أحوال الناس قبيل الانفجار.. ” كامب ديفيد 2 ” و بدء العد التنازلي

سري سمّور | فلسطين
في المقالين السابقين استعرضت أحوال الفصائل والقوى الرئيسة والسلطة والمعارضة عشية الانفجار، فماذا عن المجتمع وعامة الناس عمومًا؟

إن حال المجتمع من حال الفصائل والعكس صحيح في مختلف المراحل، فالفصائل من المجتمع أولاً وأخيرًا، ولكن يمكن العودة إلى المقالات التي تستعرض أحوال الناس في مرحلة ما بعد أوسلو، والتي سلطت فيها الضوء على بعض الجوانب في حياة الناس والتي كان يمكن ملاحظتها بإلقاء نظرة سريعة أو فاحصة على الأحوال الاجتماعية، والتي استمر معظمها حتى وقوع الانفجار، وبعضها استمر أثناء الانفجار وحتى الآن.

أما عشية الانفجار فإن الناس كانوا قد وصلوا إلى مرحلة من فقدان الأمل بالتغيير، بل إن بعضهم يئس من إمكانية الخروج من الحالة القائمة التي تشهد تأزمًا سياسيًّا واقتصاديًّا ونفسيًّا.

وأتذكر تقريرًا نشره موقع “إسلام أون لاين” (وهو من أوائل المواقع العربية الكبيرة والشاملة على شبكة الإنترنت) بعنوان “الشيشة تنتشر في المخيمات الفلسطينية” استعرض فيه ظاهرة ازدياد تدخين الشيشة (الأرجيلة أو النارجيلة) في المخيمات الفلسطينية، وتحلّق مجموعة من الشبان في بعض مخيمات اللاجئين الفلسطينية حول الشيشة في أجواء صيفية ليلاً وهم يعلقون بسخرية، أو كوميديا سوداء، “دخّن عليها تنجلي”، وعزا التقرير الظاهرة إلى حالة الإحباط من الأوضاع السياسية عامة وازدياد الضغوط الاقتصادية ومتطلبات الحياة والعيش.

والتقرير المذكور ربما أغفل أو ترك الأمر للقارئ بالحديث عن المخيمات؛ فمعلوم أن المخيمات خزّان الثورات والانتفاضات والهبّات ضد الاحتلال الصهيوني منذ تأسيسها، وهي تتصدر بالعدد والنسبة في مجموع الشهداء والأسرى والجرحى والمناضلين المتجددين والقادة من ساسة وميدانيين حتى الآن.

والظاهرة المذكورة لو نظرنا إليها بعمق لوجدنا أنها تعبير عن مرحلة ما قبل العاصفة، فالشيشة أو ما شابه لن تجد فيها جموع الناس، خاصة الشباب منهم، في المخيمات وغيرها أجوبة الأسئلة المصيرية الحادة التي يخلقها واقع سياسي مأزوم.

ولكن التقرير فعلاً يقول بين السطور بأن حالة (البطالة النضالية) التي تحدثت عنها سابقًا، ربما تتجلى في المخيمات أكثر من غيرها من التجمعات السكانية.

وكان الناس عمومًا غير راضين عن نهج السلطة وأطروحة المعارضة، لأنهم لا يجدون فيهما جوابًا شافيًّا أو حلاًّ مقنعا للخروج من عنق الزجاجة، فلا أسلوب التفاوض قاد إلى وضع “خذ وطالب” وسأتحدث لاحقًا عن هذه الجزئية، ولا مناداة المعارضة المتمثلة خاصة بحركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي بالمقاومة تقنع الناس، لأنها انحسرت في أسلوب العمليات الاستشهادية خاصة؛ ومع أن الناس عامة يفرحون بالعمليات ويعلون من شأن المنفذين والمهندسين ولكن هذا الأسلوب ليس له الطابع الشعبي الذي دأبوا على ممارسته سنوات، كما أن الانتقام الإسرائيلي من العمليات وسلاح الحصار والإغلاق الذي يمس أرزاقهم جعلهم في حالة تردد أو حتى رفض الاستمرار بهذا الأسلوب.

ولم تكن حالة الغضب والرغبة في الثأر والانتقام وقتها ناضجة وكافية لتحوّل هذا الأسلوب إلى ما يشبه (رقم1) في الأساليب النضالية مثلما سيحصل في الأعوام اللاحقة.

وانشغلت فئات من المجتمع بالتنافس في المظاهر (التشاوف) المختلفة كالبناء واقتناء السيارات، وتنظيم حفلات أعراس مميزة. وحتى الحصول على شهادات أكاديمية صار له طابع تفاخر وتنافس واستعراض، ولو رجعت إلى أرشيف الزوايا الاجتماعية في الصحف الورقية لوجدت هذا واضحًا.

وزهد الناس في متابعة الأخبار والتطورات السياسية، أو لنقل قلّ شغفهم بهذا الأمر الذي اعتادوه سنوات، اللهم إلا حين يقع حدث كبير، ولكنهم ظلوا على تواصل أو اطلاع إجمالي على الأحداث نظرًا لازدياد اقتناء الصحون اللاقطة، ومتابعتهم لقناة الجزيرة خاصة، أو لمحطات تلفزة محلية تنقل عنها، وقد تحدثت عن هذه الظاهرة سابقًا.

ولم يعد المجتمع بنفس درجة التسييس التي سادت خلال انتفاضة الحجارة؛ فوقتها كان كل فرد ذكر عمره بين (15-50) يصنف منتميًا أو مناصرًا لفصيل، لدرجة المبالغة، وكان من النادر أن يقال عن شخص أنه بلا انتماء تنظيمي. في المرحلة التي نعالجها صار هناك نوع من النفور من التسييس، وحتى بعض المسييسين ابتعدوا نفسيًّا أو فيزيائيًّا عن حواضنهم التنظيمية، وانشغلوا بشؤونهم الخاصة.

كامب ديفيد الثانية والاستعداد للانفجار

رفض إيهود باراك تطبيق ما وقع عليه سلفه نتنياهو في واي ريفر، والذي نص على ضم 13% من مساحة الضفة الغربية إلى المناطق المصنفة (أ) أو (ب). وضمن الاستعداد لشن عدوان على الشعب الفلسطيني أحاط نفسه بفريق عسكري أمني، وهنا لا بد من تدخل الراعي الأمريكي المنحاز تمامًا إلى الكيان الصهيوني.

فدعا الرئيس الأمريكي بيل كلينتون كلاً من الرئيس عرفات وإيهود باراك إلى عقد لقاء قمة برعايته في منتجع كامب ديفيد، ذلك أن باراك أصر على أن يكون هناك اتفاق شامل ينهي الصراع برمته، ولا يخلو الأمر من طموح شخصي راود الرئيس الأمريكي بيل كلينتون آنذاك، بالحصول على جائزة نوبل للسلام، نظرًا لأن جيمي كارتر (وهو مثله من الحزب الديموقراطي) جمع بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس وزراء الكيان مناحيم بيغن في ذات المكان وتم التوصل لاتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في 1978.

وبالتأكيد ثمة فرق شاسع بين الحالتين المصرية والفلسطينية؛ فمصر دولة مستقلة خاضت حروبًا مع الكيان وصراعها معه -على الأقل وفق اعتقاد قادتها- صراع على الحدود لا على الوجود، فيما الشعب الفلسطيني يخوض منذ أكثر من قرن صراعًا مع المشروع الصهيوني، الذي له سردية تتناقض مع سردية الوجود الفلسطيني وكينونته، وهو ليس صراع حدود بل وجود، وفيه أمور من المحال الاتفاق عليها حتى لو استمرت المفاوضات مئة سنة وليس أقل من أسبوعين.

وما تزال كواليس وخفايا وظروف تلك المفاوضات مجهولة نوعًا ما، وما رشح عنها هو جزئيات متناثرة تحيط بعضها علامات استفهام، ولكن يقال بأن الرئيس عرفات لم يكن متحمسًا لتلبية الدعوة نظرًا لأن الأمور ستكون خالية من المناورة والتكتيك، ولا مجال إلى سياسة (لعم) التي اعتمدها الرجل وسيلة للسير في حقل ألغام السياسة الإقليمية والدولية.

فقضايا مثل القدس واللاجئين لا تقبل الحلول الوسط، ولكن تحت الضغط الأمريكي ذهب عرفات إلى كامب ديفيد، والمؤكد أنه تعرض لضغط كبير مزدوج حمل نبرة تهديد من باراك وكلينتون (المنحاز بل المتوافق مع باراك) واستمرت القمة من 11-25 تموز/يوليو 2000 أي بعد أقل من شهرين على اندحار العدو من جنوبي لبنان، ولهذا الظرف والتوقيت رمزيته.

وبدأ الإعلام الصهيوني، وتبعه الإعلام العربي، ببث أجواء تفاؤل وجعل الناس أو بعضهم في حالة جري وراء السراب، باستحضار المقارنة بين كامب ديفيد الأولى والثانية، لدرجة الحديث عن جلوس عرفات على أريكة جلس عليها السادات، وجلوس باراك على مقعد جلس عليه بيغن، وغير ذلك من الخزعبلات، أو الشكليات التي تبعد المتابع عن جوهر المفاوضات وعن كونها حول قضايا مصيرية ليس فقط من الناحية السياسية بل العقدية والدينية، بغض النظر عن مكان عقد القمة وتفصيلاته التي بالغ إعلامهم في الحديث عنها.

ومن المؤكد أن النظام العربي الرسمي، لم يدعم عرفات، مع مزاعم حسني مبارك أنه في مكالمة هاتفية مع عرفات وكلينتون قال بأنه لا يمكن لأي زعيم عربي التنازل عن القدس، بعدما أخبره عرفات أنهم يضغطون عليه كي يقدم تنازلات تخص القدس والمسجد الأقصى، وإجمالاً فإن هذا موقف (صوتي حنجوري)، فقد تُرك عرفات وحده يواجه مصيره دون تحرك عربي ولو كان سياسيًّا وإعلاميًّا.

كانت نتيجة كامب ديفيد التي قامت على قاعدة وضعها باراك هي الفشل؛ والقاعدة هي (لا اتفاق على أي شيء إلا بالاتفاق على كل شيء) وهذا يعني ضمنًا نهاية المفاوضات قبل أن تبدأ.

وتسربت بعض الأخبار من داخل المنتجع، ولكن تلك التسريبات تظل محل شك كونها من مصادر إسرائيلية وغربية، لتنتهي المفاوضات بمؤتمر صحفي يشيد فيه كلينتون بباراك، وينتقد ضمنًا عرفات.

وهنا بدأ العد التنازلي للانفجار والتحضير لعملية “حقل الأشواك” الصهيونية. واستقبل “الختيار” بعد عودته من كامب ديفيد استقبالاً شعبيًّا تحت عنوان “الانتصار في معركة التمسك بالثوابت الوطنية الفلسطينية”.

ولكن كان الظن، بل اعتقاد عند بعض المستويات، أن الانفجار سيكون تلقائيًّا فور انفضاض قمة كامب ديفيد2 وليس بعد أكثر من شهرين، لدرجة أنه فور عودة الوفود أعلنت حالة الطوارئ وألغيت الإجازات للعاملين في الطواقم الطبية والإسعافات الأولية وغيرها، ولكن لم تقع أحداث إلا عند لحظة الانفجار بعد شهرين. وللحديث بقية إن شاء الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى