلماً وبغياً بمنطقه وإنما تمسكاً بالحياة.
فيا عزيزي المنتقد للأنظمة السياسية: قدم صيغة شيقة راشدة وارمها في ثوب الحاكم تحل له من خلالها ذلك الإشكال التصادمي وتقدم له عاملاً حفازاً يضمن الحصول على نواتج نقية لتفاعل منطق الأوطان حينها تكن فيلسوفاً لأمتك ووطنك؛ فحيثما تلاقت النفعية والوطنية، فثم الأمة المزدهرة والمنطق الرشيد.