أبقار ادوارد جينر المباركة!

د. محمد السيد السّكي | استشاري تحاليل طبية وكاتب وروائي مصري

مباركة تلك الحيوانات التي تحمل في سلوكها ومرضها وفزعها رسائلاً يهتدي بها أولو العقول والأبصار فيبسطوا بالحكمة رداء خيرٍ وشفاءٍ وتمدنٍ للإنسان.. مباركة تلك الأبقار التي عند حلبها أصيبت الآنسة سارة نيلمس بمرض جدري البقر (cowpox).
لقد عانت البشرية من ويلات مرض الجدري حيث مات متأثراً بأعراضه المميتة ملايين البشر ولقد شكل جاثوماً يجثو فوق الصدور فلا يجدِ معه استسلام ولا ثمة بريق أمل يزيحه لتتنفس البشرية الصعداء.
وها هو قلب الطبيب الشاب ادوارد جينر يتمزق حزناً على المصابين بالجدري فهم ليسوا في بريطانيا فقط؛ بل في جميع أنحاء العالم وتقيحاته على الجلد كان يفزع منها أقرب المقربين للمريض.
كانت سارة نيلمس تحلب اللبن من الأبقار ونتيجة لذلك أصيبت بعدوى من فيروس مرض جدري البقر (variola) الذي كان يتسبب في تقرحات على الجلد بسيطة بمقارنته بمرض جدري الإنسان. و كانت سارة تعرف جيداً الطبيب ادوارد جينر الذي لاحظ أن سارة المصابة بجدري البقر لم تصب بمرض الجدري.مما جعله يستنتج من ذلك بمنطق حسن الملاحظة أن هناك علاقة بين الذين يصابون بجدري البقر وعدم إصابتهم بجدري الإنسان.
فقام ادوارد جينر بأخذ عينة من تقيحات سارة المصابة بجدري البقر وقام بوضعها في جرح قام بعمله في ذراع الصغير جيمس فيبس البالغ من العمر ثماني سنوات مما أدى إلى ظهور حمى في الطفل. ولأن أعراض جدري البقر بسيطة فإن الطفل لم يحدث له شئ وبعد حوالي أربعين يوماً قام ادوارد جينر بأخذ صديد من تقيحات من مرض الجدري البشري وتم تطعيم جيمس بها فلم يصب جيمس بالجدري رغم تكرار التجربة عدة مرات.
ما أعظم ذلك الطفل وما أعظم أبويه.. فلقد قاموا بخدمة البشرية عندما ألهموا النابغة ادوارد جينر بفكرة اللقاحات وجعلوه يفطن إلى فكرة مقاومة الجسم للمرض عندما يحقن بالفيروس المسبب له بعد إضعافه.
وانتشرت تطعيمات جينر وتغلبت البشرية على داء قبيح؛ بل وصارت تلك الفكرة الأصل لصناعة اللقاحات التقليدية وصار على دربه فيما بعد لويس باستير وغيره.
ولم يكن الحس الفكاهي غائباً عن الأحداث وقتئذ إذ تجد أن هناك بعض اللوحات الفنية في تلك الفترة تعطي انطباعاً على انتشار الفكاهة والتي تصور بقراً يخرج من هؤلاء الذين تم تطعيمهم بجدري الأبقار. رغم أن تلك الأبقار هي التي كانت سبباً في إنقاذ البشرية من داء فتاك.
عجيب ذلك الإنسان الذي لا يعرف نعمة الصحة ولا يقدر الذين كانوا سبباً فى وصول الدواء إليه حتى وإن كانوا جمادأ أو نباتاً أو من الحيوانات. عظيمة التضحية والتي بها تكتب الحياة للملايين.
وتبقى رسائل الله في كل لحظة قريبة منك وحولك في كل مكان ليستلهم منها الإنسان ما يعينه على الحياة ويجعله إن أحسن قراءتها يتغلب على ما يهدد بقاءه ويسبب تلعثماً في تجربة الحياة..
كثيرة هي الرسائل من حولنا ولكن الأعمى هو الإنسان أو بالأحرى فلنقل إنه لم يحن وقت رؤية الرسالة!
لقد ولد العبقري ادوارد جينر عام ١٧٤٩ م وتوفي عام ١٨٢٣ م واضعاً اللمسات الجميلة لعلم المناعة.
قد يعزو البعض ذلك الاكتشاف إلى الصدفة التي أحسن جينر قراءتها وأحسن التفاعل معها؛ لكن ذلك لا ينفي تدخل الله الملهم الذي سخر الكون بما فيه من مخلوقات لمحبوبه الإنسان..
إن جهازك المناعي عند إصابته بفيروس فإنه يقوم بالتصدي له وتكوين أجسام مضادة تعمل على محاصرته وتحلله ولكن ذلك يتطلب امتلاك معلومات عن شكل وتركيب ذلك الفيروس. فإن تم إصابتك لأول مرة بفيروس معين فإن جسمك يعجز عن التعاطي الفعال معه مسبباً أعراضاً خطيرة وربما يؤدي إلى الوفاة. ولذا فإن فكرة التحصين واللقاحات هي وسيلة تمكن جهازك المناعي من التعرف على الفيروس دون أن يكون له أثر ممرض فعّال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى