قراءه في ديوان ” ما تبقى من صحف الوجد ” للشاعر سعيد الصقلاوي

د. ثابت الألوسي | ناقد وأكاديمي عراقي

كانت البؤره المركزيه التي تحكم اغلب قصائد دواوين الشاعر سعيد الصقلاوي الأربعة الأولى (ترنيمة الأمل)، و(أنت لي قدر)، و(أجنحة النهار)، و(نشيد الماء) هي الأمل و انتظار ما يأتي واختلف الأمر قليلا في ديوانه الخامس (وصايا قيد الأرض)؛ حيث يؤشر عنوان الديوان الجديد (ماتبقى من صحف الوجد) على بؤرة أخرى ومسار جديد مختلف، إنه مسعى للإمساك بتلك اللحظات الهاربة، واللهفات المؤجلة، والرؤى المتناثرة التي لم تأخذ مداها في ما كتب سابقا، ولا سيما في استحضار جانب من أجواء طفولته وماضيه، وبعض الرؤى ذات الطابع الديني والفلسفي:
(لا العيد يأتي
ولا الايام تمنعه
كل على فلك
الاقدار مصرعه ) ص٧
غير خاف أن هذه القصيده تتناص مع جانب من قصيده ابن زريق البغدادي التي يقول في مطلعها:
لا تعذليه فإن العذل يولعه

قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه

|||
وما مجاهدة الإنسان توصله

رزقا ولا دعت الانسان تقطعه

|||
والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه

إرثا ويمنعه من حيث يطمعه

وعلى الرغم من اختلاف في ظروف نظم القصيدتين غير أنهما تتفقان بتأكيدهما ضعف الإنسان، وضيق إمكاناته، وقله خياراته وسنجد قصائد أخرى في الديوان تشير إلى هذا الموقف ولاسيما في حديثه عن الإيمان و رساله الإسلام
(و أنت تشرب جذلان محبته حتى غدوت بحب الله محتشدا) ص ٦١

وقد يتصاعد إيمانه إلى درجه قريبه من التصوف
(قد تضمأ الروح شوقا في تقلبها
وتشرب الحب نور الله حيث سلك ) ص ٧٩
لاسيما أن أغلب الأديان أو كلها ومنها الدين الإسلامي لا تعطي الإنسان الخيار المطلق في اختيار مايحلم أو مايريد وإنما هو مخير في إطار التسيير، ومحكوم بأقدار السماء برغم حريته الجزئية

يرفض الشاعر التعصب مهما كان هذا التعصب دينيا أو طائفيا أو عنصريا داعيا إلى التسامح
(لك دين / ليَ دين
كلنا حر يشاء
ان دين الله حب وسلام واخاء) ص ٤٢

أما المحور الثاني الذي تدور حوله بعض قصائد الديوان فهو محور التأمل واستخلاص بعض الرؤى والمفاهيم من خلال خبرته واتساع تجاربه في مسيره عمره

(خيل الأساطير تجري في أعنتها
لها المدي ملعب
والناس في شغل ) ص ١٧٧
ويقول :
(تساوي الحي والميت
عظاما مالها صوت
وأفكارا بلا جسد
وروحا شلها الموت
ترى من منهما دمه
فراغ الوقت والصمت ) ص ١٦٥
هذه القصائد القصيره ذات الطابع التأملي هي الأكثر اكتنازاً وأثقل تجربة وكثيرا مايشيع فيها الغموض الشفاف المتأتي من عمق التجربة وامتداد دلالاتها
(الظل خلف الحزن مختبئ والحزن مرآة بها ظل ) ص ١٥٤

قد لا يمكن الإمساك بمعناها القريب وتحديد أبعادها غير أن إشعاعها وتوهج دلالاتها قادرة أن تضع المتلقي في دائرة الجاذبية وحدس المناخ المتخفي وراء الكلمات.

أما المحور الثالث فهو الذي يقوم على استذكار ماضي طفولته وصباه في مدينه (صور) الجميلة، و استحضار بعض جوانب شخصية والدته عبر منزع رومانسي مؤثر وربما جاء عنوان الديوان (ما تبقى من صحف الوجد) استرجاعا لذلك الزمن الجميل وتمثلا لما كان مؤجلا.. يخاطب والدته:
(أعيديني إلى صوتي)
(يناغي قلب حاراتي )
(لدرب طفولتي الأولى)
(وبستان البراءات ) ص ٢٠

يكرر لهفته وشوقه إلى ذلك الزمن الجميل موكدا أنه أضاع الكثير حين ضاعت أيام طفولته وصباه، وأن أحلامه وآماله التي كانت.. لم تصمد مع حركة الزمن أو تثبت في مسار الحياة

(أعيديني
لقد ضيعت بوصلتي ونظراتي
و قد سافرت في نفسي
و ما أمسكت أوقاتي
رأيت مواكب الأحلام
لا تجرى إلى الآتي ) ص ٢٣

محاولا استدعاء ذلك الزمن الجميل عبر مفردات ذات نكهة عمانية خاصة وكلمات قادرة بإشعاعها أن تستحضر تلك الأجواء (السنبوق)، و(الهوري)، و(هولو)، و(شوباني)، و(دندان)، و(رزحات)، و(الشاي الصوري)،و(الكمة)، و(الشعبانية)، و(الكانون)، و(الشيرش)، و(الفلج)، و(العازي).
وهو دائم الإشاده عبر الحديث عن وطنه بأخلاق وقيم أبناء بلده:

(سلام بلادي هوى الطيبين هوى الصالحين بهاء الوطن )ص ٣٣
مؤكدا صدقهم ونقاء تعاملهم وطيب أخلاقهم
(والصادقون هم الانقى وقد ورثوا حب الحقيقه والايمان طهرهم مستمسكين فلا زيغ ولا رفث) ص ١٢٢

أغلب قصائده هي امتداد لقصائده في دواوينه السابقة في مستوى البناء واتسامها بالعفويه والوضوح إلا القصائد القصيرة ذات الطابع التأملي التي تجنح إلى الغموض الشفاف، كما يغلب على قصائده سطوة الإيقاع بوصفه عنصرا مهما في تشكيل قصائده مستثمرا في الغالب البحور الصافية. وأيضا تشيع في بعض قصائده الطويلة: النثرية والتكرار والاقتراب المباشر من تفاصيل الواقع مما يجعل بعضها أقل توهجا. ويميل الصقلاوي أحيانا إلى الاشتقاق الجميل، من ذلك استخدامه مفردة (تبستن) من البستنة وما فيها من تداعيات الخضره والجمال
(لمجلس جدتي حبا
تبستن لي خيالاتي ) ص ١٦

وعلى الرغم من قرب قصائد الديوان من الواقع، فإن الشاعر ماهر في استخدام تقنيات التحويل الدلالي التي ترفع الكثير من نصوصه إلى منطقة الإدهاش ولاسيما الاستعارة والتضاد وبنية المجاورة.
(أيكسر كأس أيامي ويطفئ ضوء مرآتي) ص ١١
“عاد القطار محملا بالوعد لكن لم تعودي” ص ٣٦

وبعد فإن كل قصائد الشاعر سعيد الصقلاوي يتوفر فيها عنصر الصدق الواقعى والفني وهو لا يكتب قصيدة أو موضوعا إلا وهو صادق فيه عادّاً نفسه حارساً لتاريخ أمته معتزاً بإنجازات بلده بعيدا عن قشور الحداثه والتغريب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى