آفة النقد المعنى.. دراسة لمعنى المعنى الفني

هشام مصطفى | شاعر وناقد مصري – سلطنة عُمان

إن السؤال الذي يجب أن نجيب عليه، وأن نجد له إجابة، أغاية الأدب اللغة أم غاية اللغة الأدب؟ قد يبدو السؤال ساذجا، والإجابة عليه بديهية، لا تحتاج إلى تفكير البتة، إلا أن المتأمل فيه، قد يجد صعوبة ما، كي يحاول تفكيكه، وبالتالي الإجابة عليه، إجابة مقنعة مؤسسة مبنية على أدلة قاطعة.
فالأدب هو لسان اللغة واللغة هي عقل الأدب، وكلاهما يهدفان إلى التوصل للآخر، إلا أن الأخيرة تفتح لنا بابا غاية في الأهمية، إذ إن لفظة التوصيل هي لفظة غائمة، تحتاج تحديدا، ما الذي نريد توصيله سواء أكان من اللغة أم أكان من الأدب، شعورا/ فكرا/ معنى؟، وهل هناك ثمة فرق بين الشعور والمعنى؟ أو بين الفكرة والمعنى؟ أو بين المعنى والمعنى؟ .
إن أسئلة كهذه قد تفتح لنا أبوابا لا تغلق، وحسبنا من هذا، أن نعرف مالذي نريده من المعنى كعامل مشترك بين ما أشرنا إليه سابقا؟ وما المقصود منه؟ وما علاقته بالأدب؟.
إذن فكل الأسئلة مشرّعة أبوابها، تحاول أن تجد لها إجابات مانعة قاطعة، تفيد أكثر ما تفتح آفاقا أخرى، لا أسئلة أخرى.
والمعنى كمصطلح يعتقد الكثيرون إدراكه من الوهلة الأولى، إلا أن ذلك الاعتقاد يسطح أكثر ما يجيب، ومتسرعا بامتياز، فالمعنى مثل الزمن كلاهما يصعبان تفسيرهما، تعريفا شاملا جامعا، يكشف ماهيتهما.
فالمعنى فلسفيا، هو الصورة الذهنية من حيث وضع بإزائها اللفظ، ويطلق على ما يقصد بالشيء أو على ما يدل عليه القول، أو الرمز، أو الإشارة، ومنه دلالة اللافتات المنصوبة في الطريق، ودلالة السكوت على الإقرار، ودلالة البكاء على الحزن (المعجم الفلسفي ـ جميل صليبا ـ ص 398 ).
وإجمالا هو المعنى المنشغل بالتعبير عن علاقة الإنسان بالمحيط، وهو إنتاج الإنسان لمعنى سلوك الأشياء حوله، ولمعنى سلوكه في التعامل بها، ومعها في آن واحد، وهو بذلك معنيا بالوظيفة أكثر من الفنية (علم المعنى ـ الذات/ التجربة/ القراءة ص 24) .
أمّا دلاليا فهو إيماء الرموز اللفظية ، وعلاقتها النحوية إلى الأشياء الموجودة في العالم الخارجي، أو الأفكار ووجدانيات مشتركة بين الناس جميعا (معجم مصطلحات الأدبـ مجدي وهبة ص 308 ).
وهى بذلك يشير إلى وعي للإنسان شكلي، يتم استثماره في اللغة، الأمر الذي يحول اللغة إلى خطاب تراعي قواعدها القياسية، وهي تعكس مدى تجليات الذات الإنسانية وقدرتها الاستعابية.
أمّا المعنى بلاغيا، فيبدو من خلال الوعي بإقامة علاقة ما بين الشكل والإيحاء، وذلك من خلال استثمار فاعلية اللفظ بما يضمره أو يوحي به للمتلقي ضمن سياق المجاز العام وهو ما ذهب إليه الجرجاني والقرطاجني.
فمعنى المعنى أو المعنى الثواني إنما مدادها الكناية والاستعارة والتشبيه (القرطاجني) فالمعنى الثواني عند القرطاجني إنتاج جديد يضفي فيه الوعي الإنساني على معطيات المعنى معنى آخر، فهي التي ليست من فنن الكلام، الغرض نفسه، ولكنها أمثلة لتلك، أو استدلالات عليها، أو غير ذلك، لا موجب لإيرادها في الكلام غير محاكاة المعاني الأول بها، أو ملاحظة وجه يجمع بينهما على بعض الهيئات التي تتلاقى عليها المعاني ويصار من بعضها إلى بعض (منهاج البلاغاء وسراج الأدباء ـ حازم القرطاجني ص 23) .
وبهذا يبدو واضحا الفرق بين فريقين من المتلقين للنص، فالأول يبحث عن المعنى، والثاني يفتش عن تفسير له ، فقد يكون المعنى غاية، ولكن يبقى إبداعه وشكله هو معناه الحقيقي والذي يجب أن نهتم به، وعليه يكون تفسيره هو في حقيقة الأمر عين محوه.
إلا أن ثمة تداخلات في الكثير من المصطلحات الخاصة بالمعنى، ما يستدعي حسم أو محاولة الحسم حتى يتم تأسيس القراءة، فثمة معنى تعليمي وآخر فنى وثالث تجريبي ورابعا تقليدي.
أولا: المعنى الفنيّ
فالمعنى الفني إذن هو الأداء الفني الخالص ذو المعطيات الجمالية الخالصة، ولا يكون المعنى الفني في العمل واحد إلا من جهة المبدع ، أمّا من جهة المتلقي فهو متعدد ، إذ إن للأداء الفني حرية تجدد معانيها وتتعدد كلما أضفى عليها المتلقون وعيا تاليا جديدا، وبهذا يكون المعنى محتفلا بحداثته ودهشته تضمن له الخلود وتضفي عليه عصرنته من عصرنة المتلقي ووعيه، ولهذا فالمعنى الفني يأخذ أبعاده من فنيته أو من جنس أدواته، وعليه فإن تناول المعنى أيدلوجيا يموت فنيا، وبهذا أيضا فالمعنى الفني لا يفسر وإنما يتم تحليل إلى وحدات فكرية على سبيل العرض للانطباع لا التحقق وكذلك على سبيل ما عكسه فينا من تداعيات فهو بعض فعل القراءة وبعض وعي التأمل ولا نفتش فيه عن المحتوى الخبري أو المضمون أو المغزى إلا على سبيل فاعلية التخييل (ص 30 ـ علم المعنى).
والخطأ الذي وقعت فيه الفلسفات المثالية من حيث إدراك المعنى من خلال البحث عن إثبات ذاته في طرائق الإبداع الفني هو في حقيقة الأمر جهل بطبيعة المعنى الفني، إذ إنها ترى فيه ترجمة للمألوف والمعروف، ولا يتضمن خلقا أو إبداعا جديدا حيث مراعاة الاستجابة العقلية للمقام وترتيب صور الحقائق المألوفة (علم المعنى ص 34 ).
ويبدو تأثير الفينومينولوجي وهوسرل التي أعادت للذات مكانتها حيث أصبح ينظر للذات على أنها مصدر كل المعاني وأصلها ما نجعلنا نفهم تعدد المعنى للموضوع الواحد فالمعنى بهذا خلقا إبداعيا متجددا يتعدى حدود المألوف والمنظور الحسي المباشر.
فالليل بالتأكيد واحد ولكنه يختلف بالنسبة لمن يتماهى معه فهو عند الشاعر دنيا من الألم وعند العابد سكون وتأمل للوصول للخالق وعند الرجل الواقعي وقت الراحلة وهكذا فالموضوع واحد ورؤيته تعدد بالنسبة لمتلقيه.
فالمتلقون يشيرون إلى ذات واحدة وتنعكس داخلهم بصور مختلفة تختلف بوعيهم وتماهيهم بها، فلو فهمنا من كلمة المعنى الشيء ذاته فإن الرؤى المختلفة لها نفس المعنى أما لو فهمنا المعنى على أنه كيفية الذات/ الموضوع لاختلف معنى الرؤى وصار من حقنا أن نقول بمعنى نثري وآخر شعري ( نظرية البنائية ـ صلاح فضل ص 378) .
وبناء عليه فالمعنى هنا لا ينصب على الليل في ذاته و إنما في علاقتنا به وفي فهمنا لتأثيره علينا وذلك ما يعطي العمق الإيحائي في طريقة التعبير عن المعنى والذي قد ينتج معنى جديدا أعمق كثيرا من المعنى الذي يدل عليه اللفظ، وبما أن المعنى يتماس مع الدفق الشعوي ويولد لحظة التحولات الجوانية لها فإن صيرورته وديمومته هو ما يمكن أن نسميه التجربة.
كذلك إن كان المعايشة للدفق الشعوري تجربة كاملة فإنه لا يمكن نقلها إلا بمقدار تماسنا معها من خلال تماس الذات المبدعة لها، وهذا بالضبط ما يجعل للعمل الفني معنا فنيا قائما بذاته وكيانا ماديا يتفاعل مع متلقيه وينتج معادلا له قد يشتابه أو يعلوه أو يقل عنه، وهذا ما يجعل قوة البنيان للتجربة والكيان المادي لها أو النص ذو طبيعتين، فهو خاص من حيث المصدر وعام من حيث المبنى والمعنى ومتعدد من حيث المتلقي.

ثانيا: الوعي بالموجودات
والمعنى الفني هنا يبدو ليس كما سبق ، من خلال تمظهره انطلاقا من ذات الإنسان، وانما يبدو من خلال إحساس الذات بالمفردات للوجود، أو اتصاله به، أو كونه هاجسا استوحي منها المعنى، أو وعيا واستشراقا منها ما يرى أنها يمكن أن تقوله ، أو إدراكا بتصور من خلال كينونتها حيث إنها تفصح عن معنى لها، وعليه (فإن هذا المجال يقع المعنى الفني في مستويين، الأول الوعي الوظيفي، والثاني الوعي الفني) ص 50 ــ 51 الذات التجربة القراءة .
والمعنى الوظيفي في هذا المقام يقوم على الحسية، بل الانغماس فيها، فالمعنى تخيلي، وبناء عليه يكون الفن أداء فني يحمل معنى ولهذا فالفن موجود معنوي متخيل، وهذا الذي حدا بمن يتصدرون هذا الاتجاه يبحثون دائما عن معطيات التجربة الفنية وحسيتها في وظائفها المباشرة، وهذا ما أدى إلى النزوع الوظيفي للفن، أو بعبارة أخرى الفن الهادف، ما دفعه للنظرة الأحادية، وصار بهذا فنا بوظيفته، فوضوح المعنى يعبر عن الخطاب المعبر عن الواقع.
فإن كان المعنى ثابت باقٍ فالواقع متغير، وهنا تكمن إشكالية النظرة الأحادية التي تتناسى النزوع للتغيير في الواقع المصدر للمعنى (لذا يصعب فهم المعنى لدى هؤلاء، ما جعل صعوبة العقل المتحكم لهذه الرؤية للمعنى في أن يفكر في أمر الخلق الأدبي تفكيرا مستقلا عن التأثير العقدي والحرص على الصدق بوصفه مطابقة العقل والحكمة والوحي) الصورة الأدبية ص 113 مصطفى ناصف .حديث في النقد 2 (من كتاب لعبة اللغة تحت الإعداد)
ثالثا: مستويات ووجوه المعنى الفني
النقد يسهم في إنتاج المعنى الفني؛ وذلك حينما يستثمر فاعلية اللغة ، وحينما تتحول إلى خطاب نقديٍّ (علم المعنى الذات .. التجربة .. القراءة 2008م )
فالشعر يميل إلى استخدام الصورة الشعرية كعمود فقري للنص الشعري وذلك لإنتاج المعنى الفني ، ويأتي ذلك بأن يجعل الصورة مسؤولة عن تصوير الصلة بالموجودات مقابل الذات أو الموجودات مقابل الموجودات الأخرى والصورة الشعرية تقوم بتنوع مفرداتها من تشبيه إلى استعارات ، إلا أن الاستعارة في في العصر الحديث أخذت المكانة الكبرى كأبرز لوسائل لإنتاج المعنى الفني بواسطة وعي الشكل الإنساني ويتصدر مشهد الاستعارة الاستعارة التجسيدية فإنها بجانب التشخيصية أبرز الوسائل في إنتاج المعني الفني ( السابق ص53)
وذلك في مستوى الوعي الفني بالموجودات حيث أن هذين الأسلوبين يكشفان امتداد الحضور الإنساني في الأشياء، أو بمعنى آخر أنسنة الأشياء والموجودات بواسطة التجسيد والتشخيص معا، فنرى المعنوي محسوسا بالتجسيم ونرى المحسوسات محسوسا آخر بالتشخيص ليكون الأقرب للتصور والفهم .
ويمكن إرجاع الدهشة للتجسيم في إبداع المعنى الفني حينما يقيم علاقة مبتدعة أو يكشف عن علاقة مخفية فيجعل المعنوي حسيا أو معنويا آخر بصورة لم تدرك قبلا لتتقمص شكلا موجودا حسيا آخر أو متخذا شكلا لم يعهده المتلقي يفجر طاقات التخييل، هذا ما يساعد المبدع كاتبا أو شاعرا في إبداع معنى فني إذ تتكلم المعنويات بلسان المحسوسات لتتسع الرؤية في قراءة الواقع، وليبعث ذلك المتلقي على تأويل الموجودات، وقبل ذلك على تأمل المعنويات في صورتها المتخيلة وفي صورتها الجديدة بعد أن اكتسبت حسا استثنائيا ( السابق ص54) .
وأما التشخيص فهو في حقيقة الأمر تصوير المحسوسات في صورة محسوسات أخرى ، أو بمعنى آخر قراءة محسوس معين بعين محسوس آخر من دون أن يتضمن تجسيدا لاختصاص التجسيد بالإنسان حتى يعكي الإيحاء ويأتي ذلك سعيا من المبدع بالإيحاء بالتكاملية بين الموجودات أو بمبدأ الدرامية للوجود وتفاعلية الحياة من خلال تفاعلية موجودتها وصلاتها المكتشفة ببعضها البعض للإحالة إلى الواقع الجديد أو رؤية الشاعر لجنته المفقودة، وكذلك يفعل التشبيه بين طرفين حسيين أو بين حسي ومعنوي أو بين معنويين وذلك بتناوب الموجودات الحسية كما نوه إليه الكثير من القدماء وأبرزهم القاضي وشيخ النقد عبد القاهر الجرجاني في كتابيه أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز .

رابعا: وعي الشكل الغائب (الأسطورة)
ويمكن أن نتطرق أولا لفهم مصطلح الأسطورة قبل الولوج إلى الوعي بها حتى نكون أكثر إدراكا لها فهي تعدّ جزءًا من التراث القديم الذي يعبّر عن نتاجات الأولين وأفكارهم وانعكاس تعليم القوى الربانية لهم، إذًا فالأسطورة هي القصة الشعرية المصفوفة زجلًا أو شعرًا، بحيث تَحوي موضوعًا دينيًّا يتعلّق بالقوى العلويّة والخفيّة، وتعبّر عن معارف الإنسان الأول وأخلاقه ومستويات علومه وتأملاته، وهي موضوعة في قالب ذي إيقاع شعري موسيقي يتضمن الحدث المراد تأريخه سواء كان من صنع الإنسان أو الطبيعة أو الربّ، لأجل أن يتلى ويُتداول ويؤدي دوره في تثقيف العقول وتحريك المشاعر. (الأسطورة توثيق حضاري ، مجموعة باحثين صفحة 21-26. بتصرّف.)
وهي كما يراها (جيرالد لارسون) حكاية أو مجموعة من الحكايات أو الروايات المنسوخة عن الآلهة أو القوى الغيبية والمتداولة بين الناس في العشيرة أو القبيلة أو الجماعة العرقية، كما أنها تفسر خلق الكون والإنسان ونشأة الموت والقرابين أو جماعيا تعرض تجاربها وعالمها فرديا أو جماعيا كما أنها تفسر خلق الكون والإنسان ونشأة الموت والقرابين وأعمال الأبطال (الأساطير وعلم الأجناس، قيس الثوري، ص10)
قد اختلف المفكرون والباحثون في الوصول إلى تحديد مفهوم ثابت وقار للأسطورة، فبعضهم يراها حكاية، وبعضهم يرى أنها مجموعة تصورات تتجاوز الفعل الموضوعي، وبشكل عام، فالأسطورة رغم تضارب الآراء هي مجموعة من الحكايات الطريفة المتوارثة منذ أقدم الفترات والعهود الإنسانية، تكون حافلة بمختلف أنواع الخوارق والمعجزات التي يختلط فيها الواقع بالخيال، ويمتزج عالم الظواهر بما فيه من إنسان وحيوان ونباتات ومظاهر كونية بعالم ما فوق الطبيعة من قوى غيبية آمن الإنسان الأول، واعتقد بألوهيتها فتعددت نظرة الآلهة مقتربة بتعدد مظاهرها المختلفة. (الأسطورة في الشعر العربي، أمن داود ، ص 19)
ويرى الدكتور ركان غركان أن الأسطورة شكل يصف من خلاله الإنسان كيفية إدراكه للأشياء وهو شكل غائب ولكن وعيه يتجدد بالاستعمال الفني (علم المعاني ص 57 )
فالبدائي في إنتاج المعنى أو إبداع المعنى الفني لا يختلف عن الحضاري المتطور وربما يكون البدائي أعمق لصدوره عن عمق روحي باعث على الإدهاش ولأن الأمر في الحالتين متعلق بكيفية لأداء وطريقته اللتين تشتغلان على جدلية التفاعل بين المادة في أوجهها الحسية وبين أشكال الوعي الإنساني في الإحاطة بغائب المادة ليكون حاصل ذلك التفاعل عملا فنيا معينا نسميه سحرا في حالة الإفادة المباشرة حسيا وتسميه عملا فنيا مدهشا في حال الإفادة المتخيلة التأمويلية التأملية ذات الواقع اروحي الخاص (علم المعاني ص 57)
فحين لا يدرك الإنسان خصائص المادة عقليا وإدراكا علميا وظيفيا يقوده إلى تسخيرها مباشرة لحاجاته فيلجأ إلى إسقاط خصائص المادة فهمه البدائي عليها فيكون السحر أو الأسطورة أو الخرافة بما يحقق له شكلا من الإدراك الوظيفي ، وأما إذا أدرك الخصائص للمادة ثم انتفع بها علميا بإدراكه العقلي الوظيفي فأنتج معناها المباشر في النفع؛ فسينظر ذات الإنسان إلى صورة إدراكه الأول على أنها بدائية وإلى صورة أدراكه الثاني على أنها متحضرة ، ولكن البعد الفني في إنتاج المعنى الصادر عن جدلية العلاقة بين المادة في شكلها الغائب هو ذاته مسافة إبداع المعنى الفني .
وتستخدم الأسطورة بثلاثة محاور فالأول أخلاقي إذ يفسر فيه الإنسان بعض مشكلاته الوجودية والثاني قراءة فنية فتكون ذات أبعاد دلالية تنسحب من الماضي الغائب إلى حاضر النص أو العمل الفني لتنفتح على المستقبل والثالث يأتي من خلال إبداع الأسطورة أو أسطرة الواقع فيجعل من المستقبل واقعا متخيلا حافلا بالرموز المنفتحة الدلالات ولعل هذا ما يجرنا إلى العروج على فهم الرمز والذي يراه الدكتور مصطفى سويف بأنه أفضل صيغة ممكنة للتعبير عن حقيقة مجهولة نسبيا ومن ثم أمكن أن يوصف الرمز بأنه وحي محمل بالمعنى ( الأسس الفنية للإبداع الفني في الشعر ص206) .
وتأخذ الأسطورة مكانة وحيزا مهما في النصوص الحداثية حيث أنها تبعث على تعدد إنتاج المعنى بحسب مناهجها أحيانا وإلى أن تجد هذا المعنى في الذاكرة للمتلقي ولا سيما إذا كانت هناك علاقة عضوية بين النص والرمز الأسطوري وأخرى تاريخية بين المتلقي والرمز وقبلها حضارة بين الفنان والرمز ويمكن إجمال هذه العلاقات في التخطيط التالي:
المتلقي تاريخية الأسطورة علاقة عضوية النص
علاقة حضارية الفنان
حتى صارت الأسطورة في النص الحداثي منهجا في إنتاج المعنى الفني بل جزء منه يضمر التجربة أو يستنبطها ثم يقدم لها في صياغة رمزية كانت بدائية وصفا لطريقة إدراك الأشياء ثم صارت صورة في التعبير وأداة للمعنى الفني وتحولت اليوم إلى طريقة من الطرائق في توليد الأفكار وتأشير الرموز ومن ثم في إنتاج معاني تتصف بالثراء والانفتاح (علم المعاني ص 59)
إذ الأسطورة لغة وقد يكون الرمز كلاما فيها والاستخدامات المتعدد لهما هو في حقيقة الأمر انزياحات لإمكانية توظيفها الفني بما يعطي معنى الأسطورة القديم معنى جديدا وجدلية العلاقة بين المعنيين قد يكون مرتكزا لإبداع معان جديدة أو متطورة ، فإذا كانت الأسطورة في بعض صفاتها خلقا فنيا ، فهي في بعض معانيها كشف فني أيضا بحيث يكون المعنى الصادر عنها شكلا من الأداء الاستعاري منفعلا بمعان مدهشة ( نظرية المعنى ص60 )

خامسا: في إنتاج المعنى الفني
إبداع المعنى يعني تجلي الذات وتبديلها إلى العلن في صورة إنجاز فني خالص، هذا أولا، وأما ثانيا فيعني فنية أساليب الأداء، أو طرائق التعبير التي لم تكن قصد المبدع، وإن كانت مضمرة في اللاوعي الإنساني فيه، ولذلك تكون من شأن القارئ الناقد كما تكون من شأن المقلد المبدع (علم المعاني ص 76)
وإشكالية فهم إنتاج المعنى الفني تمكن أنه متعدد الوجوه فهو في صورته الأولية في ذات المبدع فطرة أو موهبة وهو أيضا من خلال المنجز الفني أو النص حينما يقع تحت طائلة التحليل والقراءة تفاعل أو تجربة وبذلك يصبح معنى موصول بجوانية المبدع كامن فيه، لذا يراه النقاد من مقتنيات المبدع الروحية فإذا ارتدى الشكل والجنس الأدبي الذي ارتضاه المبدع صار الآخر معنيا به بوصفه شريك مبدعه في الوجود في هذه الحياة وليس شريكه في إنجازه الفني (علم المعاني ص 77) ويمكن فهم الجملة الأخيرة بأن المتلقي هو شريك في توليد المعنى الفني لا العمل الفني ذاته وبناء عليه يمكن أن نطور الفهم لجملة موت المؤلف عند تلقيه بمعنى حينئذ موت الإنتاج الأول للمعنى الفني.
ولهذا ينبغي علي المبدع أن يدرك أن حضور الآخر في منجزه الفني الإبداعي حضورا تأخذه الصدمة والجدلية إلى عالم فني جديد وإلى صور من الإدهاش الجزئي أو الكلي وإلى الممكن أو المستحيل من التخييل ما يعني بناء وعي جديد فكأنه يكتسب أبعادا معرفية جديدة، لذا فإن الحضور الذي على هذه الشاكلة هو عين الإضافة للآخر لا التأييد وبالتالي التجديد لا التقليد إذ المبدع الحقيقي يدهشه متلقية بمفاجأة الاختلاف لا تزيين المنجز وزخرفته فإن وضع أسماك المعنى في أنهار صافية يهددها بالانقراض كما يهدد الأحراش بالذبول لأهمية الطين في الخلق (علم المعاني ص 77)
ويمكن وصف العلاقة الجدالية لإنتاج المعنى في المجز إجمالا من خلال أضلاع مثلث المنجز ذاته (الذات/ المبدع/ التجربة) فما بين الذات والتجربة معنى أحاديّ بطبيعة الحال ضيق وما بين التجربة والمبدع جدلية المعنى المتعدد وما بين الذات والمبدع جدلية أصيلة تشكل مضمون التجربة أو عينها ما يعني أن حقيقة الجدلية هي قائمة على المواجهات التي هي أيضا البواعث والمكونات التي تعتبر أسس إنتاج المعنى الفني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى