السيرة الغيرية في (رواية الأنهار): لعبد الرحمن مجيد الربيعي

أ. د. مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي


ظلت عملية سرد الوقائع لا تبدأ إلا بعد تصوير الإطار الذي تتم فيه هذه الوقائع شائعة, ولزمن طويل في القصص التقليدي, أي وصف المكان, وتحديد موقعه, ووصف الزمان,وتحديده, والتجديد الذي عرفته الكتابة الروائية, وقد جعل منها كما يقول ريكاردو مغامرة الكتابة أكثر مما هي كتابة مغامرة- جعل أيضا من مغامرات الأشياء الموصوفة مغامرات وصف، لذا فان وصف الأمكنة, والأشخاص,والأشياء, لايقل أهمية عن سرد الأحداث والأفعال, وتختلف حاجة الروائي, وهو يصف الخلفيات الخاصة لشخصياته, وأحداثه إذ قد يحتاج في بعض الأحيان إلى وصف خلفية موسعة, أو يركز في أحيان أخرى على جزئيات صغيرة,و هذا كله يستلزم معرفة الروائي لبيئته التي يصفها حتى يحقق أهدافه من هذا الوصف في عمله فالإحساس بالمكان لدى الروائي الكبير عبد الرحمن مجيد الربيعي ,في تعبيره عنه يفترض أن يجعل القارئ يحس بالانطباع, والنكهة, والأصوات ,والجو المألوف الخاص به,وان يستطيع مراقبة الشخصية في عملها, وفي حياتها وان يرى ما تراه الشخصية في عملها,وفي حياتها, وأن يرى ما تراه الشخصية من وجهة نظرها ,وان يحس ما تحس به تجاه هذا المكان, والمكان يعني بدء تدوين التاريخ الإنساني,والمكان يعني الارتباط الجذري بفعل الكينونة لأداء الطقوس اليومية للعيش, للوجود, لفهم الحقائق الصغيرة,لبناء الروح للتراكيب المعقدة, والخفية لصياغة المشروع الإنساني, كانت الرحلة إلى بغداد في الستينيات موغلة بالتعقيد, والخطر السياسي المحدق بمجموعة من الفنانين العراقيين الذين تم تعذيبهم ,واعتقالهم, استطاع الروائي المبدع والكبير عبد الرحمن مجيد الربيعي تصوير معاناتهم في روايته الرائعة (الأنهار) حاول أن يروي سيرتهم الغيرية, وركز على الشخصية الرئيسة ( إسماعيل ألعماري) , فنراه يقول :- ولكن قل لي ماذا يعمل إسماعيل ألعماري؟ – انه رسام في إحدى مجلات المقاومة , ووضعه محرج كما قلت لك حتى داخل المنظمة. لو لم أبدل حياتي بالزواج لكان الانتحار خاتمة حياتي كيف استطيع مواجهة السخرية في وجوه أصحابي في بغداد؟ وقد حاولت الانتحار فعلا بقطع شريان في رسغي ولكني أنقذت بأعجوبة, والسيرة التي يرويها الروائي عبارة عن أجناس أدبية صغرى متفرعة من جنس أدبي كبير هو السيرة, مثل التجربة الذاتية أو الترجمة, والسيرة الذاتية, والذكريات,والمذكرات,واليوميات,والاعترافات, وغيرها الكثير من المصطلحات التي تشترك بكونها سردا لحياة شخص يرويها هو بنفسه- وربما يتبرع له آخر بروايتها نيابة عنه كما في السيرة الغيرية- معتمدا على ذاكرته في استرجاع أحداث وموضوعات ماضية, وعلى الرغم من جهود النقاد والعلماء للفصل بين هذه المصطلحات فصلا علميا دقيقا, إلا أننا ما زلنا بإزاء غموض والتباس في تحديد ملامح المصطلحات أنفة الذكر, هذا ما اخبرنا به الصديق عبد الكريم السعيدي, ومما زاد الأمر تعقيدا مسالة التداخل الاجناسي التي هي من صميم النقد الأدبي الحديث, وفي رواية (الأنهار) نجد أنفسنا أمام مدة زمنية قصيرة, وحدث مختزل جدا إلى أقصى حد, والذي يكون منطلق لمجموعة من التداعيات, والذكريات المتعلقة بحياة البطل لمدة أشهر قليلة، وكذلك علاقاته الأسرية, والاجتماعية, والنفسية, وكذا موقفه من الحياة, والناس والسلطة، غير أن هذه المدة الزمنية القصيرة تطرح هي الأخرى بدورها زمنا أطول على مستوى الخطاب الروائي الذي يخضع لمجموع النصوص الأحداث الجزئية المكونة للرواية ككـل ، بحيـث يبـدو لنـا البناء الزمني للرواية السيرة الغيرية عنصرا معقدا,و شريانا حقيقيا من شرايينها, فنراه يقول :- انه وطنك أنت .لا وطني أنا. إنني اليوم إنسان آخر حتى اسمي استبدلته , فاتركوني. – أنت تهول الأمور كثيرا. وتتحدث عن أشياء لا وجود لها -لا هذا منطق من يعيش في أمان غبي بيت وزوجة وأصدقاء ومرتب وجهك مورد وتبدو كإقطاعي يدخل المدينة لذا تدافع عن امتيازاتك. – ولكنك كنت تملك هذه الأشياء جميعها؟ وصرخ: – نعم.. ولكنهم اعتقلوني- أتريد أن يصنعوا لك تمثالا ويضعوه في احد شوارع بغداد ؟ تمتلك الكتابة السيرية سحرا خاصا يجعلها تنفرد بين أنواع السرود الأخرى بامتلاكها خاصيتي الذاتي ,والموضوعي بكفين متوازتين, الذاتي حين تتطابق هوية الروائي الربيعي مع السارد, والموضوعي حين تفترق أنا الروائي الربيعي, وتحتجب خلفه الشخصية وتستتر بظلها لتبرز هوية السارد واضحة الشخصية, والهوية الأولى الذاتية هي التي تميز السيرة الذاتية, والسير بنحو عام, والمذكرات, عن الرواية طبقا لتقسيم تودوروف وتصنيفه.

ورواية السيرة الغيرية فن أدبي يتكفّل فيه الراوي برواية أحداث شخصيات الرواية، ويجري التركيز فيها على المجال الذي تتميّز فيه شخصياته الحيوية، كأن يكون المجال الفني ,أو الاجتماعي ,أو السياسي ,أو العسكري ,كلّما كان ذلك ضرورياً وممكناً، ويسعى في ذلك لانتخاب حلقات معيّنة مركّزة من سيرة هذه الحياة، وحشدها بأسلوبية خاصّة تضمن له صناعة نص سردي متكامل ذي مضمون مقنع ومثير ومسلٍّ، ويحاول الراوي الإفادة من كلّ الآليات السردية لتطوير نصّه, ودعمه ما أمكن بأفضل الشروط الفنيّة، على ألاَّ تخلّ بالطابع العام حتى لا يخرج النص إلى فن سردي آخر، ولا يُشْتَرَطُ على الراوي الاعتماد على الضمير الأوّل المتكلّم، بل قد يتقنّع بضمائر أخرى تخفّف من حدّة الضمير المتكلّم وانحيازه، بشرط أن يعرف المتلقي ذلك لكي لا تتحوّل إلى سيرة ذاتية، بحيث يظلّ الميثاق التعاقدي بين الروائي, والمتلقي قائماً,وواضحاً، كما ترتكز رواية السير الذاتي على آلية السرد ألاسترجاعي التي تقوم بتفعيل عمل الذاكرة ,وشحنها بطاقةِ استنهاض حرّة ,وساخنة للعمل في حقل السيرة الغيرية, فنراه يقول: عندما دخل إسماعيل ألعماري كليته طالعه صلاح كامل وهو ينتصب وسط الساحة كرمز لحادثة مبهمة وحث خطواته باتجاهه فاحتضنه صلاح وشد على يده مهنئا بخطوبته وابتزغت بسمة الرضى في وجه إسماعيل وهو يشكره, ثم همس له بصداقة: – أتمنى لك السعادة من كل قلبي, ونلحظ ثمة اقترابا في نص ما بعد الحداثة من نمط الكتابة السيرية, تجانسا مع الألفة الاجناسية المتحققة فيه , التي تندغم فيها الكثير من الخطوط النوعية إلى الحد الذي صارت فيه قضية نقاء النوع أسطورة كلاسيكية بالية أو قناعا متهرئا لا يصلح نقابا للنصوص الحداثية المشعة ببريق الحداثة المتنوع, والمضاد لكل مألوف ومسكون, وتتجلى عند الكتًاب المتنوعي الإبداع الذين تتخلق إبداعاتهم في دوائر فنية مختلفة كالشعر والرواية, والرسم, والترجمة,والكتابة السيرية, إشكالية الألفة الاجناسية فهي قائمة لديهم طريقة لافتة للنظر, وبذلك نلمح تشاكلا غريبا في القوانين التي تحكم أساليب الفن لديهم وتؤلف بينها, كما تتهجن أساليب الحياة خالقة مسارها العجيب الواحد المتنوع، ونصوص الحياة لا تماثل نصوص الكتابة, وتأبى أن تنخرط ضمن تراتبية المقولات الاجناسية, ولابد لها من الدخول في عمليتي التقطيع ,والمونتاج الفنيتين ليعيد الفن أنتاج الحياة ,فينفلت النص عن عالم الروائي, ومهما كان نص التأليف غرائبيا فنجد ثمة مسافة, تقترب أو تبتعد من الحياة, تفصل بين نص المؤلف ونص الحياة, ليضع المؤلف حدا فاصلا بين ما يروي وما حدث, بين من يروي عنهم وبين ذواتهم, ويتخفى الراوي وراء صنوف الحكايات والأخبار المتنوعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى